قال وزير الخارجية الليبي السابق عبدالرحمن شلقم إن العقيد معمر القذافي أصيب في السنوات الأخيرة بعقدة احتمال أن يواجه مصيراً مشابهاً لمصير الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. وكشف أن كراهيته سابقاً لصدام مكّنت الإيرانيين من دك المدن العراقية بصواريخ ليبية. وتحدث شلقم عن الجهود التي بذلها بعد ضلوع الاستخبارات الليبية في خطة لاغتيال الملك عبدالله بن عبدالعزيز مؤكداً أن القذافي كان يحلم بتقسيم السعودية ويدعم من ينتهجون سياسة معادية لها. وهنا نص الحلقة الثانية: كيف كانت علاقة القذافي بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد؟ - أنا كنت وزيراً للإعلام في 1981 - 1982 وعرفت عدداً من المسؤولين السوريين في تلك الفترة. كانت قصة الصمود والتصدي هي المطروحة وكان السادات هو الخصم الأول. وكانت سورية مفتاحاً مهماً في هذا الموضوع. سورية تمسك بالقرار في لبنان أيضاً وهو إحدى الساحات التي استخدمت في هذه المعركة آنذاك. كانت سورية تريد الإفادة من القذافي. وكان القذافي يريد الإفادة من سورية. ظهرت اختلافات أو تباينات لكن لم تحصل صدامات. الأسد كان ذكياً في استيعاب معمر وهذا ما سمح له باستعماله. وكان لدى القذافي نوع من التهيب حيال الأسد. وعلاقته لاحقاً مع الرئيس بشار الأسد؟ - لم تكن العلاقة جيدة وكان القذافي يتكلم على الأسد في غيابه بنوع من التهكم ويعتبر أن من واجب بشار أن يطيعه. وحين كنت أطرح ضرورة تعزيز التعاون الاقتصادي مع سورية لم يكن يظهر حماسة. حضرت لقاءات عدة بين الرجلين خلال مشاركة القذافي في القمة العربية التي عقدت في دمشق. للأمانة أقول إن بشار الأسد اهتم باحاطة القذافي بكل ما يلزم من الاحترام. قاد السيارة بنفسه وكان يرتدي بنطلوناً من الجينز وأخذنا إلى مطعم. في الليل بقيت قليلاً مع القذافي واقترحت عليه أن نقوم بمشروع تعليمي وثقافي في سورية وأن نساعدهم في مشروع للإسكان وان ذلك أفضل لنا من أن نقدم المساعدات لدول بعيدة في آسيا. لاحقاً درست الموضوع مع رئيس الوزراء البغدادي المحمودي وأقلع المشروع. كانت هناك أيضاً وديعة قديمة قيمتها نصف بليون دولار وضعت لدعم سعر الليرة السورية وأنكر الأشقاء في سورية في البداية وجودها لكن عثر على الوثائق لاحقاً وقلنا نعيد استثمارها في سورية. وهذا ما حصل. كأنك تشير إلى أن العلاقة بين الزعيمين لم تكن جيدة؟ - دعني أحكِ لك السبب. كان القذافي يتعاطى مع رئيس تانزانيا كوكويتا. شكا إلي الرئيس، وعمره 63 سنة، أن القذافي يخاطبه قائلاً له: «يا ابني». كان يستخدم الأسلوب نفسه في مخاطبة العاهل المغربي الملك محمد السادس الذي كان أيضاً يتضايق. الشيء نفسه بالنسبة إلى الملك عبدالله الثاني والرئيس بشار الأسد. تصور أن القذافي يقول: «يا ابني يا أوباما». الحقيقة أن هذه الصيغة من القذافي كانت مقصودة لممارسة نوع من الفوقية وتأكيد أنه الطرف الأكثر أهمية أو خبرة. وعلاقته بصدام حسين؟ - صدام كان شرساً مع القذافي. في إحدى القمم العربية قال له: أخ معمر ماذا سميت ليبيا؟ الجماهيرية العربية وايش اعطيني العنوان الكامل؟ طبعاً هذا الكلام رسالة استخفاف علنية. القذافي كان يخشى صدام حسين لأن الأخير صاحب شخصية صدامية. تحولت العلاقة إلى كراهية شديدة. هذه الكراهية كانت أصلاً وراء قيام القذافي بتسليم إيران الصواريخ التي استخدمتها في دك المدن العراقية. الحقيقة أن بعد غياب عبدالناصر اعتقد كثيرون أن الكرسي فارغ. إخواننا في الخليج لم تكن لديهم فكرة الزعامة القومية. يهتمون بمنطقتهم وبالشؤون العربية والإسلامية لكن ليس لديهم مشروع زعامة على مستوى الأمة. حتى الملك فيصل بن عبدالعزيز لم يقدم نفسه كزعيم وحيد للأمة العربية. الإخوة في المغرب العربي لم يخوضوا أيضاً حرب الزعامة العربية الشخصية. السباق كان دائماً من اختصاص الذين يرفعون الشعارات القومية. السادات خرج من سباق الزعامة حين اختار طريق كامب ديفيد. حافظ الأسد كان يمارس في الزعامة قدراً من الواقعية. بلاده ليست غنية والزعامة تحتاج إلى إنفاق لشراء الضمائر المفروشة التي تشبه الشقق المفروشة. الأسد بسبب أوضاع بلاده كان يقبض ولا يدفع. هذا لا يلغي أن الأسد كان رقماً مهماً في معادلة المنطقة بسبب استثماره أهميةَ موقع بلاده وكذلك بسبب حنكته ومحاولته جمع أكبر عدد من الأوراق خارج حدوده كلبنان والموضوع الفلسطيني. إذاً، بقي في السباق صدام حسين ومعمر القذافي. الأول بعثي والثاني ناصري ولدى كل منهما المال لشراء حلفاء ومؤيدين ومدّاحين. وجاء موضوع إيران فاختلفا. بدأ السلوك الثأري يتخذ بعداً جديداً. راح القذافي يدعم أكراد العراق. وجاء قادتهم مرات إلى ليبيا. ثم دعم المعارضة العراقية. رد العراق بدعم تشاد ضد ليبيا. ثم استقبل المعارضة الليبية وساعدها وأنفق عليها. يضاف إلى ذلك أن معمر كان قلقاً من حزب البعث ولهذا قتل مسؤوله في ليبيا عامر الضغيص. حفيد موسى الكاظم؟ وعلاقة القذافي مع إيران؟ - من أسبابها كراهيته لصدام حسين ورفع إيران شعارات معادية لأميركا واعتقاده انه يمكن أن يستفيد من الثورة الإيرانية وأنه قد يستطيع إعداد مشروع يزاوج فيه بين ما يعتبره فكره الأممي والفكر الشيعي. كان القذافي يسوق أيضاً أنه من أحفاد موسى الكاظم أحد أئمة الشيعة. وحين استُهدف بعض المراقد في العراق بعث بمساعدات ووفد من قبيلته. وهناك عنصر آخر وهو أنه كان يأمل في استخدام ورقة إيران لإزعاج الدول العربية في الخليج وابتزازها. هل تقصد أنه قدم الصواريخ لإيران مجاناً؟ - نعم. كيف كانت علاقته بياسر عرفات؟ - قبول القذافي بالآخرين مرهون باستعدادهم للتبعية له أو بحاجته المصلحية لهم. ما عدا ذلك لا يقيم شأناً لأي علاقة. إما أن تجلب له منفعة أو تدفع عنه ضرراً. هذا يتعلق بالأفراد وبالدول أيضاً. علاقته بعرفات كانت قلقة. لعرفات وهج حامل القضية والقذافي يريده تابعاً لأنه يدعمه مالياً وعرفات زئبقي ويريد توظيف كل العلاقات في خدمة قضيته. كنا في سرت وجاء عرفات في وقت كانت منظمة التحرير تعيش أزمة مالية خانقة. طلب مساعدة من القذافي فردّ عليه بالقول: «أنا لا أحكم في ليبيا ولا أستطيع أن