في الساعة العاشرة من صباح يوم الخميس 29 تشرين الأول اكتوبر 1936، فوجئ سكان بغداد بدويّ هائل امتد إلى أرجاء بعيدة من العاصمة العراقية وأعقبه بعد بضع دقائق دويّ آخر أشبه بانفجار قنبلة، وكانت قنبلة حقاً ألقتها طائرات عسكرية على بناية مجلس الوزراء. واستغرب الناس هذين الانفجارين في ذلك الصباح الهادئ ولم يعرفوا لهما في البداية سبباً. وسبق اسقاط هذه القنابل أن حلّقت فوق سماء بغداد ثلاث طائرات القيت منها ألوف المناشير، فحسبها الناس من الإعلانات التجارية التي كان توزيعها في شوارع بغداد من وقت إلى آخر أمراً مألوفاً. لكن سرعان ما وجدوا فيها مفاجأة غريبة، فهرولوا لالتقاطها مذهولين مندهشين. كانت المناشير تحمل توقيع الفريق بكر صدقي، العسكري الذي وصف نفسه فيها ب"قائد القوة الوطنية الإصلاحية". وكان البيان يخاطب الشعب العراقي قائلاً إن الجيش، المؤلف من أبنائه، نفد صبره من الحال التي يعانيها من جراء اهتمام الحكومة الحاضرة بمصالحها وغاياتها الشخصية، وأنه طلب إلى الملك إقالة الوزارة القائمة وتأليف وزارة من أبناء الشعب المخلصين برئاسة السيد حكمت سليمان الذي لهجت البلاد بذكره الحسن ومواقفه المشرفة. اضطرت وزارة الهاشمي إلى الاستقالة، وعهد الملك غازي بتأليف الوزارة الجديدة إلى السياسي المعروف حكمت سليمان. كانت هذه الحركة أول انقلاب عسكري تشهده البلاد العربية منذ قيام الدول العربية المستقلة وشبه المستقلة بعد الحرب العالمية الأولى. وأعقبتها انقلابات عسكرية تشابهها في اسلوب تنفيذها وطابعها العسكري في سورية ومصر والجزائر وليبيا واليمن والسودان، ولكن قصب السبق في هذه العمليات غير الدستورية يعود ولا فخر إلى العراق الذي شهد المزيد منها في السنوات التالية، وبسببها سارت أحواله من سيئ إلى أسوأ، حتى وصل إلى حالته الراهنة التي لا يحسد عليها. ولكن الذين دبروا هذا الانقلاب ونفذوه لم يأنفوا من تسمية الأشياء بأسمائها، فوصفوا العملية ب"الانقلاب". ودعمت الحكومة التي تألفت على اثره جريدة اسمها "الانقلاب" أصدرها الشاعر المعروف محمد مهدي الجواهري، فأصبحت الناطق الرسمي بلسان الحكومة. أما بعد الانقلاب العسكري الذي حدث في مصر في 23 تموز يوليو 1952، فقد أصبحت الانقلابات العسكرية في البلاد العربية تسمى "ثورات"، واختلف الاسم وإن لم يختلف المسمى، وما الضرر في تسمية الحركة ب"الانقلاب" إذا كانت انقلاباً على حكم سيئ أو حكومة جائرة أو نظام فاسد؟ أما "الثورة" فهي تلك التي تصدر عن وجدان الشعب، وتنفذ من جانبه وعلى يديه، ولا يفاجأ بها مفاجأة حين يستيقظ في صباح أحد الأيام فيسمع "البيان الأول" ليعلم أن "الشعب" قام بثورة، في حين أنها نفذت بتدبير سري من قبل مجموعة من الضباط لقلب نظام الحكم، مدعين ان الحركة جاءت تنفيذاً لإرادة الشعب والشعب لا يدري بها. وقد تكون الحركة في بعض الحالات تنفيذاً لإرادة الشعب فعلاً، ولكنها مع ذلك تبقى "انقلاباً عسكرياً"، لأن قيام الشعب بالثورة شيء، وتأييده لها بعد تنفيذها ونجاحها شيء آخر. وكان رئيس الوزراء الذي أطاح الانقلاب حكومته هو ياسين الهاشمي الذي ألف وزارته في 17 آذار مارس سنة 1935، وكانت من أقوى الوزارات التي عرفها العراق، وقد مضت عليها في الحكم ثمانية عشر شهراً تقريباً، لا تزال قوية وماضية في تنفيذ سياساتها باطمئنان، وتتطلع إلى المستقبل بتفاؤل. ولا