«موديز» ترفع تصنيف السعودية إلى «Aa3» مع نظرة مستقبلية مستقرة    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    التعادل الإيجابي يحسم مواجهة الأخدود والشباب    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    وفد طلابي من جامعة الملك خالد يزور جمعية الأمل للإعاقة السمعية    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    منتدى المحتوى المحلي يختتم أعمال اليوم الثاني بتوقيع 19 اتفاقية وإطلاق 5 برامج    «الصحة الفلسطينية» : جميع مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الملافظ سعد والسعادة كرم    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فشل تكتيكي ونجاح استراتيجي كيف غرق الاميركيون في رمال العراق المتحركة وكيف يخرجون؟
نشر في الحياة يوم 26 - 04 - 2004

شكلت التطورات الميدانية التي شهدها العراق، منذ بداية الشهر الجاري، انتكاسة واضحة لمسار الاستراتيجية الأميركية في العراق. وبعدما كانت القوات الأميركية تتحرك في بلد لا تجد من ينازعها فيه السلطة ولا النفوذ، وجدت نفسها في أسابيع قليلة في مواجهة وضع نشأ في كنفها وأثار اتهامات لقادتها في بغداد وواشنطن بأنهم هم الذين أتاحوا بروز قوى معارضة للولايات المتحدة قادرة على حرف سياستها، وعلى حمل السلاح في وجه جنودها.
وتعتبر الأوساط السياسية في بغداد ان الأميركيين نجحوا في احتواء الأزمة الحالية موقتاً، وأنهم استعادوا إلى حد ما زمام المبادرة، بعدما بدا لوهلة وكأن العراق بات على وشك الخروج من أيديهم، بعد أقل من عام على سقوط النظام السابق وقواته، وفراغ الساحة العراقية من أي خصم محتمل قادر على تهديد التفوق الاستراتيجي الاميركي.
وتربط الأوساط السياسية المختلفة بين خطوات "الاحتواء" التي بوشر بتطبيقها، وبين تمكن الأميركيين من تعديل سياستهم في العراق بشكل سمح، إلى حد ما، بالمزاوجة بين "العسكري" و"السياسي" ومنع تحول العراق إلى ساحة انتفاضة تطيح كل التوازنات الهشة التي سادته منذ عام، والتوازنات الأخرى الاقليمية التي امتزجت بقوة في الشهور الماضية بالوضع العراقي، نتيجة اندفاع "الثور" الأميركي الهائج إلى حلبة الشرق الأوسط، واستهدافه المعلن للأنظمة.
وبدا الوضع مثيراً للارتباك على مدى أيام طويلة بدت فيها الشاحنات العسكرية والمدرعات والآليات الأميركية المحترقة على جوانب الطرق، وأطراف مدينة الفلوجة ومدن الوسط والجنوب، وكأنها عنوان مرحلة انهيار كامل.
وفجأة انحسر الاهتمام السابق بالشأن السياسي، وتراجعت أهمية كل المؤسسات التي جهد الأميركيون على مدى عام لبنائها وإقامة هيكل دولة بديلة، يكون نجاحها عنوان انتصار سياسي لهم على نظام صدام حسين بعدما نجحوا في اقتلاعه وحل قواته وأجهزة دولته.
وبعدما كان المراقبون يعتبرون أن العراق يخطو خطوات حثيثة على طريق التعافي السياسي واستعادة إيقاع حياة سياسية طبيعية، بعدما صار ساحة لخلافات ومشاحنات سياسية انطلقت في كل اتجاه خلال الشهور الماضية، حول موضوع الدستور والانتخابات ومجلس الحكم والسيادة واستعادة السلطة في الوزارات والادارات التنفيذية، وبدأ الحديث عن بناء تحالفات تقلص عدد الأحزاب الهائل الذي وصل حد وصفه بالتلوث الحزبي أكثر من 400 حزب ولدوا خلال عام، اختفت من واجهة الأحداث صورة المسؤولين العراقيين الذين اعتادهم المواطنون العراقيون، وبات العميد مارك كيميت، قائد العمليات العسكرية في العراق الوجه الاعلامي الذي يطلع من خلاله العراقيون والعالم كل يوم على ما يجري. وبدا لوهلة وكأن الحرب قد عادت تلقي بأوزارها في العراق واستعاد المشاهدون داخل العراق وفي العالم ذكرياتهم المشوبة بالقلق البالغ التي عرفوها قبل أكثر من عام، حينما كان القادة العسكريون الأميركيون يطلعونهم يوماً بيوم من قاعدة السيلية في الدوحة، على تطورات الموقف الميداني.
