إنها واحدة من أسوأ الكوابيس في التاريخ الحديث". بهذه العبارة وصف الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان"أزمة دارفور"، عقب لقائه الرئيس السوداني عمر البشير على هامش أعمال القمة السابعة للاتحاد الأفريقي التي عقدت في عاصمة غامبيا بنغول أخيراً. وكان قادة الاتحاد الأفريقي فشلوا، خلال القمة، في إقناع البشير بالعدول عن رفضه تولي قوة تابعة للأمم المتحدة مهمة حفظ السلام في دارفور. الأمر الذي دفع أنان الى وصف موقف البشير الحازم بپ"غير المفهوم"، بعدما كان رئيس عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة جان ماري جيهينو أوصى بنشر حوالى 17000 عنصر من قواته في الإقليم، مطلع العام 2007، بعد موافقة الحكومة السودانية، على أن تعوّض هذه القوة الأممية قوة الاتحاد الأفريقي الحالية المتكونة من 7000 رجل، والتي ينقصها التمويل والتجهيزات العسكرية الحديثة، وأصبحت عاجزة عن تطبيق"اتفاق أبوجا"الهش الذي تم توقيعه بين الحكومة السودانية وقسم من التمردين في دارفور. وهكذا، فإن السلام الشامل ليس قريباً في دارفور. وعلى رغم توقيع اتفاق السلام"الجزئي"في أبوجا في الخامس من أيار مايو الماضي بين الحكومة السودانية وإحدى الحركات المسلحة الكبرى في دارفور، فإن أكبر مأساة شهدها العالم لم تنته بعد. وحصل توقيع الاتفاق، في ظل استمرار الضغوط الدولية، وخصوصاً الأميركية، على جميع الأطراف، لإجبارهم على التوقيع. وكانت الحكومة السودانية أكثر من فهم حجم تلك الضغوط، فبادرت الى القبول بمشروع الاتحاد الأفريقي للحل، على نحو جنبها موقع المعطل والمعوِّق، محولة الأمر الى خصومها في دارفور، يترددون ويتحفظون وينقسمون. ولا شك في أن سلوك الخرطوم الأخير، انطلق من إدراكها لضرورة التأقلم مع شروط البيئة الدولية، وابتعاداً عن لغة خشبية أضحى صرفها مقيتاً حتى لدى الشارع المحلي. ولوحظ تبدل في مواقف الأطراف المتحفظة، انتهى بموافقة حركة"جيش تحرير السودان"بقيادة ميني أركاي ميناوي على توقيع الاتفاق، على أن يليه انضمام الفصائل الأخرى "حركة تحرير السودان"بقيادة عبدالواحد نور، وپ"حركة العدل والمساواة"بقيادة خليل إبراهيم الى هذا"العرس". إن نص الاتفاق لا يمنح لإقليم دارفور منصب نائب الرئيس، كما كانت تطالب بذلك الحركات المسلحة، وإنما منصب مساعد الرئيس، الشخصية الرابعة في الدولة. وبحسب مسؤول في"منبر دارفور"، فإن هذا المنصب لا يستمد من شرعية السلاح، وإنما يجب أن يؤسس على رأي شعب دارفور، عبر الانتخاب المباشر، وألا يمثل المنصب قبيلة أو حركة أو حزباً سياسياً. لكن زعماء حركات دارفور الذين رفضوا اتفاق أبوجا، عملوا على إقامة تحالف سياسي جديد يضمهم يُنتظر أن يوقع في أسمرا خلال أيام. ويعقد محمد إبراهيم دريج، زعيم"التحالف الفيديرالي"، ورئيسا حركتي"العدل والمساواة"وپ"تحرير السودان"، اجتماعات مكثفة حالياً، من أجل الاتفاق على صيغة بيان يكرّس تحالفهم. ويتمسك التحالف الجديد بالتعويضات للنازحين واللاجئين، ويعتبر ان اتفاق أبوجا لا يلبي مطالب أهل الإقليم وتطلعاتهم. وبالتالي، يجب إعادة النظر فيه. كما يطالب أيضاً باحتفاظ الحركات المسلحة المتمردة بقواتها، وإعطاء دارفور نسبة في السلطة والثروة تساوي النسبة التي حصل عليها الجنوب في اتفاق نيفاشا، إضافة الى نشر قوات مراقبة دولية لأي اتفاق سلام، يكون لها الحرية الكاملة في كبح جماح هجمات"الجنجاويد"على المواطنين ومراقبة تحركات القوات الحكومية. ويعمل"اتفاق أبودجا"على فرض السلام في إقليم دارفور عبر نزع أسلحة الميليشيات، وإعادة تنظيم مقاتليها، وضمان تمثيل الدارفوريين في الإدارة والمؤسسات السياسية، وكذلك على صعيد الاستثمار وإعادة إعمار الإقليم. فالمستقبل النفطي الواعد لهذه المنطقة