شك أنه كانت هناك أخطاء كبيرة ارتكبت وأساءت استعمال وتقصير، ومع ذلك فقد تم أيضاً تحقيق الكثير من المنجزات المهمة. ففي عهد وزارة ياسين الهاشمي وضعت "الخطة الخمسية لمشروعات التنمية الأساسية" و"خطة مشروعات العشر سنوات"، ونفذت في الجهاز الحكومي أوسع عملية تطهير عرفته الدولة حتى ذلك الوقت. وعنيت الوزارة بالأخلاق العامة وبث الروح القومية والعسكرية في نفوس الناشئة والشعور بواجب الدفاع عن فلسطين في وقت كانت فيه شعوب بعض الأقطار العربية لا تعرف مكان فلسطين على الخريطة. وألغت الوزارة الاستعمال الرسمي للألقاب الموروثة عن العهد العثماني باشا وبك وأفندي واستعاضت عنها بلقب "السيد" الذي يطلق على كل مواطن ابتداء من رئيس الوزراء إلى أصغر موظف أو عامل أو فلاح. وكان العراق أول دولة تتخذ ذلك الاجراء الذي اعتبر جريئاً في حين، والذي يهدف إلى تحقيق المساواة الاجتماعية بين المواطنين. وكان على رأس الوزارة التي أصدرت ذلك القانون وبين أعضائها ثلاثة من حملة لقب "باشا" فكانوا أول من تخلى عن ذلك اللقب. وكان لتسمية ياسين باشا الهاشمي ونوري باشا السعيد وجعفر باشا العسكري ب"السيد" وقع غريب على الأسماع، ولكنها لم تلبث أن تعودت عليه، ولم يعد يلقب بذلك اللقب سوى مطربة العراق الأولى سليمة باشا. على أن عام 1936 شهد، مع ذلك، ثورات عشائرية عدة لجأت الحكومة في اخمادها إلى العنف وقمعتها بقسوة. ثم جاءت قضية زواج الأميرة عزة شقيقة الملك غازي من نُدُل يوناني وهربها معه، فزعزعت مكانة الملك بعض الشيء، من دون أن يكون له في الأمر ذنب. ولما قاربت سنة 1936 نهايتها كان الاستياء بدأ ينتشر، والتذمر يسود والملل من الحكومة القائمة يتسرب إلى النفوس. وصار الناس يتحدثون جهاراً عن الفساد واستغلال النفوذ والحرص على المنافع الخاصة والاستحواذ على الأراضي وتفشي المحسوبية والرشوة واهمال مصالح الشعب. وإضافة إلى ذلك، كان التذمر قد تفشى في صفوف الجيش بسبب زجه المتواصل في قمع الاضطرابات الداخلية، ولم يجد الجيش ذلك من صميم واجباته وبرم بمقاتلة مواطنيه مهما كانت أسباب ذلك القتال. وبلغ الملل من الوزارة مبلغاً كبيراً، خصوصاً أن العراقيين تعودوا كثرة تغيّر الوزارات وتبدل الوجوه. وكان رئيس الوزراء الهاشمي زار البصرة قبل نحو شهرين، فأقامت له بلديتها حفلة تكريمية، ألقى فيها الهاشمي خطاباً قال فيه: "قد يعبّر الإنسان عن شيء، والحقيقة خلاف ذلك. وآمل أن يتاح لي في خلال عشر سنوات من العمل، فأجد في تحقيق الأهداف المطلوبة للبلاد، وعندها ترون الفرق. ومع ذلك ارجو أن يمّد في عمري بعهد جلالة الملك غازي الأول لأقوم بتحقيق هذه الأمور، بكل تؤدة ونجاح". وكانت ردّة فعل الحكومة مزيجاً من الدهشة والاستنكار. أما الملك غازي فكان بطبيعة الحال قلقاً على مستقبله وحائراً في الموقف الذي ينبغي أن يتخذه. وحالما أصبح من الواضح ان العملية خططت بقصد اسقاط الوزارة، ولم تكن موجهة ضد العرش، بدأ يفكر في المزايا المحتملة لازاحة ياسين الهاشمي من الحكم، لعله شعر بشيء من الارتياح بسبب القيود التي وضعها ياسين على تصرفاته. وكان هنالك من ذهبت بهم الظنون الى ضلوع الملك غازي في العملية او الى سابق علم له بها. ولكن ارتياح الملك للعملية بعد وقوعها لا يدل بالضرورة على علم سابق له بها. وكذلك ذهب البعض كعادتهم في تفسير كل حدث مهم يقع في