يسمونها "السيدة الحديد" ليس لأنها تضرب بيد من حديد تجار الأدوية الفاسدة في نيجيريا، بل لأنها كامرأة تحب التزين والتبرج بكل ما يبرق ويلمع من مجوهرات متنوعة. دوروثي اكونييلي ترأس اليوم الوكالة الوطنية لتنظيم ومراقبة الغذاء والدواء في بلادها ومهمتها الاساسية محاربة تجارة الدواء الفاسد، هذا الوباء الذي يعاني منه العالم، خصوصاً افريقيا، وتشكل الأدوية الفاسدة في السوق الاستهلاكية المحلية في نيجيريا نسبة 70 في المئة. قررت دوروثي خوض معركة ضد التجار والموزعين وأصحاب المختبرات، مصممة على مواجهة المخاطر التي ستتعرض لها نظراً الى وجود رجال أعمال نافذين في هذه التجارة. ففي شهر كانون الأول ديسمبر الماضي، تعرضت "السيدة الحديد" وللمرة الأولى، الى محاولة اغتيال خرجت منها بجرح في الرأس نتيجة رصاصة لم تخترق جمجمتها. ومذاك استطاعت السلطات المحلية، إلقاء القبض على 16 متهماً، ووضعت دوروثي تحت العناية الفائقة، فيما اكدت التحقيقات التي جرت لاحقاً مسؤولية الموزعين المحليين في محاولة الاغتيال التي قام بها قتلة محترفون. ويحارب تجار الأدوية الفاسدة الوكالة الوطنية على طريقتهم الخاصة، ومن خلال احراق مختبرها، اضافة الى نهب مكاتبها وتدمير محتوياتها بما فيها اتلاف آلاف من اجهزة الكومبيوتر. لم تتراجع اكونييلي عن حربها التي بدأتها منذ ثلاث سنوات وبفعالية كبيرة، بعدما قتلت حقنة انسولين فاسدة أختها البالغة من العمر 21 سنة وذلك عام 1988. وتحت ادارتها، قامت الوكالة الوطنية للرقابة بإقفال مئات الشركات العاملة في قطاع الأدوية الفاسدة، كما حوّلت معركتها هذه الى قضية وطنية حينما اشعلت النار في كميات ضخمة من الأدوية الفاسدة في احدى الساحات العامة، في حضور رجال الصحافة والاعلام وحشد من المواطنين، ووزعت الوكالة التي تشرف عليها مناشير تشرح مساوئ هذه الأدوية الرخيصة وتحذر من تناولها. وأكملت سياسة التوعية هذه بتنظيمها مسابقة في المدارس الثانوية هدفها شرح مضار تناول الدواء الفاسد، الذي لا يضمن أي علاج نظراً الى احتوائه على كمية ضئىلة من المادة الحية التي تشفي المريض، واكثر هذه الأدوية انتشاراً المضادات الحيوية وأقراص ارتفاع الضغط ومرض السكري والربو والملاريا التي تنتشر بكثرة في البلاد الافريقية. وبعض هذه الأقراص لا يحتوي إلا على بودرة السكر أو الطباشير المطحونة وأي مادة كلسية اخرى لا فائدة من تناولها، بل تشكل أحياناً خطراً فعلياً على حياة المريض، وقد تقتله لأنها تحرمه من العلاج اللازم. يعتبر الدواء الفاسد، مشكلة عالمية خطرة، وتصل نسبة بيعه الى عشرة في المئة من مجموع الأدوية المباعة في العالم 42 بليون يورو من 420 بليوناً. وهو ما أكده قسم الإحصاء الخاص بجامعة دركسيل في فيلادلفيا. أما الدول الغنية فهي ليست في منأى عن هذه المشكلة، بعدما كشف النقاب في العام الماضي عن مجموعة فضائح في الولاياتالمتحدة وبريطانيا والمتعلقة بكميات كبيرة من عقار "الفياغرا" الفاسدة وعقار "ليبيتور" المضاد للكوليسترول من انتاج مختبرات بفيزر Pfizer. حيل وحرائق وتهديدات بالتصفية اتخذت بعض الدول المجاورة لنيجيريا، والتي تعاني ايضاً من تجارة الدواء الفاسد، من معركة دوروثي مثالاً تحارب به هذه التجارة. اذ شرعت حكومة غانا في تنظيم عمليات حرق للأدوية الفاسدة في حضور المواطنين ووسائل الاعلام، كما منعت استيراد الدواء من الشركات المشكوك فيها والتي منعت الوكالة الوطنية في نيجيريا من استيراد منتجاتها. وتقدر الاحصاءات الرسمية ان الأدوية الفاسدة تشكل نسبة 8.5 في المئة من سوق الدواء في تايلند و13 في المئة في كمبوديا. ونتيجة لتحقيق اجرته المنظمة العالمية للتجارة وشمل سبع دول افريقية، اتضح ان هناك نسبة تراوح بين 20 و90 في المئة من العلاج الخاص بالملاريا تقاوم المرض. وتسببت تجارة الدواء الفاسد في خسارة كبرى تعرضت لها شركات كثيرة تعمل في صناعة الأدوية واضطرت الى مغادرة البلاد مخلفة آلاف من العاطلين. ومنذ تسلم دوروثي اكونييلي ادارة الوكالة الوطنية لمحاربة تجارة الدواء الفاسد، تراجعت المبيعات من 70 الى 35 في المئة خلال ثلاث سنوات فقط. ومقابل هذا الفوز، كان على السيدة الحديد تحمل مسؤولية نجاحها والصراحة المتميزة بها والتحدي الذي ترميه في وجه التجار "ان تجارة الدواء الفاسد آفة كريهة يجب القضاء