حينما عقد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط في تشرين الأول اكتوبر 1991، عرض وزير خارجية سورية صورة وثيقة صدرت بحق إسرائيلي شاب اسمه اسحق شامير كانت السلطات البريطانية تطلب القاء القبض عليه بتهمة تدبير عمليات إرهابية من بينها مقتل الوزير البريطاني المقيم في القاهرة اللورد موين، ووسيط الأممالمتحدة في فلسطين الكونت فولك برنادوت. ولم يُثر وزير خارجية سورية هذا الموضوع القديم من دون مناسبة، وإنما كان ذلك رداً على اتهامات وجهها إلى سورية ذلك الشخص المطلوب نفسه، والذي كان جالساً أمامه بصفته رئيساً لوزراء إسرائيل. فقد اتهم شامير سورية بأنها تقوم بأعمال إرهابية. ولو سكت شامير عن هذا الموضوع لكان خيراً له وأصلح، إذ كان هو آخر من يحق له أن يتحدث عن الإرهاب وهو الإرهابي المحترف. كانت عملية اغتيال اللورد موين، الوزير البريطاني المقيم في القاهرة، والرجل المحايد الوديع، من أبشع الجرائم التي اوعز شامير بارتكابها. وتحتوي الوثائق البريطانية المحفوظة في مركز الوثائق البريطانية في "كيو" على أكثر من عشرة ملفات تضم البرقيات المتبادلة بين القاهرةولندن على اثر ارتكاب تلك الجريمة، وكذلك على أوراق التحقيق الذي أجري مع المتهمين بارتكابها، وتفاصيل جلسات محاكمتهم. ويظهر منها كيفية تدبير الجريمة وتنفيذها ببرودة دم وهدوء أعصاب. وفي سنة 1944 قرر تشرشل تعيين اللورد موين "وزيراً مقيماً" في الشرق الأوسط على أن يكون مقره في القاهرة. ولم يسبق أن عُرف عن اللورد موين موقف مؤيد للعرب بصورة خاصة، ولا موقف معادٍ لليهود. وقبل انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين أصدر تشرشل قرارين يتعلقان باليهود في فلسطين، وكان تشرشل طيلة حياته السياسية معروفاً بعطفه على اليهود وبتأييده للصهيونية. كان القرار الأول الموافقة على تأسيس "فيلق يهودي". وقام هذا الفيلق بدور أساسي في طرد العرب من قرى الحدود. وأصبح لليهود بنتيجة هذا القرار وجود عسكري شرعي في فلسطين، في الوقت الذي رفض فيه تشرشل تأسيس جيش فلسطيني. أما القرار الثاني، فكان إبعاد بعض العناصر الإرهابية اليهودية من فلسطين، خصوصاً من منظمتي "اتسل" و"ليحي"، ونفيهم إلى اريتريا. وكانت هذه العناصر تقوم بسرقة السلاح من مخازن الجيش البريطاني، ولا تتردد في قتل الحراس البريطانيين. وكان معظم هذه العناصر المنفية من منظمة "ليحي" التي يقودها شامير. فمن هو شامير أولاً؟ إنه يهودي بولوني هاجر إلى فلسطين عام 1935، وأكمل دراسته في الجامعة العبرية في القدس. وفي عام 1937 انتمى إلى المنظمة العسكرية الإرهابية المعروفة باسم "اتسل". وفي أعقاب الانشقاق الذي وقع داخل "اتسل" عام 1940، انضم إلى منظمة "ليحي" الإرهابية ومعناها: المحاربون لأجل حرية إسرائيل، وكان قائدها الإرهابي المعروف يائير ابراهام شتيرن، وقام شامير بدور فعال في الجرائم التي ارتكبت ضد الفلسطينيين حتى عام 1947، وكان اسمه المستعار في منظمة "ليحي" هو "ميخائيل". وكان شامير مسؤولاً عن موت 11 شخصاً من منظمته في الهجوم الذي قاده ضد ورش القطار في حيفا، حيث فشل الهجوم فشلاً ذريعاً. وفي أعقاب