رغم إخفاق مهرجان أبو ظبي في استقطاب نجوم عالميين الى سجادته الحمراء والاكتفاء بنجوم عرب من أهل البيت... ورغم انزعاج المدعوين من انتقال الافتتاح من صالة مكيّفة، كما جرت العادة في الدورات السابقة، الى مسرح في الهواء الطلق من دون الاخذ في الاعتبار حرارة الطقس التي لا يمكن ان تخففها مراوح صغيرة، وُزعت على الضيوف... ورغم تأخر البرنامج الاحتفالي عن موعده وتسرب شعور بالانزعاج في نفوس اولئك القابعين على مقاعدهم في انتظار بدء استعراض سرعان ما خيّب آمالهم... رغم هذا كله، نجحت حفلة الافتتاح، ولو من دون قصد، في رسم صورة وافية لما سينتظر المدعوين خلال ايام المهرجان التسعة: قفز وركض بين صالات السينما ومقر المهرجان على إيقاع حركات لاعبي الأكروبات الذين ملأوا المسرح ضجيجاً في انطلاق عيد السينما في ابو ظبي. ولا شك في ان انتقال مقرّ المهرجان من «قصر الإمارات» الفخم القريب من مجمع الصالات السينمائية الى فندق «فيرمونت باب البحر» الذي يبعد عنها مسافة كبيرة، لم يكن موفقاً البتة، ما أحدث تململاً في صفوف المدعوين، الى درجة ان رئيس المركز القومي للسينما في مصر خالد عبدالجليل، لم يتردد في التعليق ممازحاً: «هنا لا بدّ من ان تختار: إما تشاهد أفلاماً، وإما تتابع الفعاليات، وإما تأكل. أما ان تفعل الثلاثة معاً، فمن شبه المستحيلات». في اروقة المهرجان الذي يعدّ الأغنى في العالم العربي، همس بأن هناك تقليصاً في الموازنة. وإذ تسأل عن السبب، تتفاوت الإجابات غير الرسمية. فبينما يؤكد بعضهم أن هذا واقع حال كل مهرجانات العالم، ينفي آخرون اي كلام من هذا النوع، ويعزون، مثلاً، انتقال مقر المهرجان، الى إجراءات لوجستية، تتناسب وطبيعة عروض الهواء الطلق، «خصوصاً ان المكان الجديد هو الوحيد المهيأ لمثل هذه العروض». ولكن ماذا عن افتقاد السجادة الحمراء الى نجوم عالميين؟ هنا لا إجابة واضحة... حتى ان جواباً «مقنعاً» مثل ان مهرجان ابو ظبي بات ينحاز للسينما اكثر من انحيازه للنجوم، لم يخرج من فم المدير الفني للمهرجان بيتر سكارليت الذي حين سُئل قبل الافتتاح عن اسماء نجوم السجادة الحمراء، تحفّظ عن الجواب خوفاً من «اعتذارات اللحظة الأخيرة». وواضح ان الاعتذارات جاءت بالجملة إلا إذا حملت حفلة الختام اليوم مفاجأة ما... وفي مقابل هذه الاعتذارات، لا بد من الاعتراف بأن الدورة الخامسة من المهرحان استطاعت ان تستقطب أبرز الانتاجات السينمائية. ولا شك في ان البرمجة العربية لم تترك للمهرجانات الاخرى اي مجال للمنافسة. فمهرجان ابو ظبي بجوائزه الكبيرة والكثيرة، وبإعادة توزيع هذه الجوائز لتشمل رابحين اكثر وأكثر، بات محط جذب صانعي الأفلام في العالم العربي. ولا عجب في ان نسمع، مثلاً، ان المخرج الفلاني، وبعدما حصل لفيلمه على دعم من مهرجان دبي، اختار ان يعرضه في ابو ظبي... او ان موزع فيلم آخر، ضرب عرض الحائط اتفاقات مخرج الفيلم ومهرجان الدوحة ليعرض الشريط في ابو ظبي، خصوصاً ان ثمة جائزة استُحدثت للتوزيع. طبعاً كلها اساليب مشروعة للمنافسة، وإن لم تعجب مبرمجي المهرجانات العربية الأخرى. فالمهم النتيجة. والنتيجة هنا لمصلحة السينما، خصوصاً ان اساليب جديدة ستُستحدث في المستقبل القريب ان ارادت هذه المهرجانات الحفاظ على الاستمرارية. عالم العصابات هل سيأتي ربيع السينما العربية من المغرب؟ سؤال طرحناه بعد حفلة الافتتاح، وسرعان ما اجابت عنه أيام مهرجان ابو ظبي التي حفلت ببرنامج مغربي غني، الى درجة يكاد المشاهد يظن انه في مهرجان للفيلم القومي في المغرب، لا في مهرجان عربي. وإذا كانت السينما الروائية المغربية تميزت من حيث الكمّ في هذه الدورة (خمسة أفلام من اصل 9 عربية توزعت بين مسابقة الأفلام الروائية ومسابقة «آفاق جديدة»)، فإنها لم تكن أقل تميزاً من حيث النوع، ما يجب ان يُحيّى عليه المبرمجون الذين لم يلتفتوا الى ضرورات التوزيع الجغرافي العقيم، بل الى أهمية الأفلام وقدرتها على إثارة الإعجاب. واللافت ان الأفلام الخمسة، وان كانت تعبّر في غالبيتها عن همّ مشترك للفرد المغربي في رحلة بحثه الدائم عن خيط للنجاة من واقع يجذبه الى أسفل ويمنعه من السير