المحرومة، ورؤية جنوب السودان التي استطاعت الحركة المسلحة فيه أن تنتزع شيئاً من الحكم الذاتي، كان لهما تأثير واضح على النزاع. وألقى رفض الاتفاق من قبل أحد أطراف النزاع الذي يطالب بإعادة تقاسم السلطة والثروات، ظلالاً من الشك على إمكان تطبيق الاتفاق. ويعتبر كثر ان ما حدث في أبوجا"سلاماً ناقصاً". إذ تجمع أحزاب سياسية على ان عدم توقيع الأطراف الأخرى، يعني الدخول في متاهات صراع جديد. كما يعني بقاء البعض خارج إطار الاتفاق، أكبر سبب لاستمرار العنف في الإقليم، ما يعوق عودة الاستقرار الى دارفور. وكانت مخاطر التدويل التي تقبع في خلفية الصراع في دارفور، ازدادت بدخول الأزمة التشادية على الخط. فكل ما يحدث هناك، تكون له انعكاساته في دارفور، بسبب التداخل القبلي والحدودي بين الدولتين، فيما تضاعف الحكومة السودانية مساعيها لإبعاد شبح التدويل عن القضية التي يعتبرها كثر"قضية دولية"بامتياز. فدارفور، بحسب المراقبين - تدولت منذ أكثر من عام، فضلاً عن وصفها بمنصة انطلاق كل حركات التغيير في تشاد، ما يعني تجاوز الشأن الداخلي الى دولة أخرى، بما يؤسس لذرائع جادة لاعتبار ما يدور في"المثلث الأفريقي"دارفور تشاد وأفريقيا الوسطى شأناً دولياً. ويرى المتابعون للشأن السوداني، أن خلافات نشبت في الفترة الأخيرة بين الرئيس عمر البشير ونائبه علي عثمان محمد طه،"خرج على أثرها الأخير من البلاد متوجهاً الى تركيا، وهو غاضب من الطريقة التي يدير بها البشير ملف دارفور". ويعتقد المحللون في الخرطوم ان توقيت الزيارة يؤشر الى وجود خلافات بينه وبين الرئيس البشير أخيراً، عبر تباين التصريحات الصادرة عن الرجلين في شأن ترتيبات نشر القوات الدولية في إقليم دارفور المضطرب. وأشيع أن طه لم يكتف بمغادرته الخرطوم الى تركيا هو وأسرته، وإنما أعطى طاقمه في مكتبه في القصر الرئاسي إجازة، وأن مكتبه صار شبه مغلق. وأعلنت"الحركة الشعبية لتحرير السودان"مجدداً تأييدها نشر قوات دولية في دارفور، على رغم معارضة الرئيس السوداني عمر البشير. وقال غازي سليمان، النائب عن الحركة:"إن أحد بنود اتفاق السلام الموقع بين"الحركة الشعبية لتحرير السودان"والحكومة، ينص على ان هذا الاتفاق ينبغي أن يشكل نموذجاً لاتفاقات محتملة مع متمردي الغرب دارفور ومتمردي الشرق"، موضحاً ان هذا الاتفاق يوصي بنشر قوة تابعة للأمم المتحدة في الجنوب في مهمة حفظ السلام. ويرى معارضو حكومة الرئيس البشير أن رفض الأخير القاطع نشر قوات دولية في دارفور، نابع من تخوفه من أن تكون تلك القوات هي التي ستقوم في مرحلة لاحقة بالقبض على مجرمي دارفور الذين بدأت"المحكمة الجنائية الدولية"في لاهاي في إجراء التحقيقات حول قضيتهم، وسجلت زيارات الى الخرطوم في هذا الخصوص. ويرى العقلاء في السودان أن على القوى السياسية في الحكومة والمعارضة أن تتجاوز مرحلة تبادل الاتهامات بين المؤيدين والرافضين لأمر القوات الدولية، والحذر من العواقب، منتقدين محاولات الإجابة على اسئلة عدة، مثل: كم عدد الذين يؤيدون دخول القوات الأممية من السودانيين؟ وكذلك المقارنات بين تجربة السودان إذا حدثت، وبين تجارب دول أخرى مثل العراق والبوسنة والهرسك والصومال وأفغانستان، وما هي المهمات الرئيسة والأساسية للقوات الأممية؟ متى سترحل؟ ما نوع القوات التي سترسل؟ إذا كانت الظروف المناخية والجغرافية والعسكرية في السودان تحتم على القوات الدولية التفكير عشرات المرات قبل اتخاذ خطوة غير آمنة، فإن خيار التدخل العسكري الأميركي لا يجوز استبعاده إذا ما أصرت الولاياتالمتحدة على التدخل، خصوصاً انها قامت بدور كبير في المسار السوداني، ونجحت في تطويع المنظمة الدولية لخدمة أغراضها الاستراتيجية في المنطقة العربية، ومن بينها السودان. * كاتب تونسي