لا تزال عمليات الاندماج والاستحواذ ما بين الشركات العالمية محصورة في خبر من هنا أو هناك، من دون أن تتكون صورة شاملة وواضحة عن أحجام هذه العمليات وأسبابها وانعكاساتها. وتنقل وسائل الإعلام أخباراً عن صفقات كبرى، مثل شراء شركة «إكسون موبيل» العملاقة عام 2009 في مقابل 41 بليون دولار لشركة «إكس تي أو للطاقة» الأميركية المتخصصة باكتشاف الغاز غير التقليدي (الغاز الصخري) وإنتاجه. لكن هذه الصفقة ما هي إلا مثال على مئات غيرها يتّفَق عليها سنوياً وبلغت قيمتها الإجمالية 2.3 تريليون دولار عام 2009. والمدهش في صفقة «إكسون موبيل» هو الثمن المدفوع من أجل شراء شركة أميركية متخصصة بإنتاج الغاز الحجري. وبادرت «المؤسسة العربية للاستثمارات البترولية» (إبيكورب) إلى دراسة هذه الظاهرة ومعانيها وآثارها، خصوصاً في ما يتعلق بصناعة النفط العالمية عموماً والعربية خصوصاً. فماذا تعني عمليات الاندماج والاستحواذ بالنسبة إلى صناعات النفط والغاز التقليدية، وما هي انعكاساتها على صناعة البترول العربية؟ تؤكد دراسة «إبيكورب» أولاً أن عمليات الاستحواذ والاندماج عالمياً تحصل لأسباب مختلفة. فهي من ناحية، تساعد الشركات على النمو في مجال تخصصها من خلال الاستثمار في البنية التحتية والطاقة الإنتاجية وتوسيع إطار عملها بدخول صناعات مشابهة أو مكملة لما تقوم به أساساً. ويختلف السبب الرئيس لهذه العمليات من شركة إلى أخرى ومن صفقة إلى أخرى، فتحاول بعض الشركات زيادة حصتها في الأسواق التي تعمل فيها، أو دخول أسواق جديدة لم تطرقها سابقاً. وتزيد شركات أخرى حجمها في الأسواق من خلال شراء شركات، بينما ترغب بعض الشركات من خلال هذه العمليات في الحصول مباشرة على تقنية جديدة، مثل ما تقوم به في شكل واسع حالياً الشركات الهندية والصينية إذ تشتري شركات صغيرة تعمل في مجال الإنتاج من النفط والغاز الحجري في شمال أميركا. لكن ما هو حجم عمليات الاندماج والاستحواذ العالمية للشركات؟ تشير دراسة «إبيكورب» إلى أنها بلغت نحو 2.9 تريليون دولار في 2005 ونحو 4.6 تريليون دولار في 2007 ونحو 2.3 تريليون دولار في 2009. وتزيد هذه العمليات أو تنقص بحسب صحة الاقتصاد المحلي أو الدولي. وشكّل نجاح الشركات الصغيرة في استكشاف النفط والغاز الحجري وإنتاجهما في أميركا الشمالية حافزاً مهماً للشركات البترولية الكبرى في الاستحواذ على الشركات الصغيرة التي حققت نجاحات باهرة في هذا المجال الجديد من الصناعة البترولية. لكن عمليات الاستحواذ هذه طرحت سؤالين مهمين: أولاً: هل تعني هذه الاستحواذات التي تمت أخيراً تحولاً أساسياً في الصناعة البترولية، ونهجاً تبتعد فيه عن الصناعة البترولية التقليدية؟ معروف أن موجة الاستحواذات الأخيرة على شركات عاملة في قطاع الغاز الصخري، ليست الأولى من نوعها في الصناعة البترولية، فتقرير مؤسسة «إبيكورب» يورد أن الصناعة النفطية كانت مرت بمرحلة استحواذات سابقاً حين اشترِيت شركات نفطية كبرى من قبل شركات عملاقة أخرى، مثل شراء «إكسون» ل «موبيل» عام 1999، وشراء «توتال» ل «بتروفينا» و «إلف» في 1999، وشراء «بي بي» ل «أموكو» في 2000، وشراء «شيفرون» ل «تكساكو» في 2001، وشراء «كونوكو» ل «فيليبس» في 2002، وشراء «شيفرون» ل «يونيكال» في 2005. وتعددت الأسباب وراء عمليات الاستحواذ ما بين الشركات النفطية العملاقة، ومنها حصول المديرين التنفيذيين في الشركات المشتراة على مكافآت مالية ضخمة. وكان ثمة اعتقاد بأن عمليات الاستحواذ ستقوي مركز الشركات الشارية، من خلال توسيع احتياطاتها البترولية، لكن ازدياد الاحتياط البترولي لهذه الشركات لم يساعد كثيراً في تقوية موقعها التنافسي مع الشركات الأخرى. وبهذا الصدد، يشير تقرير «إبيكورب» إلى أن مقدار تحسن موقف الشركات التي تستحوذ على شركات الغاز الصخري غير واضح بعد. ومع أن الغاز الصخري شكل نحو ربع إمدادات الغاز الطبيعي في الولاياتالمتحدة خلال العقد الماضي. يبقى السؤال الأساسي: هل صناعة الغاز الصخري تنافس فعلاً صناعة الغاز الطبيعي؟ يشير الخبراء إلى أن كلفة استخراج الغاز الصخري تضخمت، فتكاليف هذه الصناعة تستطيع بالكاد أن تنافس تكاليف صناعة الغاز الطبيعي، خصوصاً إذا استمرت أسعار الغاز في الولاياتالمتحدة تتراوح عند معدلاتها الحالية. لماذا إذاً كل هذا الاهتمام بالغاز الصخري؟ السبب أنه يتضمن تقنية جديدة لاكتشاف الغاز، وتأمينه محلياً، من دون الحاجة إلى استيراده، ما يؤمّن أموالاً ضخمة للدول المعنية ويساهم في برامج «أمن الطاقة». وهو متوافر في بلدان عديدة. ثانياً: هل يعني هذا الاهتمام بالمجال البترولي الحديث الكف عن الاهتمام بصناعة البترول في الشرق الأوسط؟ تشير دراسة «إبيكورب» إلى أن صناعة النفط في الدول المصدرة للبترول تقودها وتملكها شركات النفط الوطنية، وهذه الشركات، بحكم تكوينها وملكيتها، لا ترحب باستملاك حصصها في حقول النفط والغاز من قبل شركات خاصة، سواء كانت أجنبية أم محلية، فالذي يحصل أن الشركات الوطنية تشارك الشركات الدولية في العمليات اللاحقة للإنتاج، مثل المصافي المحلية أو الخارجية، وفي مختلف أوجه صناعة الغاز المسال، وفي الصناعات البتروكيماوية، كما تمنح امتيازات لشركات عالمية للاستكشاف والإنتاج في أراضيها، ما يعني أن الاهتمام كبير ومستمر في هذه الصناعة، لوفرة الاحتياطات البترولية والتكاليف الأدنى لاستخراج النفط والغاز منها، مقارنة بدول أخرى أو بمناطق بحرية عميقة. وتستنج دراسة «إبيكورب» بالنسبة لعمليات الاندماج والاستحواذ في الصناعة النفطية العالمية، أن هناك، أولاً، فرصاً قليلة متوافرة للشركات النفطية العالمية للاستحواذ على شركات نفطية في الدول ذات التكاليف الأقل، فيما تبقى، ثانياً عمليات الاندماج والاستحواذ في الدول النفطية العربية محدودة بسبب طبيعة الصناعة النفطية فيها وهيكليتها، فالاحتياط البترولي مملوك من قبل الدولة من خلال شركات النفط الوطنية. * مستشار في نشرة «ميس» النفطية