البلاد الى ان للانكليز يداً في تدبير الانقلاب. ولكن الوثائق البريطانية التي فُتحت بعد الانقلاب بثلاثين سنة تدلّ دلالة قاطعة على ان الحكومة البريطانية، على رغم استخباراتها القوية، فوجئت بالانقلاب. فقد علّق رئيس الدائرة الشرقية في وزارة الخارجية البريطانية على برقية السفير البريطاني في بغداد التي يبلغ فيها حكومته عن وقوع الانقلاب، بهذه العبارات:"هذا أنحس تطور يأتي كمفاجأة تامة لوزارة الطيران، وللسفارة، بقدر ما هو لنا". ولما رفعت برقية السفير الى وزير الخارجية انطوني ايدن، كتب عليها التعليق الآتي: "... ان هذه الانباء مزعجة. وهي انتصار آخر للقوة في عالم غير مستقر. علينا مع ذلك ان ننتظر المزيد من المعلومات...". وعلى اثر تطور الاحداث بهذه الصورة قدم ياسين الهاشمي استقالته الى الملك، ووصلت الى وزير الخارجية نوري السعيد، ووزير الداخلية رشيد عالي الكيلاني، رسالة مفادها ان الحكومة الجديدة لن تكون قادرة على ضمان سلامتهما اذا ما بقيا في البلد، فغادر نوري السعيد الى مصر، ورشيد عالي الكيلاني وياسين الهاشمي الى بيروت، وتبعهم عدد من مؤيديهم. وتوفي ياسين الهاشمي بعد ذلك بمدة قصيرة في بيروت بالسكتة القلبية ودُفن في دمشق. وعاد نوري السعيد الى بغداد بعد اغتيال بكر صدقي واستقالة حكمت سليمان بعد تسعة اشهر، ليقوم بأدوار اساسية مهمة في حياة البلد السياسية بعد ذلك. كان هذا الانقلاب نقطة تحول رئيسية في تاريخ العراق السياسي، وسابقة خطرة في خرق الدستور الذي كان قد اصابه الضعف اساساً نتيجة سياسة زعماء "حزب الاخاء الوطني" وبذلك فتح الباب امام تدخل الجيش في السياسة. وكان رجال الشرطة قد تذوقوا طعم السلطة واستطابوا مذاقها. وهكذا اصبح الجيش يحاول السيطرة على الشؤون السياسية بصورة تدريجية. فكان هذا الانقلاب العسكري الذي حدث سنة 1936 الخطوة الاولى نحو احداث سنة 1941 حين حاول اربعة من العقداء في الجيش العراقي فرض ارادتهم على سياسة البلاد فعادوا عليها بأضرار كبيرة، وربما نحو انقلاب سنة 1958 ايضاً. وكانت الحكومة التي تألفت بعد الانقلاب تمثل بالضرورة اتجاهات المساهمين فيه، وهي اتجاهات متباينة متضاربة في بعض الحالات. وكان رئيسها حكمت سليمان يواجه مهمة عسيرة وهي ابقاء الجيش الذي نفّذ الانقلاب وجاء به الى الحكم بعيداً عن السياسة، واعادة التقاليد الدستورية. ومما يجلب الانتباه ويدعو الى العجب والاعجاب انه لم يكن بين اعضاء الوزارة الجديدة وزير عسكري واحد باستثناء وزير الدفاع الفريق عبداللطيف نوري، وهو امر غريب بالنسبة الى حكومة جاءت الى الحكم نتيجة انقلاب عسكري، وشاهدنا في الانقلابات العسكرية التالية العسكريين يتولون شتى الوزارات التي لا علاقة لها بخلفيتهم ونشأتهم وثقافتهم العسكرية، كوزارات المعارف والشؤون الاجتماعية والاعلام والثقافة. بل ان قائد الانقلاب بكر صدقي نفسه لم يرغب في تولي وزارة الدفاع التي يتولاها عادة منفّذو الانقلابات العسكرية، هذا ان لم يتولوا رئاسة الوزراء، كما فعل عبدالكريم قاسم، بل رئاسة الدولة، كما فعل غيره. وكان ل"جماعة الأهالي" وكامل الجادرجي بصورة خاصة، دور رئيس في تكوين الحكومة التي جاء بها الانقلاب العسكري الى الحكم، اذ قام بإقناع زملائه من "جماعة الاهالي" بتأييد الانقلاب واسناده، ثم كان له دور مهم في اختيار اعضاء الوزارة وادخال بعض العناصر