أدفع أموال الليبيين ولدينا مشاكل كثيرة. لماذا لا تذهب وتتحدث أمام مؤتمر الشعب العام (البرلمان)». في السر أعطيت تعليمات لبعض أعضاء البرلمان لمهاجمة عرفات. إنها لعبة من ألعاب القذافي لكي يُشعر الآخرين بالحاجة إليه. جاء ياسر عرفات مرة بعد فشل محادثاته في كامب ديفيد وكنت وزيراً للخارجية. كان محمود عباس (أبو مازن) مع عرفات. دخل الرئيس الفلسطيني فبدأ معمر يشتم أبو مازن: «أنت خائن. أنت صنعت اتفاق أوسلو. يجب أن تقوم بانتفاضة لكي تكفر عن ذنوبك». هذا قبل المصافحة. عرفات كان بارعاً. راح يبتسم ويشجع القذافي ويقول له: «يستاهل أكثر». طبعاً إنها براعة عرفات الذي يعرف أطباع القذافي وآلاعيبه. جلسنا وتحدث ياسر عرفات. كان معمر مستهتراً وغير منتبه ثم قال لعرفات: «ما فيش حل مع الصهاينة إلا الحرب. الأميركان معاهم. أنت يجب ألا تكون النسخة الثانية من السادات وألا تعمل اسطبل داود (كامب ديفيد)». كان معمر يتندر كثيراً على عرفات في غيابه. مثلاً قال مرة إن عرفات كان يصلي والتلفزيون يصوره وإن نايف حواتمة (الأمين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين) قال للمصور: إذا لم توقف التصوير فإن عرفات مستعد أن يصلي حتى الصباح. مع الفلسطينيين من كان يحب من المسؤولين الفلسطينيين؟ - كان يحب أحمد جبريل (الأمين العام للجبهة الشعبية - القيادة العامة). كان جبريل من أتباعه ويعمل معه. القذافي استعمل جبريل. وجبريل استعمل القذافي. طبعاً مع الالتفات إلى أن جبريل موالٍ لسورية أولاً وأخيراً. شطارة جبريل أنه لم يكتفِ بإقامة علاقة مع القذافي وحده. أقام علاقة مع أبوبكر يونس جابر وزير الدفاع وقائد الجيش ومع عدد من الضباط. هذا هو الفارق بين جبريل ومسؤولين فلسطينيين آخرين كانوا يكتفون بمقابلة القذافي والحصول على مساعدة والمغادرة. كان جبريل يعزف على الوتر الذي يحبه القذافي ويتحدث عن العقيد كمناضل كبير وقائد. هل موّل الانشقاق داخل حركة «فتح» في 1983؟ - نعم، هو قدم دعماً مالياً وكان قدم السلاح وبالتأكيد كانت سورية متعاطفة مع هذه الحركة ووفرت لها دعماً ميدانياً أو تسهيلات. في هذه المواضيع كانت مواقف معمر تتقاطع مع الحسابات السورية. كانت سورية تستفيد من معمر لتغطية الجانب المالي وكان يجمع الطرفين العداء لعرفات فضلاً عن شعارات كثيرة. معمر مزاجي. ذات يوم كان إبراهيم قليلات (رئيس حركة الناصريين المستقلين - المرابطون) هو كل شيء. ثم دعم الضابط أحمد الخطيب الذي انشق عن الجيش اللبناني. يمكن القول إن سفير ليبيا في لبنان في تلك المرحلة صالح الدروقي أنفق البلايين على الدعم العسكري والمالي لأحزاب وشخصيات ومؤسسات. هناك كميات هائلة من الأسلحة أرسلتها ليبيا إلى الفلسطينيين في لبنان وكانت لا تزال في صناديقها حين استولت عليها إسرائيل إبان اجتياح 1982. استشهد ليبيون مع الفلسطينيين وعادت جثامين بعضهم قبل ثلاث سنوات. يردد الليبيون نكتة: ذهب معمر إلى عبدالناصر وسأله «كيف أستطيع أن أكون زعيم العرب؟». أجابه عبدالناصر: «إذا كنت تريد أن تكون زعيم ليبيا فاترك القضية الفلسطينية. وإذا كنت تريد أن تكون زعيم العرب فاحتضن القضية الفلسطينية». ويكمل الليبيون أن القذافي لم يستطع تحقيق هذا ولا ذاك. ما هي قصة محاولة اغتيال الملك عبدالله بن عبدالعزيز عندما كان ولياً للعهد؟ - هذه ليست سراً. في القمة العربية في قطر حصلت مشادة تبعتها مصالحة. ذهب عبدالله السنوسي وجلس مع الملك عبدالله بن عبدالعزيز والشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ومعمر القذافي. خلال اللقاء قال السنوسي للعاهل السعودي: «يا جلالة الملك أنا خططت وعملت من أجل اغتيالك من دون معرفة القائد (القذافي)». طبعاً هذا الكلام هراء لأن القذافي لا ينكر ذلك. ذات يوم أخذني الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة جانباً وقال لي: «يا عبدالرحمن، معمر القذافي يفتقد أهم شرط من شروط القيادة وهو التسامح، لأن معمر إنسان لا يتسامح. إنه حاقد على الملك عبدالله بن عبدالعزيز». التقيت الملك عبدالله بن عبدالعزيز وأخبرته القصة، قال لي «يا ابني يا عبدالرحمن أي شيء تعمله إنت وأخوك سعود الفيصل أنا قابل به، أنا أثق بك أنت إنسان شجاع، إنسان فصيح، وأنا صريح». في اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب دعاني (الأمير) سعود الفيصل إلى الإفطار معه. قامت قيامة وسائل الإعلام ووكالات الأنباء لأن وزير خارجية ليبيا يجلس مع وزير خارجية السعودية وكان ذلك في القاهرة في 2007. اتصلوا من القيادة من طرابلس، ولما رجعت حققوا معي وضغطوا عليّ. أبلغتهم أن الأمير سعود الفيصل كان منطقياً جداً وقال لي هناك مؤامرة لقتل ولي العهد. والأمير سعود رجل أحترمه جداً وهو صديقي رجل شفاف وصادق ونظيف. قال لي إن الاستخبارات تقوم بأعمال غير نظيفة وتكلمنا عن أسماء ووقائع وأشياء أعرفها وكنت أريد حل المشكلة. أنا أريد التقريب ولا أريد التخريب. وسعود الفيصل أيضاً رجل بنّاء وأيضاً مع التصالح. أخذوني إلى التحقيق وأمام المؤتمر الشعبي العام وسببوا لي مشاكل. وكلمني معمر القذافي هاتفياً وهو متوتر وهددني: كيف تتكلم مع (الأمير) سعود الفيصل (...) لكنني شعرت بأنه موافق على أن أبحث عن حل. واستدعتني أمانة المؤتمر الشعبي العام ليلاً وحققت معي. كان سعود الفيصل قرأ عليّ ملفاً من تسع صفحات حول محاولة اغتيال الأمير عبدالله بن عبدالعزيز الذي كان آنذاك ولياً للعهد. وللأسف كل ما قاله كان صحيحاً ومعمر كان مجنوناً وأنا حاولت أن أقنعه، والله، أن يخلع من عقله قصة تصفية (الأمير) عبدالله. يريد أن يقتل الأمير عبدالله ويدمر السعودية ويقسّم السعودية، وقلت له: يا أخ معمر والله هذا لن يحصل لن تستطيع أن تصفّيه ولن تستطيع أن تقسّم السعودية، لكن دعني أذهب إلى السعودية. قال لي لا، لا تذهب. قلت له على كل حال هذه فكرتي أطرحها على الطاولة إذا قررت أذهب إلى السعودية. وأنا خارج من الباب لحق بي شخص أعتقد انه محمد جمعة من حراس معمر فعدت. قال لي معمر القذافي: يا عبدالرحمن اسمع لي. لماذا لا تلتقي سعود الفيصل وتحاول أن تقنعه أن نرتب معه لإسقاط