وبينما اختفت لغة السياسة، بدا العراق وكأنه لم يشهد أياً من المداولات والتغيرات السياسية التي قادته خلال 12 شهراً ليعود إلى حضن الأمم المتحدة، وليكون قاب قوسين أو أدنى من اطلاق عملية سياسية ستزوده بالمؤسسات السياسية الانتقالية اللازمة لادارة انتقاله من عهد الاحتلال الأميركي إلى عهد استقلال يصوغ فيه هويته الجديدة في الشرق الأوسط الجديد.
ماذا حدث ؟
يعتبر المراقبون ان الأميركيين أخطأوا تكتيكياً ولم يخطئوا استراتيجياً في سعيهم إلى احتواء القوى المناهضة لهم، قبل اسابيع من موعد تسليم السلطة. إلا ان عدم تقديرهم الموقف الأمني بدقة هو الذي أدى بهم إلى الأخطاء التي كاد تراكمها يفضي إلى انهيار الوضع في العراق.
وكان بديهياً أن القادة العسكريين أنهوا خلال الشهور الأخيرة، عقب اتخاذ واشنطن قراراً بالتراجع عن موقفها السابق الذي كان يشترط إقرار الدستور قبل السيادة والقبول بمبدأ السيادة قبل الدستور، اعداد خطط عسكرية تكفل "تأمين" الوضع الميداني، قبل تسليم الأمن على الأرض، إلى قوات الشرطة وقوات الدفاع المدني وقوات الجيش الجديد لدى انتقال السيادة في 30 حزيران يونيو.
وبقدر ما تسارعت الخطوات لاقامة المؤسسات الأمنية العراقية، بقدر ما بدا واضحاً للقادة العسكريين الأميركيين أن أنواع المخاطر الموجودة تتمثل في الجماعات المناهضة لهم في محافظتي الأنبار وصلاح الدين، على الصعيد السني. أما على الصعيد الشيعي فكان الخطر ماثلاً في شخصية السيد مقتدى الصدر الذي يحرك كتلة كبيرة من الأنصار، ممن لا يمكن التنبؤ بأنماط سلوكهم ومدى قدرتهم على النزول إلى الشارع وحمل السلاح.
وإذا كان الرد على المعارضة المسلحة السنية أتى عبر استقدام قوات المارينز إلى الأنبار بقصد "تأديب" عشائر المحافظة لاسيما في مدينة الفلوجة، إلا أن الرد على مقتدى الصدر تمثل في تحييده شيعياً، في ظل ظروف دقيقة للغاية داخل الساحة الشيعية التي كانت قد استنهضت أخيراً، بعد اقرار الدستور الموقت، أو قانون الادارة الانتقالية، الذي اعتبره الشيعة مهيناً لهم لأنه نجح عملياً في تحويلهم إلى أقلية مساوية سياسياً للسنة والأكراد، وان كانوا يؤكدون أنهم يشكلون غالبية عددية.
وحاول الأميركيون قبل شهرين الاستعانة بمئات من عناصر الشرطة الشيعة في مدينة البصرة واستقدامها إلى النجف لاعتقال مقتدى الصدر وتدمير مراكزه، "ليذهب دمه بين الشيعة" في حال قتل أثناء اعتقاله، إلا ان المحاولة فشلت.
