تضج مناطق لبنان ب"عجقة" سياحية، تختلط في فنادقها ومقاهيها البشرة السمراء والشقراء، وتتناقض اساليب الملبس وتقاليده. هذا هو لبنان مستعيداً عزّه التليد، ملاذاً للاصطياف العربي ومقصداً مميزاً لسياح اوروبيين واميركيين وآسيويين. لقد ثبت لبنان موقعه هذه السنة على الخريطة السياحية العالمية بعدما حقق قفزة في اعداد السياح الوافدين اليه في تموز يوليو والبالغة 225.366 سائحاً. ويعني هذا الرقم زيادة في عدد السياح الداخلين في الشهر السابع بلغت 26.18 في المئة بالمقارنة مع تموز 2003. فيما شكل عدد السياح الوافدين في الاشهر السبعة الاولى من هذه السنة قفزة نوعية لبلوغه 731.733 سائحاً بالمقارنة مع 527.064 سائحاً في الفترة نفسها من العام الماضي. هذه المؤشرات اللافتة في عدد السياح لهذه السنة، والبارزة في الازدحام "فوق العادة" في مناطق السياحة والاصطياف، ستتجاوز صفة "الواعد" التي أُطلقت على توقعات الموسم، اذ يرتقب ان يتجاوز عددهم الرقم المحقق العام الماضي مليون و15 الف سائح ولا تشمل هذه الارقام اللبنانيين المغتربين والعاملين في الخارج، اضافة الى الزوار السوريين والفلسطينيين. كما لا يندرج ضمنها السياح الاوروبيون الذين ينزلون في مرفأ بيروت، بعدما اصبح محطة على جدول رحلات بحرية سياحية اقليمية، يمضون يوماً سياحياً في ربوع المناطق الساحلية والجبلية. لقد أعاد هذا الموسم لبنان الى عزّ السبعينات، وهو موسم "غير مسبوق" لجهة نسبة الاشغال في الفنادق او استئجار الشقق المفروشة خصوصاً في مناطق الجبل، او لجهة حركة استئجار السيارات، مع العلم ان معظم السياح لا سيما منهم العرب او اللبنانيين العاملين في الدول العربية أتوا في سياراتهم وتشير الى ذلك نسبة السيارات في الطرق التي تحمل لوحات من دول الخليج. النهضة التي يشهدها القطاع السياحي في لبنان تدرجت طيلة سنوات العقد الماضي، مع العلم ان لبنان لا يزال وجهة سياحية "نخبوية" ومركزاً مميزاً للمنتديات والمؤتمرات، اذ لم يتوصل بعد ليلبي متطلبات "سياحة المجموعات" لافتقاره الى البنية التحتية من فنادق ب"نجوم اربعة" وما دون فضلاً عن المواصلات والتسهيلات الاخرى التي تتناسب وموازنات الطبقات المعنية. وعلى رغم ذلك تمكن لبنان من ان يحقق تطوراً في هذا القطاع مشكلاً رافداً اساسياً في الاقتصاد في ظل تراجع حصة القطاعات الاخرى. واسهمت في هذه "النهضة" عوامل كثيرة، منها تسويق لبنان في العالم عبر وسائل الاعلام العالمية وفي المكاتب السياحية في الخارج وعن طريق شركات السفر والسياحة اللبنانية فضلاً عن الاستقرار الامني. اما العامل الخارجي فيتمثل بتداعيات احداث 11 ايلول سبتمبر التي ساهمت في تحوّل العرب الذين كانوا يتجهون الى اوروبا والولايات المتحدة الى لبنان، مع العلم ان لبنان كان ملاذاً للعرب لقضاء عطلة الصيف، خصوصاً في مناطق الاصطياف الجبلية. والدليل على هذا الاقبال العربي حركة تملّك العقارات سواء الاراضي لبناء القصور او الفيلات او الشقق في المشاريع العقارية القائمة او قيد الانشاء في مختلف المناطق. وترجمت الارقام المسجلة في حركة السياح العرب هذا الاقبال الى لبنان، اذ احتلوا في تموز، وكالعادة، المرتبة الأولى في عدد السياح الوافدين وبلغ عددهم 114.567 من الاجمالي السعوديون اولاً وعددهم 53.277 سائحاً، الكويتيون 18.688، الاردنيون 14.497 ما يزيد بنحو 33 في المئة عن العدد المسجل في الشهر نفسه من العام الماضي. ويأتي الاوروبيون في المرتبة الثانية اذ بلغ عددهم في تموز نحو 54 ألفاً بزيادة نسبتها 17.7 في المئة عن عددهم في تموز 2003، وحل الاميركيون في المرتبة الثالثة ليصل عددهم الى 23.979 سائحاً بزيادة نسبتها 22 في المئة. فيما بلغ عدد اللبنانيين في تموز 279.483 سائحاً. واحتل العرب المرتبة الاولى في عدد السياح في الاشهر السبعة الاولى من السنة، وبلغ عددهم 298.137 سائحاً، تلاهم الاوروبيون 201.560، ثم