مقتل قائد "ليحي" أعاد شامير تنظيم اللجنة المركزية للمنظمة مع الدكتور يسرائيل ايلور ونتابلين مور، وكان شامير الشريك السياسي لثانيهما. وفي هذا الوقت نفته سلطات الانتداب البريطاني بسبب أعماله الإرهابية، ثم عاد إلى فلسطين في عام 1948، ومنذ ذلك الوقت وحتى عام 1955 بقي شامير بعيداً عن الأضواء، فقد شغل خلال الأعوام العشرة التالية منصباً كبيراً في جهاز الاستخبارات "الموساد" وبعدها عمل في التجارة فترة، وفي عام 1975 انتخب رئيساً لحركة "حيروت". وفي سنة 1977 انتخب رئيساً للكنيست، وفي عام 1980 عيّن وزيراً للخارجية خلفاً لموشي دايان، وفي سنة 1983 انتخب رئيساً لكتلة ليكود خلفاً لإرهابي كبير آخر هو مناحيم بيغن. أراد شامير في سنة 1944 أن يردّ على نفيه ونفي بعض أفراد جماعته، وقرر اغتيال الوزير البريطاني المقيم في الشرق الأوسط الذي كان يشرف على تنفيذ تعليمات الحكومة البريطانية، وهو في الوقت نفسه صديق شخصي لرئيس وزراء بريطانيا تشرشل. أوفد شامير لهذه الغاية اثنين من جماعته إلى القاهرة حيث أقاما فيها شهرين درسا خلالهما تحركات اللورد موين ومواعيد ذهابه إلى مكتبه، وعودته منه، ومداخل داره في الزمالك ومخارجها. وفي 6 تشرين الثاني نوفمبر نفذا عملية الاغتيال. ارسل مكتب الوزير المقيم في القاهرة إلى وزارة الخارجية في لندن البرقية الآتية حول هذه الجريمة من مكتب الوزير المقيم - القاهرة إلى وزارة الخارجية - لندن "ما يلي تفاصيل الاعتداء على اللورد موين: على قدر ما يمكن التأكد منه، كان اللورد موين عائداً إلى داره بالسيارة لتناول الغداء في حوالي الساعة الحادية وربعاً، وكانت في السيارة إلى جانبه سكرتيرته، وإلى الأمام جلس مرافقه جنب السائق. ولما دخلت السيارة المدخل الصغير المؤدي إلى الباب الأمامي للدار خرج السائق من السيارة ليفتح بابها للورد موين. فظهر رجلان كانا يلاحقان السيارة، وأطلقا النار على السائق وقتلاه حينما مرّ من وراء السيارة للوصول إلى الباب الأيمن. ثم فتحا باب السيارة وأطلقا على اللورد موين ثلاث طلقات اصابته، ثم لاذا بالفرار راكبين دراجة هوائية. لم يصب المرافق ولا السكرتيرة بأذى. قام الأول أي المرافق بملاحقة القتلة، بينما طلبت الأخيرة السكرتيرة النجدة التي وصلت خلال عشر دقائق. اما الاسعاف الطبي فقد كان في المنطقة خلال ربع ساعة. المرافق أخبر مركز الشرطة القريب، فقامت الشرطة بملاحقة المجرمين، وأوقفت سيارة مارة واستعانت بها للحاق بهما. كما أن دراجة بخارية كانت مارة أيضاً أخبرت بما حصل فلاحق صاحبها المجرمين وسبقهما على مدخل جسر بولاق حيث أطلقت الشرطة عليهما 15 طلقة. وقد حاول أحدهما أن يقابل باطلاق الرصاص، وجرح أحد الشخصين وحوصر الثاني بمساعدة شرطي آخر وصل. أمكن القاء القبض على المجرمين، وقد منح الملك الشرطي الذي تمكن من القاء القبض على القاتل وساماً وأمر بترقيته. كان اللورد في وقت ما يحرسه شرطي مصري في سيارة ترافق سيارته، وكان هناك شرطي حارس في داره ليلاً ونهاراً. وقبل بضعة أشهر استغنى عن سيارة شرطة الحراسة، وكذلك عن الحراسة النهارية للبيت بتعليمات مباشرة من الوزير المقيم نفسه". انتهى