الجيدة التي يرتبط بها بصداقة شخصية. فقد اجتمع في دار كامل الجادرجي قبل الانقلاب بيومين حكمت سليمان ومحمد حديد وجعفر ابو التمن، للاتفاق على اسماء الاشخاص الذين يجب ان تتألف منهم الوزارة الجديدة في حال نجاح الانقلاب. ومما يلفت النظر في أمر "جماعة الاهالي" مشاركتها في وزارة جاءت الى الحكم بانقلاب عسكري بينما كانت تنادي على الدوام بوجوب اتباع الطرق الدستورية في شؤون الدولة. وكانت مشاركة اعضائها في الانقلاب غلطة ندموا عليها في ما بعد، خصوصاً بعد ظهور نيات بكر صدقي في الاستحواذ على سلطات ديكتاتورية، ما جعلهم يستقيلون من مناصبهم ويغادرون العراق هاربين من بطشه. ومع ذلك فان تأييدهم للانقلاب واشتراكهم في حكومته كان بنية حسنة، وبدافع من رغبتهم في الاصلاح. وفي هذا يقول الاستاذ عبدالكريم الأزري في كتابه "مشكلة الحكم في العراق": "لقد كان نجاح حكمت سليمان في اشراك هذه الجماعة التي عرف عنها الترفع عن الانقلابات العسكرية والتمسك بالاساليب الديموقراطية السلمية، امراً مثيراً للاستغراب والدهشة حقاً. ولكن كامل الجادرجي قد اعترف في مذكراته بالدور الذي لعبه في ذلك الانقلاب العسكري وكشف عن ميولهم منذ البداية، للعمل السري الانقلابي. وكان اشتراكهم في ثورة 14 تموز يولو 1958 برهاناً آخر على تلك الميول" ص98. ودافع كامل الجادرجي في ما بعد عن موقفه وموقف جماعته من تأييد الانقلاب بقوله: "لم يكن هدف الانقلاب تأسيس نظام ديكتاتوري عسكري، بل كان هدفه انهاء حكم ديكتاتوري" ووصف الانقلاب بأنه كان انقلاباً ديموقراطياً. ونال تأييد الشعب من ايامه الاولى الا انه تحول الى شيء آخر بعد ذلك". وقال ايضاً "إنه يعتقد انه اذا اغلقت السبل الديموقراطية امام الشعب، فانه يجب اللجوء الى القوة..." وان الجماعة ايدت الانقلاب العسكري بعد ان عجزت الوسائل السلمية والبرلمانية عن اصلاح الوضع بالطرق الدستورية. ولا شك ان "جماعة الاهالي" كانت مترددة في الموقف الذي يجب اتخاذه ازاء هذه الحركة، فقال لهم حكمت سليمان ان التعاون مع الجيش سيوفر لهم فرصة عظيمة لتنفيذ اهدافهم، وحاول تبديد مخاوفهم من قيام ديكتاتورية عسكرية محتملة، قائلاً ان الجيش سيعود الى ثكناته عند نجاح الانقلاب، وان بكر صدقي لا يهمه سوى تعزيز قوة الجيش ولا يرغب الا بأن يتولى منصب رئيس اركان الجيش. وكان من نتائج مشاركة كامل الجادرجي و"جماعة الاهالي" في حكومة الانقلاب ان رحب بها التقدميون واليساريون، اما القوميون العرب وانصار ياسين الهاشمي فقد ارتابوا في امرها منذ البداية، وبطبيعة الحال، لم يتعاونوا معها ولم يطلب اليهم ذلك. ولكن من هو بكر صدقي الذي قاد الانقلاب وفتح هذا الباب، وبذلك اوجد سابقة خطيرة في تاريخ الجيش العراقي والحياة السياسية في العراق، وفي البلاد العربية بعد ذلك؟ كان بكر صدقي من المع ضباط الجيش العراقي واصله من قرية عسكر القريبة من كركوك. ولكنه ولد في بغداد سنة 1890 وتخرج من الكلية العسكرية في اسطنبول سنة 1908 وحصل خلال الحرب العالمية الاولى على رتبة مقدم ركن ولما أسس جعفر العسكري الجيش العراقي سنة 1921 بعد قيام الدولة العراقية، انتمى اليه بكر صدقي في من انتمى اليه من الضباط العراقيين السابقين في الجيش العثماني، وتدرج في رتبه حتى وصل الى رتبة عقيد في سنة 1928، وبرز كضابط ممتاز، ولمع اسمه. ثم رُقي الى رتبة زعيم