الاميركيون 95.993، فالآسيويون 92.619. الوزير الجرّاح الدكتور علي عبدالله الطبيب الجراح المنكبّ على مستشفاه الخاص قرب منزله في منطقة البقاع اللبنانية، وجد نفسه فجأة وزيراً للسياحة، لكنه لم يستطع الانتقال للسكن في العاصمة بيروت حيث مركز الوزارة، فراح يقتنص وقتاً لاجراء عمليات جراحية في مستشفاه احياناً، وقد يعود الى منزله البقاعي بعد منتصف الليل اثر اجتماعات عمل طويلة، خصوصاً في موسم سياحي ساخن هذه الايام. عندما التقينا الوزير عبدالله في مكتبه في الوزارة قرب شارع الحمراء واستعدنا ذكريات ربع قرن ونحن نلج المبنى الذي كان مقراً للمجلس الوطني للسياحة، مرّ في البال شريط السياحة المزدهرة في الستينات واوائل السبعينات من القرن الماضي، مع تلك الاعداد الكبير من ابناء الخليج والبلدان العربية الاخرى تأتي لتمضية اشهر الصيف في لبنان وتحتار فنادق البلاد في أمر اقامتهم، حتى ان المستشفيات كانت تستقبل سياح الاستشفاء نظراً الى سمعتها الطيبة، لكن دوام الحال من المحال. فلبنان فقد خلال اكثر من ربع قرن بريقه السياحي لأن دول الخليج اصبحت لها مرافقها السياحية الأفخم ولأن الحرب في لبنان حوّلت أنظار السياح نحو مناطق عربية اخرى. لم يعترض الدكتور عبدالله على هذه المقاربة التي بدأنا بها الحوار عندما قلنا له بأن وزارة السياحة اللبنانية هي وزارة حيوية باعتبارها وزارة المورد الأول للبلاد قياساً بالدول الأخرى، فهل هناك صناعة سياحية حقيقية وما هو دور الوزارة فيها. رد قائلاً : "لبنان بلد صغير لكن تنوعه السياحي جيد ومشكلتنا الحقيقية هي افتقارنا الى السياسة السياحية وخطط تطوير هذا القطاع وجذب المزيد من السياح الى بلدنا، فغياب لبنان لمدة عقدين تقريباً عن الخارطة السياحية العربية والدولية خلق ثغرة زمنية ومكانية كبيرة بالنسبة اليه، ونحن حتى الآن لا نستطيع استقطاب السائح من مناطق بعيدة في العالم لأننا لا نستطيع حسب المعطيات الحالية استقبال رحلات الطيران البعيدة، وبطبيعة الحال السائح يريد الرحلة المريحة واختصار الوقت. وهنا لا بد ان نذكّر بحقيقة وهي ان السائح لن يمضي اكثر من اسبوع في بلدنا لصغر مساحته، لكن لبنان وجد حلاً مرحلياً للحصول على حصة من السياحة الى المنطقة الشرق الأوسط بابرام اتفاقات "باكيج" اي شراكة مع الدول المجاورة مثل سورية وتركيا والأردن ومصر لإدخال لبنان في برامج رحلاتها السياحية الطويلة للقادمين من مناطق بعيدة في العالم فالدول المذكورة لديها رحلات طيران مباشرة مع القارتين الأميركية والأسترالية لم يتحدث الوزير عن المكاتب والشركات التي تقوم بترتيب برامج "الباكيج" مع لبنان وقد تبين ان معظمها ليس لبنانياً كانت تلك هي الطريقة الوحيدة لنيل حصتنا من السياحة الى المنطقة". وسألنا الوزير عن وسائل الجذب التي تعتمد عليها وزارة السياحة والقطاع الخاص الذي يعمل لمصلحة السياحة لجذب المزيد من السائحين الى لبنان مع افتقاره الى المرافق المشابهة في دول مجاورة وبعيدة مثل المدن الترفيهية والشواطىء المميزة والخدمات مع تنامي الحديث عن تضاؤل اعداد السياح الفعليين من دول الخليج العربية الى البلاد وتفضيلهم تملك العقارات الخاصة بهم مما يفوت فرصة كبيرة على الفنادق والمرافق السياحية. أجاب الوزير عبدالله: "نعم لدى دول الخليج الآن الكثير من الاستثمارات السياحية الفائقة الجودة وهي موضع اعجاب من الجميع، ولا شك بأن تناقص اعداد السياح الخليجيين عما كان عليه الحال قبل ثلاثين عاماً ملموس للجميع فلديهم أجمل الشواطئ والفنادق والمنتجعات والمدن الترفيهية وسياسة الانفتاح على الآخر التي تميز بها لبنان قبل عقود اصبحت سمة عامة للمنطقة، ولكن هذا لا يعني ان لبنان يفقد تفرده تماماً فالسياحة الأثرية والبيئية والدينية ما تزال مقوماتها خاماً لم تستغل ومن هنا ندعو دائماً لتعميق الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص في هذا المجال. وهنا