قدماً، فإن كل واحد منها اختار اسلوباً لا يشبه في شيء الأفلام الأخرى. وهكذا نجد ثلاثة أفلام مغربية تتنافس في ما بينها عن فئة الأفلام الروائية الطويلة، هي «رجال احرار» لاسماعيل فروخي، «على الحافة» لليلى كيلاني، و «موت للبيع» لفوزي بن سعيدي. بينما يتنافس فيلمان عن فئة «آفاق جديدة»، هما «النهاية» لهشام لعسري، و «أياد خشنة» لمحمد العسلي. وكلها أفلام تعبّر عن واقع المغرب اليوم، وإن برؤى مختلفة. ولا يبتعد فيلم اسماعيل فروخي عن هذا الخط. فهو وعلى رغم اختياره باريس مسرحاً لأحداثه، وعام 1939 زمناً للقصة، لم يكن في منأى من سطوة الحاضر. وليس نبشه في جانب مخفيّ من تاريخ الحرب العالمية الثانية، يوم وقف شيخ جامع باريس الكبير الى جانب اليهود المغاربة وحماهم من الاعتقال والتعذيب على أيدي النازيين، إلا تعزيزاً لهذا الحاضر. «رجال احرار» فيلم كبير يقدم تحية لرجال المغرب الأحرار الذين ناضلوا من اجل حرية فرنسا وحريتهم، قبل ان يطويهم النسيان ويخذلهم الواقع. الواقع أيضاً وأيضاً لا يترك بطلات ليلى الكيلاني في فيلم «على الحافة» يعشن مراهقتهنّ. حياة الفقر والعوز تقودهن من الدارالبيضاء الى طنجة حيث يشكلن عصابة نشل مؤلفة من اربع فتيات. لكنّ قراراً من هذا النوع، لا يشبه ألعاب الأطفال، وهكذا سرعان ما تصبح الحياة والاحلام على حافة السقوط. ولا يختلف السقوط في طنجة عنه في تطوان حيث تدور احداث فيلم فوزي بن سعيدي «موت للبيع». هنا، في مواجهة الفتيات الأربع، نتابع رحلة ثلاثة شبان عاطلين من العمل في عالم الليل والجريمة والمخدرات، من دون ان ينسى بن سعيدي المرور على الحركات السلفية وغسلها دماغ الشباب. عالم العصابات لا يغيب أيضاً عن فيلم «النهاية» لهشام لعسري الذي قسّم الحضور بين معجب بلغته السينمائية البعيدة من التقليدية ومنتقد لأسلوبه الغريب عما اعتدناه في السينما العربية. «النهاية» هي نهاية عهد الحسن الثاني وبداية مرحلة جديدة حررت المواطن من أغلال ظلت حول أعناقه سنوات. الأغلال نفسها تكبل بطلة فيلم محمد العسلي «أياد خشنة». حلم الذهاب الى اسبانيا يطاردها، والسير وراء رغبات خطيبها ترهقها، اما الثمن فتحويل يديها الناعمتين الى يدين خشنتين تتلاءمان وشروط الاسبان الذين يقصدون الدارالبيضاء بحثاً عن فلاحات للعمل في حقولهم. لكنّ الحيلة لا تنطوي عليهم، والمعلمة الشابة سرعان ما تنفضح، لتعود من حيث أتت خالية الوفاض. الفائز الأكبر باختصار، عرفت السينما المغربية كيف تعبّر في هذه الأفلام عن بيئتها والمشاكل التي تواجه شبان المغرب. ولا شك في انها ستكون الرابح الاكبر في هذه الدورة، والأوفر حظاً لنيل الجوائز العربية... وإذا كان المغرب مرتاحاً في مسابقة الأفلام الروائية، بما ان فيلماً عربياً واحداً ينافسها، هو «ديما براندو» لرضا الباهي، فإن ثلاثة أفلام عربية من بلدان اخرى تشارك في مسابقة «آفاق جديدة» الى جانب الفيلمين المغربيين، أبرزها الفيلم المصري «أسماء» لعمرو سلامة الذي اختار الحديث عن منطقة شائكة، من خلال قصة امرأة مصابة بنقص المناعة المكتسب (أدت دورها بجدارة الممثلة التونسية هند صبري)، تعيش في رعب من المجتمع قبل ان تتحرر بكسر جدار الخوف والمطالبة بحقوقها علناً على هواء برنامج تلفزيوني امام ملايين المشاهدين. وهناك أيضاً فيلم «ظل البحر» للمخرج الإماراتي نواف الجناحي الذي يدور حول قصص المراهقة والحب والتقاليد، وفيلم «هذا المكان الضيق» للمخرج اللبناني سوني قديح الذي يدور في نفق معتم بعد ان يقرر بطل الفيلم «حسن» الدخول الى الولاياتالمتحدة خلسة للانتقام من اسرائيل. أياً يكن الأمر، وفي انتظار حفلة الختام هذا المساء، لا بد من الاعتراف بأن مهرجان أبو ظبي عرف كيف يجذب الجمهور في الإمارات الى برنامجه الغني بأفلام من كل حدب وصوب. وكم كان لافتاً حجم الحشود الواقفة في الطوابير لدخول صالات السينما، خصوصاً في عطلة نهاية الأسبوع والعروض المسائية. ولا شك في ان المهرجان كسب رهان الجمهور، ولا تزال امامه في السنوات المقبلة فرصة لتحقيق معادلة تجمع بين السينما الجميلة والطابع الاحتفالي، إن أراد ان يسرق كل الأضواء من المهرجانات الخليجية.