التي اعيدت تسميتها الى عميد بعد 14 تموز/ يوليو 1958. ووصف مرة بأنه "ربما كان اكفأ ضابط في الجيش العراقي". وفي صيف سنة 1932 كان قائداً للقوات التي قاومت الآشوريين الذين كانوا عائدين من سورية الى العراق، واليه تنسب المذبحة التي ارتكبت في قرية سميل في شمال العراق، وقتل فيها عدد كبير منهم. على ان تقارير السفارة البريطانية في بغداد تذهب الى القول بأنه لم يثبت بصورة قاطعة انه هو الذي اصدر الاوامر بذلك. وعلى اثر وقوع الانقلاب اخذت الحكومة البريطانية تتحرى عن ماضي بكر صدقي وخلفيته، ثم جاء في كتاب من وزارة الخارجية البريطانية الى سفيرها في بغداد مؤرخ في 1936/12/31 اي بعد الانقلاب بشهرين تقريباً ان وزارة الطيران اخبرتها بأنها اكتشفت ان بكر صدقي كان مستخدماً لمدة من الزمن في حدود سنة 1919 - 1920 وكيلاً لدى القوات البريطانية في المنطقة المحايدة التي كانت موجودة بين العراقوتركيا. كان بكر صدقي خلال رئاسته لاركان الجيش بعد الانقلاب كبير الاهتمام بشؤون الجيش وتسليحه. وجاء في مذكرات الدكتور فريتز غروبا، الوزير المفوض الالماني في بغداد في تلك الفترة، ان بكر صدقي كان يزوره كل يوم تقريباً ليبحث معه موضوع تزويد الجيش العراقي بالاسلحة من المانيا، وانه قال له في احد الايام انه يود ان يستقدم ضابطاً المانياً من ضباط الاركان ليعهد اليه بمهمة وضع خطة للدفاع عن كردستان في حال احتلال الانكليز لبغداد. وعلى اثر ذلك حضر الى بغداد الهر هاينتز وهو ضابط كبير متقاعد منتحلاً صفة باحث جيولوجي. وفي المحادثات التي دارت بينه وبين بكر صدقي، طلب اليه الأخير ان يقدم اقتراحات لخطة موسعة للدفاع عن كردستان ومقاومة أي هجوم محتمل من الجانب الايراني. كما تباحث هاينتز مع بكر صدقي في كيفية تأسيس جيش كردي والاستعدادات اللازمة لتسليحه وتموينه. ثم يقول غروبا: "لما فاتحني بكر صدقي بخططه للدفاع عن كردستان اخبرني ايضاً ولكن بصورة سرية انه كردي، وانه يهدف الى خلق دولة كردية تضم السكان الاكراد في العراق وايران وتركيا، وان هذه الدولة يجب ان تكون قادرة على صيانة استقلالها من اعتداء جيرانها. وقال ان هذه القضية مهمة عنده، لانها في قلبه ص 158. وعلى رغم انه ليس هنالك ما يدعو الى الشك في صدق غروبا في مذكراته، إلا أن هناك أبحاثاً تالية تشير الى ان اعتبار بكر صدقي كردياً قد لا يكون صحيحاً كل الصحة. اما قرية عسكر التي ينتمي اليها جعفر العسكري ايضاً فسكانها خليط من الاكراد والتركمان، وربما كان التركمان أكثرية فيها. وأبدى المؤرخ الكردي الدكتور كمال مظهر أحمد، استاذ التاريخ الحديث في جامعة بغداد، في كتابه "صفحات من تاريخ العراق المعاصر" ان بكر صدقي كان في الواقع، من أبعد الضباط عن الحركة الكردية وقضيتها، اذ لم تكن له أدنى صلة، لا في ايام الانقلاب ولا قبلها، بأي جمعية كردية، على رغم ان كثيرين من اقرانه قاموا بأدوار بارزة في صفوف تلك الجمعيات منذ اواخر العهد العثماني ص 123. وكان بكر صدقي، في سنوات الحرب العالمية الاولى يعمل بحماس في صفوف الحركة القومية العربية المناهضة للحكم العثماني، وكان احد القلائل الذين تجرأوا على ارسال برقية تأييد من بغداد الى "المؤتمر العربي الاول" الذي انعقد في باريس تحت رعاية الجمعية الاصلاحية البيروتية، بل ان بكر صدقي كثيراً ما اكد بعد الانقلاب دعمه وانتصاره للقضايا