وأكدت مصادر أمنية عراقية، أن الأميركيين على رغم انزعاجهم من مقتدى الصدر، تجنبوا التفكير في اغتياله صراحة، على رغم أنهم درسوا بعض اقتراحات قدمت من قبل وحدات تابعة لأجهزة الاستخبارات الأميركية في بغداد، جندت مجموعات من القتلة المحترفين ممن كانوا يعملون في أجهزة الاستخبارات العراقية السابقة.
إلا ان الخيارين الأول والثاني لم يطبقا. وتقرر التحرك على أساس استدراج مقتدى الصدر إلى "منازلة" على الأرض يتم فيها تقييد حركته وإضعافة لدفعه إلى الانخراط في العملية السياسية والدخول، ربما، في المجلس المؤقت الذي سيكون دعامة نقل السلطة.
وفي هذا الاطار تندرج عملية "الاستفزاز" التي قامت بها القوات الأميركية عبر اغلاق مقر جريدة "الحوزة الناطقة" التابعة للسيد مقتدى الصدر، في ساحة الحرية في بغداد لمدة 60 يوماً مطلع الشهر الجاري. وبدا المسؤولون الأميركيون الذين يتناولون موضوع مقتدى، سواء في مكتب الحاكم المدني للعراق السفير بول بريمر أو في القيادات العسكرية الأميركية، متشددين للغاية بحقه، وأطلقوا تهديدات ووعيداً بصورة عززت الانطباع بأن ما حدث بعد ذلك من عجز عن احتواء "جيش المهدي" أو أنصار الصدر، إنما كان نابعاً عن سوء تقدير منذ البداية من قبل المسؤولين الأميركيين.
وفي محافظة الأنبار، أثارت المعلومات التي تسربت منذ منتصف آذار مارس الماضي، عن خطة أميركية لمحاصرة مدينة الفلوجة لمدة شهر، في وقت كان يجري فيه استبدال 25 ألفاً من الفرقة الأولى لمشاة البحرية المارينز، بقوات الجيش الأميركي التي كانت ترابط هناك، منذ عشرة شهور، الشكوك بأن الأميركيين انما استقدموا القوات اللازمة لتحييد الفلوجة، التي تعتبر القلب النابض لنشاط المقاومة ضد القوات الأميركية في محافظة الأنبار التي يقطنها مليونا نسمة وتغطي ثلث مساحة العراق البالغة 430 ألف كلم2.
ومنذ اليوم الأول لوصولهم اصطدم المارينز بالمجموعات المسلحة المحلية وتكبدوا خسائر كبيرة هزت ثقتهم بأنفسهم. وبعدما كان جنود الجيش الأميركي _ الذين ينظر إليهم المارينز باستعلاء باعتبار أن الجيش يقوم بمهام روتينية من حراسة وطبخ واعتقال واشتباكات بسيطة في حين ان المارينز هم وحدات النخبة لاقتحام ميادين القتال- لا يجرؤون على المرور في الفلوجة أو جوارها إلا في مركباتهم العسكرية، أظهر المارينز رغبتهم في التحدي عبر تسيير دوريات راجلة ووزعوا منشورات تحذر السكان من إيواء المسلحين في المدينة وتنذرهم بالمطاردة والقبض عليهم. واستفزت هذه التحذيرات والتهديدات الأخرى التي أطلقها المارينز في شوارع المدينة بأن معهم قناصة قادرين على اصابة أي شخص مسلح، ولو من مسافات بعيدة، السكان، في وقت كانت المدينة تغلي، بعدما زاد فيها عدد الراغبين في الثأر من أبناء العشائر، انتقاماً من انتهاكات القوات الأميركية طوال الشهور الماضية، على عدد الذين يقاتلونها لأسباب سياسية أو أيديولوجية.