FO371/41514 G3956 وعلى أثر القاء القبض على المجرمين بدأ التحقيق معهما وفي اليوم نفسه أرسلت السفارة البريطانية في القاهرة البرقية التالية الى وزارة الخارجية في لندن: من القاهرة السفير الى: وزارة الخارجية لندن الرقم: 2298 التاريخ: 8 / 11 / 1944 الاعتراف التالي أدلى به السجينان المتهمان باغتيال اللورد موين: 1- نحن من أعضاء منظمة "ليحي" المقاتلون من أجل حرية اسرائيل وان العمل الذي قمنا به كان بناء على تعليمات من هذه المنظمة. 2 المنظمة المذكورة تعرف بالعبرية ب"لوحمي حيروت يسرائيل" وهذه هي جماعة "شتيرن". 3 صرح السجينان انهما أرسلا من قبل الجماعة لهدف معين، وهو قتل اللورد موين. السبب الذي أبدياه انه كان رئيساً للدائرة السياسية للحكومة البريطانية في الشرق الأوسط، وانه كان ينفذ سياسة تعارض سياسة الوطنيين اليهود. وقد لفت موقفه نظر جماعة "شتيرن" الذين قرروا قتله. 4 هوية السجينين لا تزال غير معروفة، والإسمان اللذان أعطياهما هما: "موشي كوهين اسحق، وسالزمان. أعطيت هذه المعلومات للصحافة أيضاً". انتهى FO371/41514 وفي وقت تال من اليوم نفسه أرسلت السفارة الى وزارة الخارجية برقية أخرى جاء فيها: "سقط من التقرير السابق أن سالزمان أعرب عن قلق خاص بشأن المحكمة التي سيحاكم أمامها واستفسر هل من الصحيح أنهما سيحاكمان في فلسطين؟ قلت له انهما سيحاكمان في مصر. اما تأليف المحكمة فلا استطيع اخباره به. ثم قال: انه يأمل ان تكون المحكمة بأجمعها مؤلفة من العرب، لأن العرب يتعاطفون مع حركة شتيرن كذا وأن وجود أي شخص انكليزي على منصة المحكمة سيجعلها متحيزة. صرح أيضاً ان جميع اليهود متعاطفون مع جماعة شتيرن، وأن العرب، وعرب فلسطين بصورة خاصة، كانوا يؤيدون الحركة لاقتناعهم بأنه إذا أمكن حمل الانكليز على مغادرة فلسطين، فإن العرب واليهود سيتمكنون من العيش بعضهم مع بعض بصورة ودية صرح سالزمان بأن الاغتيالات التي تنفذ في الوقت الحاضر هي المرحلة الأولية لانتفاضة شاملة، وان جماعة "شتيرن" لا ترى ان هناك وسيلة أخرى غير الاغتيالات لدعم ما اسماه "الحرب"، وقال ان المشكلة الرئيسية للمنظمة في الوقت الحاضر هي المال، وان اعضاءها في كثير من الأحيان يعملون وهم جائعون. ومع ذلك فإنه كان مقتنعاً بأن هذه الحالة موقتة لأنهم يتمتعون بعطف الامة اليهودية وانهم في وقت قريب جداً سيحصلون على دعم فعال، في شكل رجال واموال...". F0 371/41515J3969 وقد ظهر بنتيجة التحقيقات والاستجوابات ان الاسمين اللذين اعطاهما المتهمان كانا كاذبين وان اسميهما الحقيقيين هما: الياهو حكيم والياهو بتسوري او: بيتعزوري، وتم تشكيل محكمة عسكرية لمحاكمتهما برئاسة محمود منصور بك، وانتدبت المحكمة محامين للمتهمين، فرشح لهذه المهمة توفيق دوس باشا، ومحام يهودي معروف اسمه "ابراهيم عريبي" ولكنه اعتذر عن المهمة. كما انتدبت المحكمة للمتهمين مترجماً لان احدهما اصر على الادلاء بأقواله باللغة العبرية، في حين ان الآخر بتسوري تكلم بالانكليزية. وكانت السلطات البريطانية في القاهرة تتابع جلسات المحكمة، وترسل الى الحكومة البريطانية في لندن برقيات متلاحقة. وفيما يلي