تعقد هذا الاسبوع قمة الثمانية، وهي الدول الأغنى والأكثر تقدماً. وسيغطي القمة "المحاصرة" في مدينة إيفيان الفرنسية اكثر من ألفي صحافي محاصرين أيضاً في مركز صحافي على بعد 40 كلم، بينما ضرب مناهضو العولمة وما هب ودب من المعارضة العالمية للإدارة الاقتصادية والسياسية الحالية للعالم، موعداً في جنيف بقسميها الفرنسي والسويسري. وستتردد هتافات كثيرة معادية للعولمة بين الآلاف الذين بدأوا قبل اسبوع بالتوجه نحو المنطقة. ملفات كثيرة امام المجتمعين تتطرق الى قضايا انسانية، ولكن من اهمها هذه الملفات التي تعالج وراء الكواليس ملف الدواء في العالم، وهو ملف معقد تتداخل فيه مصالح ضخمة تمس حقولاً كثيرة مثل الأبحاث العلمية ومختبرات التصنيع والبحث وبراءات الاختراع وحقوق المخترعين. وتدعم رساميل كبيرة وموازنات ضخمة هذه الصناعة ووسائل توزيعها. الا ان الاهم هو ان هذا الملف يمس الصحة العالمية ومستقبل الانسان. وفي حين يضع مناهضو العولمة هذا الملف تحت شعار "التضامن" ومساعدة الدول الغنية للدول الفقيرة، يرى ممثلو التجمعات الاقتصادية الكبرى الأمر من زاوية الاستثمارات الضخمة التي تدفعها الشركات العالمية لاكتشاف أدوية جديدة وتطويرها. وفي ظل التوجهات الليبرالية الجديدة للدول الغنية إلى جانب الجنوح الأميركي لحماية مصالح الشركات الأميركية والدفاع عنها حتى ولو كان ذلك برفض تطبيق اتفاقيات سابقة، فمن المتوقع أن يكون ملف الدواء هو الملف الساخن على طاولة القمة. لكن الصراع لن يكون فقط بين الشمال والجنوب أي بين دول غنية ودول فقيرة، بل يمكن أن يتفرع صراعاً بين الأغنياء. فالولاياتالمتحدة تقود حملة لرفع سعر الأدوية في العالم بشكل عام، وفي بلدان الاتحاد الاوروبي واليابان بشكل خاص، لان أسعار الأدوية في الولاياتالمتحدة، حيث الحرية الاقتصادية مطلقة، أعلى بكثير من الأسعار في بقية الدول التي تطبق سياسة صحية تحدد الحكومات فيها أرباح موزعي الأدوية والصيدليات. ويتجاوز فارق أسعار الأدوية بين الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية الضعف في بعض الأحيان، ما يدفع الشركات الأميركية وأعضاء في الكونغرس إلى القول "ان الأميركيين يمولون صحة العالم"، والتشديد على ان ضعف أرباح الشركات المصنعة للدواء يحد من قدرتها على تمويل الأبحاث ودفع الحوافز المالية للمخترعين والباحثين، ما يمكن أن ينعكس على الصحة العالمية. وتقدم الجهات الأميركية هذه المطالب بحجة أن التعاضد والتعاون بين الدول الغنية، يسمح بتمويل سياسة بيع الدواء للدول الفقيرة بأسعار متهاودة ومقبولة. وترد الجهات المعنية بالدرجة الأولى بين الدول الغنية وهي الاتحاد الأوروبي واليابان وكندا وسويسرا بالقول ان جشع الشركات الأميركية خصوصاً شركات توزيع الأدوية الأميركية التي تسعى وراء أرباح كبيرة لإرضاء المساهمين والمحافظة على قوة أسعار أسهمها في البورصة، هو الذي يقف وراء تململها، وأن الشركات الأميركية تسعى من وراء اتهام المجتمعات والحكومات الأوروبية بحماية أسواقها وتسهيل حصول شعوبها على دواء رخيص، الى دق اسفين بين أوروبا والدول الفقيرة فقط. فأوروبا تطالب بالسماح للدول الفقيرة بانتاج أدوية "جينيريك" من دون دفع حقوق للشركات والمختبرات صاحبة الحقوق، وهو ما يرفضه الأميركيون بشدة. وحتى اليوم وعلى رغم "إعلان الدوحة" في الدورة الأخيرة لمنظمة التجارة العالمية، ترفض الولاياتالمتحدة السماح للدول الفقيرة بانتاج أدوية ذات حقوق مسجلة أميركياً من دون دفع حقوق. وكانت البرازيلوأفريقيا الجنوبية والهند طالبت