"نزهة" الاميركيين
وبعدما كان الأميركيون يعتقدون بأن الأمر سيكون نزهة يتيح لهم تفوقهم التكنولوجي وقوتهم النارية الهائلة حسمها لمصلحتهم، ارتبك الموقف فجأة. وحاول جنود المارينز الدخول إلى حي النزال والجولان والحي الصناعي وأحياء أخرى في الفلوجة، إلا أن المقاومة الشرسة التي واجهتهم في هذه الأحياء، والقتال العنيف من بيت إلى بيت، أطاحا عامل التفوق التسليحي الذي استندت إليه قرارات المخططين العسكريين. فاضطروا إلى اللجوء إلى الابتكار في وقت بدا واضحاً ان اخفاق العسكريين واستخدامهم السلاح الثقيل والطائرات في دك الأحياء المدنية قد أزعج الادارة الأميركية في واشنطن، وأظهر ما يجري على أنه حرب جديدة تخوضها الولايات المتحدة في العراق، لكن هذه المرة ضد السكان، وضد مسلحين يخوضون حرب عصابات قادرين على الاندساس في صفوف المواطنين والاحتماء بهم.
وجاءت عمليات اختطاف الرهائن الغربيين والأجانب وفراغ العراق بسرعة من الخبراء الأجانب لتلقي بظلال قاتمة على الأوضاع الأمنية، ولتظهر المشروع السياسي الأميركي وكأنه على وشك الانهيار.
أما عناصر ميليشيا "جيش المهدي" الذين يتهمهم خصومهم بأن عدداً كبيراً منهم يحمل السلاح بعدما يتناول عقاقير الهلوسة، للحصول على مزيد من الشجاعة في قتال الأميركيين وقوات التحالف، فاستطاعوا رد القوات الأميركية في مدينة الشعب ومدينة الصدر وأحياء كثيرة في بغداد وطردوا القوات الأوكرانية في الكوت واشتبكوا مع القوات البريطانية في البصرة وفي العمارة ومع القوات الاسبانية في النجف والبولندية في كربلاء والإيطالية في الناصرية.
وترسخت فجأة قناعة لدى القادة الميدانيين الأميركيين مفادها أن ضرب مناوئيهم داخل المدن سيكون مكلفاً، وهو سيكون مختلفاً بكلفته الباهظة سياسياً ودولياً إلى حد كبير عن كلفة اقتحام منزل أو دهم مكتب حزب سياسي. ووجد الأميركيون أنفسهم في مواجهة حالة لا يتوقعونها: حالة انتفاضة مقرونة باستعداد لخوض حرب عصابات تلقى مساندة السكان.
وعلى الأثر تحرك الأميركيون في شكل عملي، وبينما كانت بعض الفضائيات تقدم صورة ساخنة ومبالغاً فيها عن حقيقة ما يجري، تمكنت القيادة العسكرية الأميركية في العراق من السيطرة على الانتفاضة عبر إجراءات عدة، سمحت للقيادة السياسية على الأرض بالتحرك مع إيجاد دور للحلفاء العراقيين الذين كانوا غيبوا لفترة من الساحة.
وسمحت الخطة الأميركية المؤلفة من شقين باحتواء انتشار الانتفاضة ومنعها من التحول إلى حالة شعبية.
وتم تطويق الفلوجة، في حين حوصر الصدر في النجف والكوفة. وفي الوقت ذاته تمت السيطرة على مناطق "التمرد" الأخرى واستعيدت السيطرة على الكوت والعمارة والبصرة والناصرية وكربلاء.
ولجأت القوات الأميركية، التي درست تكتيكات القوات الاسرائيلية في الأراضي الفلسلطينية إلى اتباع سياسة انهاك متعمد تذكر بالحصار الاسرائيلي للقرى والمدن الفلسطينية، فتم أولاً فرض حصار على الفلوجة وأحيائها. وكذلك الأمر في النجف. وجرى نشر قناصة لاصطياد المقاتلين العراقيين، إلا أن تجاوزات هؤلاء القناصة تخطت بكثير الدور العسكري المناط بهم، في ظل غياب أي محاسبة لهم على جرائم قتل كثيرة ارتكبوها بحق مدنيين عزل في الفلوجة وفي النجف ومحيطها أيضاً.