مقتطفات من برقية السفير البريطاني اللورد كيلرن المرقمة 75 والمؤرخة في 12 يناير 1945: "الجلسة الثانية عقدت صباح اليوم. وأكد بتسوري، الذي تكلم بالانكليزية ادعاءه بأن المنظمة التي نفذ تعليماتها اوصت بشدة بعدم ايذاء أي شخص غير اللورد موين. خصوصاً أي مصري. وواصل افادته واطال في بيان الاسباب التي حملته على الموافقة على ارتكاب الجريمة، فاتهم حكومة فلسطين بسوء الادارة في جميع الدوائر، والشرطة بصورة خاصة، وذلك لتصرفها تجاه الفلسطينيين بصورة استبدادية وغير عادلة. وادعى ان جميع الفلسطينيين أي العرب واليهود كانوا يحاربون لاجل استقلالهم بصرف النظر عن تصريح بلفور، وان بريطانية دولة اجنبية تحاول فرض حكمها تحت ستار الانتداب، والقضاء على حريتهم. اعترض على صلاحية المحكمة وقال ان "محكمة دولية" فقط تستطيع تقدير بواعثهما حقاً. واشار بصورة خاصة الى مقتل ابراهام شتيرن الذي ادعى انه كان جريمة مع سبق الاصرار. المحكمة عاملت المتهمين برعاية عظيمة لئلا تتهم بالتحيّز". "اما الياهو حكيم فان تصريحه كان اقصر، وقد اكتفى بالاشارة الى الحافز.. وقد اصر على ان حكومة فلسطين كانت قد ارتكبت جرائم عنف قبل ان يرتكبا هما جريمتهما. ادعى ان العدل بجانبه وانه لو اخذت حوافزهما بنظر الاعتبار واعتبرت صحيحة لوجب عندئذ تبرئته وتبرئة زميله". من نص برقية السفارة في القاهرة المرقمة: F0 371/416110J176 والمؤرخة في 12/1/1944 المعنونة الى وزارة الخارجية لندن وقال توفيق دوس باشا في دفاعه ان الجريمة سياسية، واكد ان المتهمين يقولان الحق، وانهما لم ينويا قتل السائق، وان التفرقة بين الجريمة السياسية وغيرها معمول بها في جميع البلاد وان قواعد تسليم المجرمين لا تنطبق عليهما. ووجدت المحكمة ان الجريمة هي جريمة قتل عمد مع سبق الاصرار واصدرت حكمها باعدام المتهمين، على الرغم من بعض الوساطات ومحاولات التدخل تم تنفيذ الاعدام بحقهما شنقا في 28 مارس سنة 1945. *** ومرت على الحادث 35 سنة شهدت احداثاً جساماً، وفي سنة 1980 عقدت معاهدة كامب دافيد بين انور السادات ومناحيم بيغن. وعلى اثر عقدها طلب بيغن إلى السادات ان تسلم مصر الى اسرائيل رفات الارهابيين اليهوديين لدفنهما في اسرائيل. فاستجاب الرئيس المصري لهذا الطلب الصفيق، وتم نقل الجثتين الى اسرائيل. وعلى اثر وصولهما ملفوفين بالعلم الاسرائيلي جرى دفنهما في احتفال برعاية بيغن رئيس وزراء اسرائيل في ذلك الوقت، وبحضور شامير، وقد اشادت بهما الصحف الاسرائيلية كبطلين شهيدين. وكان شمعون بيريز، زعيم حزب العمل الاسرائيلي، قد اعلن في ذلك الوقت استنكاره للارهاب، ووصف المنظمات الوطنية الفلسطينية بانها منظمات ارهابية. وفي اليوم التالي لادلائه بهذا التصريح مباشرة، حضر الاحتفال بدفن بقايا رفات الارهابيين اللذين قتلا رجلين بريئين عمداً ومع سبق الاصرار والتخطيط، وعملاً بتعليمات منظمة ارهابية يتظاهر عضوها السابق ورئيس وزراء اسرائيل اللاحق شامير، بشجب الارهاب، وينبز به الدول العربية والمنظمات الفلسطينية الوطنية، ويرفض التعاون معها لانها ارهابية، ويتباكى على السلام الضائع، وهو اول من مارس الارهاب في المنطقة