الأميرعبدالله بن عبدالعزيز. تبسمت. قلت له أيها الأخ القائد هذه العائلات لديها ولاءات لا تفرط بها. هذا الموضوع لا أستطيع ان أتحدث به إطلاقاً أرجوك. قال لي لاحقاً: وماذا عن تقسيم السعودية؟. والله أنا أتذكر أنني رفضت التعليق – لأنني (كنت أريد) أن أقول له تقسيم ليبيا أسهل من تقسيم السعودية فهذا ما حضر إلى ذهني. بالنسبة لي أنا مستعد أن أنتحر ولا أرى تقسيم ليبيا ولا أريد تقسيم أي دولة عربية. طبعا قضية الملك عبدالله كانت الشغل الشاغل للقذافي وتتحكم بمواقفه وعلاقاته. كان يدعم بالمال معارضاً سعودياً مقيماً في لندن. ووصلت كراهية معمر إلى حد أنه كان يحلم بتقسيم السعودية. تحريض الأردن على السعودية ذات يوم جاءنا الملك عبدالله الثاني فراح معمر يخبره عن إذاعة معارضة للسعودية تبث من لندن. ثم بدأ يحرضه ضد السعودية ويقول له: لماذا لا تتحرك (...) ولماذا تبقى في الأردن الفقير؟ طبعاً العاهل الأردني رجل عاقل ويعرف ككثيرين أوهام القذافي. حتى المسؤولون الذين كانوا يأتون من أفريقيا أو مناطق بعيدة من آسيا كان معمر يحاول تحريضهم ضد السعودية. أنا تركت وزارة الخارجية في 6 مارس (آذار) وذهبت في 11 منه لوداع القذافي بعدما عينت مندوباً لليبيا لدى الأممالمتحدة. طوال الجلسة كان يحرضني على ضرورة أن أحرّض المسؤولين الأميركيين وأعضاء الكونغرس والإعلاميين ضد السعودية والوهابية واعتبر ذلك مهمتي الأولى. كانت السعودية هاجسه الكبير وكان يشدد على أن أسامة بن لادن سعودي وكأنه يريد تحميل السعودية مسؤولية هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001. السعودية كانت عدوه الأول. لماذا؟ هل بسبب المشادة بين الزعيمين في شرم الشيخ؟ - كان يشعر بالغيرة من السعودية ويعتبرها عائقاً أمام سياساته وطموحاته. هو لديه المال لكن السعودية لديها أكثر. ثم إن السعودية لديها مكة والمدينة ما يعطيها موقعاً طبيعياً في العالم الإسلامي. وللسعودية ثقل عربي وتأثير في دول عربية بارزة وبينها مصر. وللسعودية علاقات قوية بأميركا وأوروبا. ثم إن السعودية تدعم نهجاً معتدلاً في المنطقة ولها كلمة مؤثرة في منظمة «أوبك». دور هيكل ذات يوم ذهبت إلى معمر في منطقة اسمها السداده. يومها جاء وزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط ومدير الاستخبارات عمر سليمان في وساطة لإنهاء الخلاف مع السعودية. انفعل معمر وراح يخاطب الوفد المصري: «أنتم تابعون للسعودية إنها ترشوكم. أنا أيضاً لدي فلوس وأستطيع أن أرشو». كان شديد الانزعاج من علاقات السعودية بالمغرب والأردن ولبنان وخصوصاً السنّة فيه والتوازن الذي تقيمه هناك مع سورية فضلاً عن دورها في مجلس التعاون الخليجي. كانت لديه قناعة بأن السعودية اتخذت موقفاً سلبياً من الثورة الليبية. وللأسف لعب محمد حسنين هيكل دوراً في تحريضه. هيكل كان متعاطفاً مع القذافي ولا يزال. وهذا ما أسميه أنا السلفية القومية. إنني أشير إلى اللغة البلاستيكية أو الخشبية والحملات على الإمبريالية والاستعمار. هؤلاء يقيمون في مرحلة تجاوزها الزمن. الذي يستطيع أن يتقن صناعة الحنطور في القرن الخامس عشر لا يستطيع بالضرورة أن يتقن صناعة الكمبيوتر في القرن العشرين. هؤلاء بقوا هناك. دعني أكن صريحاً. المتاجرة بشعارات الوحدة العربية ماذا جلبت لنا غير الهزائم والكوارث والعداوات والتخلف؟ هيكل كان يقول إن السعودية ضد الثورة في ليبيا وإنها حاولت تحريض الأميركان والإنكليز لإسقاطها مبكراً، وإنها نصحت الملك إدريس بعدم التنازل. حتى في تعليقه على الانتفاضة الليبية اليوم يرتكب هيكل مغالطات. يقول إن قبيلة البراعصة التي تنتمي إليها زوجة القذافي لها امتداد في مصر. كأن هذا الرجل حاطب ليل. لا يعرف أن البراعصة هم في منطقة البيضا وهي قبيلة صغيرة ولا يوجد في مصر ولو عشرة من أبنائها. وهو لا يعرف الفرق بين أولاد علي وهي قبيلة من أصول ليبية بدوية لكنها مصرية بالكامل. سمعته يتحدث عن وقوف القبائل مع القذافي وعن خطر «القاعدة». وعدنا هيكل قبل عشرة أعوام أن يصمت وليته فعل. يتكلم عن «الناتو» ويتناسى أن قرار مجلس الأمن كان يحتاج الى قوة ليطبق. ثم إن «الناتو» معه قطر والإمارات والأردن ومساعدات من دول أخرى. إنني أسأله: من دمر مصراتة قبل تدخل «الناتو» ومن دمر الزاوية ونبش القبور ومن قصف بنغازي؟ لولا تدخل «الناتو» في 19 مارس لكانت بنغازي أكبر قبر في التاريخ. لنعد إلى علاقات القذافي. كيف كانت علاقاته مع الدكتور جورج حبش الأمين العام ل «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»؟ - ليس صحيحاً أن موضوع الدين كان مهماً بالنسبة إلى القذافي على رغم تصريحاته التي دعا فيها المسيحيين اللبنانيين الى اعتناق الإسلام. حبش كان يختار إبقاء مسافة معينة مع من يلتقيهم ونجح في تحقيق ذلك مع القذافي لأنه كان رجلاً نظيف الكف ونزيهاً وواضح الأفكار وصاحب قضية. حبش يتحدث ولا يتملق ويفرض احترامه على الجميع. ولم يكن يستخدم ديبلوماسية القبل والمدائح التي اعتمدها عرفات. طبعاً هذا لا يقلل من أهمية عرفات الذي كان يعرف أن يقول لا حين يكون ذلك ضرورياً. أثناء الحصار الإسرائيلي بيروتَ وحين نصح القذافي القادة الفلسطينيين قائلاً: الانتحار ولا العار قال له عرفات: «تفضل وانتحر معنا». وعلاقته بصلاح خلف (أبو إياد) عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح»؟ - كان أبو إياد بمثابة عدو للقذافي. في 1980 كنت رئيساً لتحرير وكالة الأنباء الليبية وكان الدكتور مفتاح الاسطى عمر، رحمه الله، مديراً لمكتب القذافي. طلب مني مفتاح كتابة تعليق يتضمن القول إن صلاح خلف من أصل يهودي وشدد على نشره سريعاً في نشرة الوكالة. قلت له: «هذا لا يجوز لأن خلف سيأتي بعد وقت ويعانق معمر. يمكن أن نكتب أنه مخطئ ويمكن حتى أن نقول إنه خائن ولكن لا يجوز أن نقول إنه من أصل يهودي والرجل مناضل فلسطيني». غاب قليلاً ثم اتصل قائلاً إن القائد يطلب منك تنفيذ الأمر. ذهبت إلى مقر القيادة في باب العزيزية. قلت للاسطى إنني أريد مقابلة القائد. فأجابني انه سيطلق عليك النار وسيصل به الأمر إلى درجة مهاجمة الوكالة بالدبابات