عليها"، وبعد هذا التصريح وجهت اليها تهديدات ارغمتها على التنقل تحت الحراسة الخاصة، اضافة الى مراقبة الشرطة لمنزلها ووضع سيارتي شرطة واطفائية بالقرب من مكتبها. "أشعر أنني أعيش واعمل في سجن" هذا ما تقوله دوروثي، وما يدركه المستشار الخاص للرئيس النيجيري الذي يعتقد بأن الحكومة تطلب الكثير من تلك السيدة الشجاعة، الأمر الذي يعرضها الى خطر كبير، على رغم ان محاربة الفساد تتسم بالخطر وثمنه غال دائماً. تبلغ اكونييلي 49 سنة وتحمل دكتوراه في الصيدلة واصبحت عضواً في احدى الهيئات الحكومية المحلية. ولفت عملها الجيد آنذاك نظر الرئيس النيجيري أوباسنجو الذي عرض عليها في نيسان ابريل 2001 ترؤس الوكالة الوطنية للغذاء والدواء ومحاربة هذه التجارة الخطيرة ووضع حد لها. انتقد البعض في الحكومة، وبشدة اختيار الرئيس، خصوصاً ان كبار رجال الاعمال المتورطين في هذه التجارة هم من قبائل الإيبوس والتي تنتمي دوروثي الى احداها، وقد لا تتجرأ على محاربة أهلها. عند تسلمها مهمتها الرسمية هذه، وجدت دوروثي الفوضى تعم اجهزة مراقبة ومحاربة الدواء الفاسد الذي يباع في كل مكان، حتى في الباصات العامة، واكثرها غير صالح للاستخدام. اما المضادات الحيوية فكانت تباع بكثرة ويستعملها السكان لأي مرض كان، الى درجة ان هناك انواعاً من البكتيريا اصبحت أكثر مقاومة للمضادات الحيوية السليمة. وحاولت شركات الأدوية والتجار والموزعون اغراء دوروثي بالمال لغض النظر عن تجارتهم، لكنها رفضت الرشوة، عندها بدأت التهديدات بالقتل تصلها عبر مكالمات هاتفية ثم إخافتها برميها بالسحر، واخذت تجد يومياً أمام منزلها وفي مكان عملها أشياء خاصة بالسحر والسحرة. قررت السيدة الحديد ضرب الفساد في منبعه، اي اصحاب المختبرات. فبعد التشدد والرقابة وحرق الأدوية، أخذ أصحاب المختبرات تصنيع الدواء في الخارج واستيرادها كمنتوج أجنبي الصنع، يأتي من الهند والصين. واستطاعت دوروثي اقناع الحكومة الهندية بمنع مختبراتها من تحضير الأدوية لمصلحة المختبرات النيجيرية الموضوعة على اللائحة السوداء. لكنها فشلت في اقناع السلطات الصينية بذلك، في المقابل اصدرت قراراً طالبت بموجبه من جميع المختبرات في البلاد تسليم الوكالة جميع الأدوية التي انتهت مدة استخدامها بغية اتلافها. كما أبلغت شركات الطيران الأجنبية، أمراً بمنعها من الطيران، اذا تأكد انها ادخلت الى البلاد صفقة دواء لم تقم الدولة بمراقبته والتأكد انه غير فاسد. لكنها لم تستطع الحصول على موافقة الدولة لإصدار مشروع قانون تقفل بموجبه كل صيدلية تبيع دواء فاسداً. وبالمقابل شددت الوكالة مراقبتها على كل مرافئ نيجيريا والحدود. وقامت بزيارات مراقبة مفاجئة لمعامل صناعة الأدوية، للتأكد من احترامها للقوانين وفي حال الكشف عن التلاعب يُفرض عليها دفع غرامة مالية تقدر بنحو 28 ألف يورو، وفي حال الرفض يتوقف العمل وتقفل الأبواب. والمشكلة التي تواجه اكونييلي وفريقها، هي تنظيف الأسواق الثلاث الخاصة بالأدوية. وهي عبارة عن أسواق شعبية عامة متخصصة في بيع شتى أنواع الأدوية. واستطاع "اللوبي الصيدلي" في نيجيريا الضغط على الحكومة لرفض مشروع تقدمت به الوكالة ينص على تحويل هذه الأسواق الى نوع من السوبر ماركت المنظم ويخضع الى اشراف الدولة. من هنا اضطرت الوكالة الى وضع عدد كبير من المراقبين في هذه الاسواق الموجودة في الهواء الطلق، والتي تضم مئات الموزعين الذين يقومون ببيع الدواء بالمفرد والجملة. وتم القبض اخيراً على موزع كبير مع كمية ضخمة من دواء فاسد يحمل اسم مختبرات "غلاكسو" المعروفة. وفي الآونة الأخيرة ازدادت عمليات الانتقام من الوكالة ورئيستها. فبعد تدمير كامل لمختبراتها، تعرض المركز الرئيسي في لاغوس الى حريق كبير دمر 11 طابقاً من مبناه، منها الطابق الخاص بالأرشيف والمعلومات مع عدد كبير من آلات الكومبيوتر. وبعد الحريق بيومين، دمر حريق مماثل مختبراً آخر للوكالة. وتطال الشكوك بعض العصابات المأجورة، التابعة للتجار وموزعي الأدوية الفاسدة. اما السيدة الحديد فهي تواصل حربها مع بعض القلق المتعلق بالمستقبل. ففي نيسان ابريل 2006 تنتهي مدة تعيينها ومعها الحماية الخاصة. وهي تفكر انها قد تكون مرغمة على مغادرة البلاد ولو الى حين، فقد أدت بعملها هذا الى خراب عدد كبير من الشركات وهي تخشى الانتقام