انطلقت فكرة القتل من الفعل الآدمي، وفي القرآن الكريم ذكر لنشأة الفكرة، بل أمر بتحويلها إلى نبأ يُتلى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، والآيات واضحة في تجريم القتل: (مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ)، (فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وهذا هو ما يهم ذكره هنا وليس أنواع القتل وأحكامه الفقهية. فإذا انطلقت فكرة القتل في حال من التجريم والتحريم، وكان هذا هو الأصل فيه فإن حالات القتل المبررة شرعاً تصبح حال استثناء، وهذا ما تم تأكيده في الشريعة الإسلامية. كما قال صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، رواه البخاري ومسلم. بل إن الإسلام يجعل القتل ما عدا الاستثناء المذكور موبقاً ومهلكاً، ففي الحديث الآخر عنه عليه الصلاة والسلام (اجتنبوا السبع الموبقات، قيل يا رسول الله وما هن؟ قال الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق...)، رواه البخاري ومسلم. وقد جاءت هذا النصوص لتحد من ثقافة القتل واعتباره الطريق للاستعلاء والمقياس للشجاعة اعتداءً أو أخذاً بالثأر. وحتى حينما يكون القتل بحق فقد تلطفت النصوص لصاحب الدم ووليه لأن لا يتجاوز الحق كما في القرآن: (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا). وإذا كان هذا هو منشأ الفكرة وتشريعاتها فذلك لأن البقاء والعصمة الآدمية محترمة ومعتبرة، ومن هنا ننطلق في الكلام لواقع اختلف واختلف جداً، حيث في حالتنا المعاصرة أصبح القتل مادة أساسية من حديث الناس وأخبار وسائل الإعلام، ومشاهدات الصورة، قتلا فردياً وجماعياً، لا يستثني طفلاً بريئاً أو أماً حاملاً أو مرضعة، قتل للمحاربين والمسالمين على حدٍ سواء، لا تخلو نشرة أخبار من مشاهد مؤلمة هي أبلغ من كل كلمة، وأقسى من كل عبارة. ولم تكن تلك الأخبار والمشاهدات لتذهب عابرة دون أن تترك لدى سامعها ومشاهدها أثراً سالباً وخطيراً للغاية، تمثل هذا الخطر في الاعتياد على القتل، فتشربته النفوس، وتبرمجت عليه العقول، فلم يعد بتلك البشاعة والشناعة، سيما عند الناشئة. ثم لم يتوقف على مستوى التصورات والأذان والذاكرة، بل تحول إلى فعل سلوكي يمارسه الإنسان - الشاب - من دون أي استشعار لقبح الجريمة وآثارها، ممارسة لأدني شجار ونزاع، أو لأجل امتعاض من موقف أو نظام.. لقد بتنا نسمع وبتكاثر ملحوظ إقدام طالب على قتل زميله أو أستاذه، أو الاعتداء بالقتل على خصمه أمام العدالة! أو على قاضي العدالة نفسه! وأخبار أخرى عن الاغتصاب وهتك الأعراض تحت التهديد بالقتل، ولعل من آخر الأخبار الاعتداء على سيارة رصد سرعة المركبات، وقتل النفس البريئة التي كانت تعمل بداخلها، وهكذا أحداث ووقائع تتسارع وتتكاثر، وللسجون ووقائع التحقيق لغة رقمية خطيرة. إن ثقافة القتل السهل نشأت عند العقل المعاصر لأسباب منها: - المشاهدات التي ترتسم من خلال الإعلام الذي يؤدي رسالته في نقل الحقيقة، فلا تكاد نشرة أخبار مسموعة أو مصورة إلا وتبدأ أخبارها بأنباء القتل، حتى لقد رصدت في أحد القنوات الشهيرة خلال الأسبوع الماضي أن أخبارها الستة الأولى كانت عن القتل وجرائم القتلة! - الضغوط التي يتعرض لها إنسان العصر، ضغوط في معيشته ورزقه، وضغوط في أمنه وعرضه، وضغوط في تفكيره تعبيره. وتلك ضغوط تفقد الإنسان رشده وتحرف بوصلته. - ضعف الوازع الديني، وغياب الوعي الإنساني. وقد عمدت إلى تأخير هذا السبب، لأن وجود الوازع الديني، يجب أن تتوفر معه احترام الكرامة الإنسانية، وتساوي العدالة، وأداء الحقوق، حتى يعيش الناس في دين الله إخواناً: «المسلم أخو المسلم». وما لم يكن هناك اهتمام بمعالجة فكرة القتل السهل، فإن الشر يغري بالشر. وهي دعوة للمعنيين والمهتمين. سدد الله الخطى وبارك في الجهود. [email protected] twitter | @alduhaim