كذلك تم تقييد الخدمات العامة البسيطة وحفر خنادق ونشر قوات في خطوات استعراضية واستفزازية هدفها ارعاب السكان.
ونقلت هذه الضغوط المعركة مع المناهضين للوجود الأميركي من القتال لأغراض سياسية ورفض الاحتلال، إلى معركة تتمثل بالافلات من الضغوط الأميركية الخانقة ذات الطابع المعيشي البحت. وصار ممثلو سكان مدينة الفلوجة البالغ عددهم 530 ألف نسمة يفاوضون من أجل ابعاد القوات الأميركية بضعة كيلومترات عن مدخل المدينة، أو عن مستشفى الفلوجة العام، أو من أجل السماح بإدخال مؤن أو مساعدات غذائية. وصارت المسألة برمتها قاصرة على مطالب آنية.
واستخدم المفاوضون الأميركيون تكتيكات غاية في الذكاء لارهاق محاوريهم. وبعدما انطلقت المفاوضات في البداية حول مسألة تسليم الذين مثلوا بجثث الأميركيين الأربعة، أضيفت لائحة أخرى منها تسليم المقاتلين الأجانب وتسليم السلاح الثقيل وقوبلت الشروط بشروط مضادة تتضمن اخراج قوات الاحتلال وفك الطوق عن المدينة.
واحتار المفاوضون، وبعضهم من أعضاء مجلس الحكم، في الوصول إلى حل مشترك، في وقت بدا واضحاً أن القادة الميدانيين الأميركيين، الذين تصرفوا باستمرار من دون الالتفات إلى استشارة الحاكم المدني بول بريمر أو ابلاغه بنياتهم مسبقاً، انما يريدون تحقيق هدفهم الأساس من المعركة وهو تحييد مدينة الفلوجة وكسر معنويات المقاومة في محافظة الأنبار قبل 30 حزيران يونيو، موعد تسليم السيادة والسلطة إلى العراقيين.
أما في النجف فتم تطويق الصدر، وسط آراء متضاربة عصفت بالقيادة الأميركية. وبعد الحملة النفسية الشرسة والمذهلة التي شنها الأميركيون وتأكيدهم، باسلوب أبعد ما يكون عن لغة السياسيين، أو لغة المؤتمرات الصحافية، نيتهم قتله أو أسره، عادوا واستجابوا لآراء السياسيين.
وتم التحرك على هذا الصعيد على نطاقين: الأول سياسي داخلي، من خلال تجنب استفزاز الحوزة العلمية مع السعي إلى استغلال عدم تأييد غالبية السكان في النجف أو كربلاء للسيد الصدر، وبالتالي افراغه من أي دعم شعبي. والثاني، ابعاد إيران عن اللعبة.
وقبل ايام أضيف فجأة بند تعجيزي عرقل المفاوضات التي كانت تدور حول سبعة إلى تسعة بنود، وتضمن ضرورة حل "جيش المهدي". وتزامن البند التعجيزي مع رفض أميركي علني لأي وساطة إيرانية. وقال مصدر في مجلس الحكم إن "مقتدى الصدر خسر 50 في المئة من قوته بعد توجيه انذار إلى إيران للكف عن دعمه وهو ربما يحاول الآن الخروج بحل يحفظ ماء وجهه".
واضاف المصدر: "الرسالة لطهران كانت بالكف عن دعم "جيش المهدي"، وإلا فإن ذلك سيكون مبرراً لرد فعل عدائي ضد إيران. وابلغ وسيط طهران بالرسالة ما أدى إلى لقاء بين الرئيس محمد خاتمي والمرشد علي خامنئي، والتفاهم على الانسحاب من اي دور إيراني مباشر في الساحة".
وتابع قائلاً: "أما مجلس الحكم فهو منقسم بخصوص مقتدى الصدر. فهناك تيار يقول ان بالامكان استيعاب هذا الشخص وهو تيار اسلامي يريد استيعاب مقتدى وجمهوره. وتيار استئصالي يريد أن يستوعب جماعة الصدر، على اعتبار أنهم جماعة والده وأنصار مدرسة الصدر فقط، وليسوا أنصار مقتدى الذي يريد هذا التيار التخلص منه كعنصر تشويش في المعادلة السياسية".
