قُتل معمر القذافي وأجمعَ الليبيون على كرهه في الممات كما في الحياة، ورحل ولي العهد السعودي الأمير سلطان بن عبدالعزيز وأجمعَ السعوديون على محبته راحلاً كما أحبوه في حياته. واليوم يوافق ذكرى مرور أسبوع على رحيله. كنت ذهبت الى الديوان الملكي مع الزميلين غسان شربل ورجا الراسي لتقديم العزاء لإخوان الأمير الراحل وأبنائه. ووجدت نفسي عند مدخل الصالة الملكية وسط حشد هائل من علّية القوم يتدافعون للدخول حتى انني انفصلت عن زميليّ الرحلة. وفي النهاية وضعني أمير شاب أمامه وسرت وراء عميد في الحرس الملكي ودخلنا الصالة معاً. عواطف الشعوب لا تُباع أو تُشترى، وإنما هي مرآة الحكم، والسعوديون شكروا الأمير سلطان على حياة نذرها لخدمة الوطن والمواطن، كما ان الليبيين أجمعوا على إدانة القذافي وعهده. ولعل دمعة الملك عبدالله بن عبدالعزيز على أخيه مثّلت دموع أبناء الشعب جميعاً. وجدت الأمير سلمان بن عبدالعزيز بادي الحزن والإرهاق، ومثله الأمير خالد بن سلطان وشقيقه الأمير فهد والإخوان كلهم، وأيضاً الأمراء خالد الفيصل وسعود الفيصل وتركي الفيصل. وكان بين المعزّين عشرات من رؤساء الدول والحكومة والوزراء من حول العالم. ومن لبنان رأيت الأخ سعد الحريري، رئيس الوزراء السابق، والصديق الوزير غازي العريضي، والصديق النائب تمام صائب سلام. لن أعود اليوم الى تاريخ الأمير سلطان في العمل، فالسعوديون يعرفونه أكثر مني، لذلك سَمّوه «سلطان الخير»، فكان أمير الرياض وعمره 16 سنة ورعى المؤسسة التي تحمل اسمه وعشرات المؤسسات المماثلة، وبنى القوات المسلحة السعودية، وعقد اتفاق حدود تاريخياً مع اليمن وُصف بأنه «اتفاق القرن»، ورحل بعد ستة عقود في عضوية مجلس الوزراء السعودي من دون انقطاع. حديثي مع الأمير سلطان كان يقتصر تقريباً على السياسة الخارجية السعودية والعلاقات العربية والدولية، ويوشّيه بعض الشعر القديم والحِكَم والأمثال. ورأيته يحمل لواء القضية الفلسطينية، والى درجة أن يغفر لقائدها ياسر عرفات بعض تجاوزاته وهفواته. ورأيته ينتصر للكويت بعد الاحتلال ويعود الى الرياض قبل أن يُكمل فترة النقاهة من عملية جراحية... وعندما قلت له في مكتبه، والاحتلال في أسبوعه الأول، إنني خائف على مستقبل الكويت وأن الشيخ صباح الأحمد الصباح من أعز الناس عليّ وبما يتجاوز أنه وزير الخارجية (في حينه) وضع يده على كتفي وقال إن الكويت ستحرر، والشيخ صباح سيعود. وكانت أول جلسة لي في الكويت بعد التحرير مع الشيخ صباح في بيته، وأذكر انه كان استقال من وزارة الخارجية، ليعود بعد ذلك أميراً للكويت. أكتب اليوم بعض الذكريات الخاصة عن الأمير سلطان، وكعادتي في الحديث عن زعيم راحل لا أكتب إلا ما أحتفظ عنه بتسجيل أو نصٍ مكتوب في حينه، أو شهود أحياء. وأختار أن أشارك القراء في قصة عندي عليها شاهد عدل جداً هو الصديق الأمير محمد بن نواف، السفير السعودي في لندن. قام الأمير سلطان بزيارة رسمية الى إيطاليا في أيلول (سبتمبر) 1997، وكنت رئيس تحرير «الحياة» فانتقلت الى روما من لندن لمتابعة الزيارة ومرافقة الأمير. وأذكر أنني وجدت نفسي في العشاء الرسمي الذي أقامه رئيس الوزراء رومانو برودي تكريماً لوزير الدفاع السعودي الى جانب قائد سلاح الطيران الايطالي، وصدره مليء بالأوسمة التي لا بد أن تعود الى الامبراطورية الرومانية لأن الطليان لم ينتصروا في حرب أو معركة منذ ألفي سنة. وشكا الجنرال الايطالي من أن الطائرة المقاتلة الأوروبية الجديدة من إنتاج دول أوروبية، ليست بينها بريطانيا، ومع ذلك فكل المواصفات والتفاصيل بالانكليزية لطغيان الولاياتالمتحدة على الطيران العالمي. وقلت له ما ترجمته الى العربية: لا تشكي لي (اميركا) حتى لا أبكي لك. الزيارة تضمنت اجتماعاً للأمير مع البابا يوحنا بولس الثاني في مقره الصيفي في كاستل غاندولفو، فكان معه الأمير محمد بن نواف، السفير السعودي في روما قبل أن ينتقل الى لندن، ومرافقه العسكري، وأنا فقد دعاني بنفسه الى مرافقته. أعد الأمير سلطان نفسه بدقة للمقابلة، وفي الجلسة الخاصة مع البابا، حدثه عن الفلسطينيين ومعاناتهم، ودور الفاتيكان المطلوب في حماية القدس والدفاع عن الفلسطينيين من مسيحيين ومسلمين. وتبع ذلك نقاش إضافي بحضورنا، وعاد الأمير سلطان للحديث عن القضية الفلسطينية والدور الذي يريده العرب والمسلمون من الفاتيكان لمساعدة الفلسطينيين. والبابا كان حذراً في ردوده، واختار أن يقول إنه يدعو بالخير للشعب السعودي، كما يدعو أن يسترد الملك فهد صحته. واستطاع الأمير سلطان في النهاية أن ينتزع وعوداً إيجابية من البابا، لاحظت أثَرها في مواقف لاحقة للفاتيكان. وقال لي الأمير سلطان ونحن نعود الى روما إن البابا «صعب»، ولكنه ذكي ومنصف. يرحمك الله يا أبا خالد ويرحمنا معك. جهاد الخازن