لا بد من الاعتراف بحقيقة مرة وهي ان الدولة اللبنانية لا تملك القدرات المالية للقيام بهذا العبء وتحسين مستوى صناعة السياحة في بلدنا وتنويع مواردها، لذلك انا ادعو اليوم وبإلحاح الى قيام تعاونيات سياحية على كامل الأراضي اللبنانية، خصوصاً المناطق الريفية لأن الخارطة السياحية لبلدنا تشير الى امكان قيام صناعة سياحية مهمة تساهم بفعالية في تنمية الريف والبلاد عموماً وتشجع سياحة الاصطياف التي تبدو مهملة تماما الآن وعدم حصر الاستثمار السياحي في العاصمة وربما بعض المدن الساحلية الرئيسية". ويتابع وزير السياحة: "بين يديّ مرسوم يعود تاريخه الى العام 1955م يحدد مواقع الاصطياف في لبنان على انها 81 بلدة فقط، وتزامن صدور المرسوم مع ظهور المجلس الوطني للسياحة، ونحن نرى الآن ان كل بلدة ترتفع الف متر عن سطح البحر هي موقع اصطياف، وهكذا يمكن رفع عدد مواقع الاصطياف الى أكثر من 300 بلدة. وهنا أرجو لفت الانتباه الى ان معظم المغتربين الموسرين من اللبنانيين في الخارج هم من ابناء الريف وهذه البلدات، ونحاول تقديم تسهيلات كثيرة لهم وندعوهم باستمرار الى الاهتمام بالاستثمار السياحي في مناطقهم لأنه قادر على ايجاد فرص عمل وخلق تنمية متواصلة". سألناه عن عدم الانضباط الواضح بالتسعيرة الثابتة في المرافق السياحية وارتفاع نسبة الشكاوى من المشغلين لبعض المرافق، كذلك تلك الدعوات الى عدم الخروج عن الآداب العامة في الشواطىء مناشدة مجلس الإفتاء لمرتادي الشواطىء وحديث البطريركية المارونية عن الإعلانات الفاضحة في الطرقات وما اذا كان صعباً مراقبة الموسم السياحي، فأجاب: "قضية الإعلانات الفاضحة لا دخل لوزارة السياحة فيها، بل هي من صلب عمل البلديات ووزارة الداخلية أما بالنسبة الى الضابطة السياحية فإنني اعلنها صريحة: لا امكانات بشرية لدينا للقيام بما يلزم بحيث نمنع الاستغلال والتسيب بصورة جيدة، وقد اضطررنا هذا العام للتعاون مع مئات الطلبة من كليات السياحة والفندقة والاختصاصات ذات الصلة وكمتطوعين للقيام بمهام الضابطة السياحية. ان موظفي الأمن السياحي في لبنان قليلون ولم تتم تعيينات جديدة في الوزارة منذ سنوات ومن الحقائق المرة ان موظفاً جشعاً في منشأة سياحية قد يدمر سمعتها ونسعى الآن للحصول على موافقة من جهات الاختصاص لتوظيف مئات الخريجين بعد انهاء العقبات امام مشروع تنشيط سياحة المجموعات الى لبنان، فهذا اللون من السياحة غائب كلياً ويحتاج الى كادر من الموظفين تتحمل نفقاته عائدات هذه السياحة لو تمت وبصورة منظمة ومدروسة فالجميع يعرف ان التأشيرات الجماعية للمجموعات السياحية صعبة لا بل مستحيلة في بلدنا، واظن ان التنمية السياحية في الاتجاهات التي ذكرت قد تحل جزءاً لا بأس به من مشاكل البطالة في لبنان وانعاش اقتصادنا وربما يكون صائباً تشكيل هيئة عليا للسياحة تتمثل فيها كل الوزارات الخدمية والبيئية والداخلية والخارجية ايضاً واطراف اخرى، فما من باب اسرع وافضل لتنمية مواردنا، واقول للمراهنين على الصناعة او الزراعة ان الموارد السياحية أسرع في الوصول خصوصاً ان نسبة الزيادة في اعداد السياح الى بلدنا هذا العام ارتفعت بمعدل 45 في المئة عن الأعوام السابقة على رغم كل المعوقات. اخيراً سألنا الوزير عبدالله عما يتردد عن آفاق رحبة لسياحة دينية يتم الإعداد لها من مختلف الطوائف اللبنانية، وكيف يمكن ان تدخل هذه السياحة مناطق كثيرة الى قلب عملية التنمية الشاملة؟ فرد بأن الأمر على طاولة البحث فعلاً، فلبنان له مقام رفيع في الديانات السماوية في جميع انحاء العالم وقد تشكل هذه السياحة علامة فارقة بالنسبة الى بلدنا في العقود المقبلة. اما اعادة تأهيل مواقع تاريخية مهمة في البلاد كانت تحت سلطة الأحزاب والميليشيات الفاعلة في الحرب وتعرضت لأضرار القصف والتخريب وجرى التنقيب فيها بصورة غير مشروعة، فهذا من اختصاص وزارة الثقافة وهيئات المجتمع المدني والبلديات"