بالسماح لصناعتها بانتاج أدوية مع إعفاء من دفع الرسوم والحقوق، خصوصاً أدوية لمعالجة مرض الإيدز وغيره من الأمراض المعدية. إذ أنها قادرة تقنياً على انتاجها ولكنها غير قادرة على الوفاء بالالتزامات المالية التي تطلبها الشركات الكبرى، خصوصاً أنها لا تستطيع بيع منتجاتها بأسعار مرتفعة في الأسواق الفقيرة على وجه التحديد. وفضلت الولاياتالمتحدة إعلان تخصيص 15 بليون دولار لمحاربة الإيدز لخمس سنوات لمحاربة مرض نقص المناعة في العالم، ما حدا ببعضهم إلى مقارنة هذا المبلغ الضخم بالرفض الأميركي بفترة سماح في ما يتعلق بالحقوق المالية. فقالوا ان قبول واشنطن دفع هذا المبلغ، مع رفضها رفع معارضتها، يشير إلى ضخامة المبالغ التي تجنيها شركات الادوية. والواقع أن شركات صناعة الادوية وتوزيعها تتخوف من قبول تنازلات في ما يخص الإيدز ما يفتح الأبواب أمام المطالبة بالسماح بتصنيع أدوية أخرى فتفقد ما تتطلع إليه من أسواق خارج الدول الغنية، خصوصاً أن التوجه العام في الدول الغنية هو للعناية المسبقة، بينما لا تزال الدول الفقيرة في طور التداوي. كما تتخوف صناعة الأدوية والمختبرات من تحويل الدواء والعناية الصحية إلى "حق عالمي"، مثل حقوق الانسان، كما هو الأمر في الدول الأوروبية، فيتم وضع هوامش لأرباحها فتصبح هذه الصناعة خاضعة لقوانين دولية، عوضاً عن أن تكون محكومة بقوانين السوق. وحقيقة الأمر أن وجهة نظر مختلف الافرقاء فيها بعض الصحة. فتحويل صناعة الدواء إلى صناعة "سوفياتية النمط" كما يقول منتقدو التخلي عن النمط التجاري الحر، يمكن أن يقضي على نتاج المختبرات التي تنفق مئات ملايين الدولارات سنوياً لتحفيز العاملين فيها على استنباط أدوية جديدة والغوص في البحوث. كما أن تفاوت الأسعار بين السوق الأميركية والأسواق الخارجية يمكن أن يؤثر في تدفق الأدوية في شبكات التوزيع العالمية والكميات المصنعة، إذ يكفي أن تقرر المختبرات أن السوق الأميركية ومعها بعض الأسواق الأخرى هي الوحيدة التي تحمل "جدوى اقتصادية" فتحول خطط انتاجها لتغطية هذه الأسواق الغنية فقط، ما يحول دون وصول الادوية الى اسواق كثيرة في العالم خصوصاً الاسواق الفقيرة منها. وفي المقابل فإن متابعة السياسة الحالية يمكن أن تقود إلى انهيار نظام حقوق البراءات إذا أعلن بعض الدول أن تصنيع بعض الأدوية هو من ضرورات "الأمن الوطني" - وهو ما هددت به أفريقيا الجنوبية - فتعمد إلى تجاوز قوانين الحقوق لدرء أخطار أمراض منتشرة. وفي هذه الحال يمكن للدول المتضررة الرد بفرض رسوم مالية، الامر الذي يخالف قوانين منظمة التجارة الدولية فتنهار اتفاقات التبادل التجاري التي دأب العالم على وضعها منذ عشرين سنة. وفي كلا الحالتين فإن المتضرر الأول يكون الدول الفقيرة. ويكمن التناقض بين الاتجاهين في التوجه العام للفلسفة السياسية المتبعة في الدول. فالاميركيون يدفعون اسعاراً باهظة للادوية في وقت تشكل سوق الدواء في الولاياتالمتحدة 40 في المئة من السوق العالمية و61 في المئة من ارباح صناعة الدواء، الا انه لا يوجد لديها نظام ضمان اجتماعي حيث ان 40 مليون اميركي غير مؤمنين صحياً، الامر الذي يساهم في التململ الاميركي المتصاعد من أسفل السلم الاجتماعي. بينما في المقابل فإن دولاً كثيرة وضعت سياسة وطنية للصحة وتملك نظاماً للتأمين الصحي، وبالتالي فإن تحديد أسعار الدواء يأتي لدعم النظام الصحي العام. امام هذا الوضع ستجد "مجموعة الثمانية" نفسها مضطرة للتوفيق بين نظامين سياسيين بتفكيرين مختلفين من الصعب ان يلتقيا في الظروف السياسية الحالية