وفي حين أن عامل الوقت يلعب لمصلحة الأميركيين في ما يخص الصدر الذي تحركت عشائر الفرات الأوسط لابداء دعمها للحوزة العلمية، مع تأكيد عدم رغبتها في القتال وراءه، فإن عامل الوقت قد لا يكون يلعب لمصلحتهم في غرب العراق، وفي مدينة الفلوجة تحديداً.
ويقول أحد الوزراء المطلعين على سير المفاوضات: "مقتدى سيصبح شهيداً وبطلاً لو قتل أو أسر. وهذا ما بات يدركه الأميركيون الذين يراهنون على أن تيار الغالبية في الصف الشيعي، بإيحاء من الحوزة، قد يعمل على عزله وأنصاره خلال الفترة المقبلة، لأن ما يقدمونه من طروحات لا يندرج في إطار مشاريع التسوية السياسية العقلانية التي يجري البحث فيها لاخراج العراق من وضعه الحالي وتحريره من الاحتلال، ولو جزئياً لأن الحوزة تدرك أنه لو انسحب الأميركيون اليوم فسيكون البديل حرباً أهلية تدمر العراق".
ويضيف : "أما في الفلوجة فالوضع مختلف، والقوات الأميركية قادرة على دخول المدينة بعدما انسحب أغلب المقاتلين منها، باستثناء مقاتلي التكفير والهجرة وبعض المقاتلين المحليين. إلا أن ذلك لن يفيد الأميركيين في شيء. فهم جيش تقليدي وليس من مصلحتهم اقتحام مدن يقاتلهم فيها السكان ومسلحو ميليشيات لاحتلالها. لأن هؤلاء المسلحين سينتقلون إلى أماكن أخرى ويواصلون شن هجماتهم. البقاء في الفلوجة لن يؤدي إلا إلى إثارة نعرات الثأر العشائرية ضد الأميركيين، وإلى تعريضهم إلى مزيد من الهجمات. وأمامهم خيط دقيق يفصل بين ممارسة الضغط على السكان إلى الحد الأقصى، وتجاوز هذا الحد ليكونوا وجهاً لوجه معهم في بداية دوامة قمع لن تسفر إلا عن مزيد من المواجهات. وهذا سيحرج بريمر الذي يرغب في حل سريع لوضع الفلوجة، لأنه يعرف أنه لا يمكن أن يتحدث عن الديموقراطية فيما قواته تقصف المدن بالدبابات والطائرات"
قتال آخر
يتصرف الساسة العراقيون وكأن شيئاً لم يكن. وكثيرون منهم، لا سيما في مجلس الحكم، يراهنون على أن القرار الدولي الجديد بخصوص العراق الذي حصل الأخضر الإبراهيمي على الضوء الأخضر من فرنسا وروسيا لإصداره، في مقابل تعهد واشنطن بمنح صفقات لشركاتهما وللشركات الألمانية في العراق، سيكرس، بعد استيعاب الأزمة الحالية وتجاوزها، انطلاق برنامج دولي جديد لاقامة حكومة قوية بصلاحيات نافذة، كما تطالب الدول الثلاث.
والأكثر غرابة، هو أنه بينما يتقاتل الأميركيون مع العراقيين على الأرض، يتقاتل السياسيون العراقيون على الكراسي والمناصب الجديدة. والمحور الأول في هذا القتال هو الأخضر الإبراهيمي، مندوب الأمين العام للأمم المتحدة، الذي يريد بريمر، على حد قول أحد المقربين منه، "تعجيل تشكيله حكومة جديدة تتسلم السلطة. وهو لا يريد أن يتدخل في تعييناته إلا لتصحيحها. وبريمر استعجل تعيين وزيري الدفاع والداخلية ومستشار الأمن القومي قبل عودة الإبراهيمي ليحسم الملفات التي يريدها".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.