لأنه اتهمك بالاستيلاء على الوكالة. بقيت نصف ساعة. خرج الاسطى وعاد ليبلغني بضرورة إعداد التعليق ونشره. كتبت التعليق انطلاقاً من تصريح لخلف وقلت فيه إن من يدلي بتصريح من هذا النوع يوحي بأنه صوت يهودي وبث التعليق في الفترة الميتة أي بعد صدور الصحف لشعوري بأن معمر يفضل هذا النوع من المعالجات. الحقيقة أن أبو إياد كان شخصية قوية وكان يصطدم كثيراً بالقذافي وبعبدالسلام جلود ويجاهر برأيه ويغضب ويسافر. وفي فترة من الفترات راح أبو إياد يدعم المعارضة الليبية ويعطي بعض أفرادها جوازات سفر مزورة. هل يمكن أن تكون لأجهزة القذافي علاقة باغتيال أبو إياد في تونس بعد الغزو العراقي للكويت خصوصاً أن القاتل كان يعمل لمصلحة أبو نضال؟ - لا أريد التكهن في غياب المعلومات. كيف كان موقف القذافي من الغزو العراقي للكويت؟ - بأمانة أقول كان القذافي غاضباً جداً من صدام. ولكنه كان غاضباً كمن يقرأ في المستقبل. وكان يقول إنه مهما كان الثمن يجب ألا نستقوي بالآخر ضد أي عربي. كأنه كان يقرأ ما سيحلّ به. قال شيئاً من ذلك في خطابه في القمة العربية في دمشق حين تحدث عن إعدام صدام. قال للقادة العرب سيجيء دوركم. في غزو العراق الكويت حلم بأن يعيد ما قام به عبدالناصر حين هدد عبدالكريم قاسم الذي هدد الكويت. طبعاً الصورة مختلفة وموازين القوى مختلفة. كيف كان رد فعل القذافي على إعدام صدام؟ - أعدم صدام في صبيحة عيد الأضحى. ليلة العيد كنت ورئيس الوزراء البغدادي المحمودي عند معمر القذافي. عدت إلى مزرعتي على بعد نحو عشرة كيلومترات من طرابلس ونمت. خلال الليل راح يتصل بي المحمودي لكن الهاتف كان بعيداً عني. حدثني باكراً مشيراً إلى أن الأخبار تتحدث عن قرب إعدام صدام وقال إن القائد حزين جداً وأفضل شيء لامتصاص غضبه أن نعلن الحداد ثلاثة أيام. كانت علاقتي قوية بالبغدادي وأنا أعرفه من أيام الدراسة لكن السياسة مفرق كبير فقد افترقنا الآن. روج كلاماً عن إقامة تمثال لصدام في ليبيا لكنها كانت مجرد كذبة لامتصاص المشاعر. لاحقا تبيّن أن معمر أصيب بهاجس مفاده أنه قد يواجه مصيراً مشابهاً لمصير صدام. أولاً هناك حالة العداء مع أميركا. ثم إن صدام لم يتهم يوماً بالقيام بعمليات ضد الأميركيين خارج بلاده في حين أن معمر أمر بمثل هذه العمليات. وهناك أيضاً اتهام ليبيا بامتلاك أسلحة للدمار الشامل. كان واضحاً أنه يخشى تكرار السيناريو. هناك مسألة استوقفت المراقبين. علي الكيلاني ضابط وشاعر ومدير إذاعة وابن عم العقيد نظم قصيدة تصف صدام بالقديس والبطل وهو شاعر شعبي مؤثر. لم يكن من عادة معمر القبول بتمجيد شخص آخر الا بموافقة منه. وما كان معمر ليوافق على تمجيد من كان يكرهه لو لم يقرأ في مصيره إنذاراً لشخصه وكأنه يخاطب قدراً ما في الأفق ويقول له: «لا تقترب مني». الغريب أنه يجد نفسه الآن في مواجهة هذا القدر في ليبيا. كان القذافي يهاجم الأميركيين لكنه كان يخشاهم. تجربة الغارة الأميركية على ثكنة باب العزيزية ذكرته بقدرتهم على الوصول إليه حين يتخذون قرارهم. * غداً حلقة ثالثة