العربية في تصريحاته العلنية، ولم يصدر عنه تصريح حول الاكراد او القضية الكردية. ومما يلاحظ ايضاً ان وزارة الانقلاب لم تضم وزيراً كردياً واحداً، ربما باستثناء وزير المعارف يوسف عزالدين ابراهيم الذي كان من اصل كردي، ولكنه مع ذلك اختير لوزارة المعارف بترشيح من صديقه كامل الجادرجي لانه كان مديراً سابقاً لمعارف لواء بغداد، وبصفته عضواً في "جماعة الاهالي" وليس بصفته ممثلاً للاكراد. ولا شك ان بكر صدقي كان له رأي في تأليف الوزارة واعضائها، ولو شاء لفرض وزيراً او اكثر من الاكراد، ولكنه لم يفعل. وقد استفسر كاتب هذه السطور من العلامة الكردي توفيق وهبي الذي كان يتردد عليه بكثرة خلال سنواته الاخيرة في لندن التي توفي فيها، عن حقيقة الامر. وكان توفيق وهبي من اصدقاء بكر صدقي المقربين، وقد عينه مديراً عاماً للاشغال على اثر نجاح الانقلاب. فأجاب رحمه الله أن بكر صدقي لم يكن له اهتمام بالشؤون الكردية. وسأله عن اللغة التي كان يتخاطب بها مع بكر صدقي، فقال اننا كنا نتكلم باللغة التركية دائما. أما حكمت سليمان فكان رجلاً محباً للاصلاح، وكان معجباً بصورة خاصة بالنهضة في تركيا، ذلك الاعجاب الذي كان يشاطره فيه بكر صدقي. وكان رجلاً عصري الفكر متحرراً في آرائه، نزيهاً الى اقصى حدود النزاهة. وكانت وزارة حكمت سليمان التي جاءت على اثر الانقلاب العسكري تحمل نيات اصلاحية لا شك فيها، وضمت عناصر وطنية وتقدمية طيبة مثل جعفر ابي التمن وكامل الجادرجي وصالح جبر وناجي الاصيل، وكانت تهدف الى ادخال اصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية لرفع مستوى الشعب والقضاء على الاستغلال، كما جاء في منهاجها الوزاري على رغم اتهام خصومها اياها وبالابتعاد عن الاتجاه القومي، وهي تهمة باطلة. ولكن سيطرة بكر صدقي على الأمور من وراء الستار، وتدخل الجيش في السياسة لم يدعا للوزارة والبرلمان ولا ل"جماعة الاهالي" الفرصة لتنفيذ كثير من بنود البرنامج الذي تبنته الوزارة. وازداد تدخل بكر صدقي في شؤون الحكم في حين ان صفته كانت رئاسة اركان الجيش، حتى انه اخذ يحضر جلسات مجلس الوزراء، ويتدخل في مناقشاته، ويفرض عليه آراءه ورغباته، وهو امر مخالف للدستور واصول الحكم، فقرر اربعة من الوزراء الاستقالة احتجاجاً على ذلك. ولما تفاقم الاستياء وقويت المعارضة للحكومة، بدأ التفكير في شتى الاوساط للتخلص منه حتى في صفوف الجيش، لكن ذلك لم يكن ممكناً بسبب الحراسة المشددة التي احاط نفسه بها. الى ان جاءت الفرصة المناسبة عندما وصلته دعوة من الحكومة التركية لحضور مناورات الجيش التركي التي كانت من المقرر اجراؤها في منطقة تراقيا، فقبل الدعوة وقررت الحكومة ايفاده لحضورها على رأس وفد عسكري. ولم يكن السفر بالطائرة شائعاً في تلك الايام بل كان يتم بقطار "طوروس السريع" الذي يبدأ رحلته من الموصل. فلما علم الضباط المناوئون له باعتزامه السفر الى الموصل ليستقل منها القطار الى تركيا، وضعوا عدة مخططات لاغتياله وهو في طريقه من بغداد الى الموصل، فلم يمكن تنفيذها ايضاً، فقرروا تنفيذ محاولتهم الأخيرة في الموصل، فلما وصلها بكر صدقي يوم الاربعاء المصادف 15 آب اغسطس 1937، اقترح عليه صديقه محمد علي جواد، قائد القوة الجوية العراقية الذي كان برفقته وهو الطيار الذي اسقط القنابل على مجلس الوزراء صبيحة يوم الانقلاب ان يذهبوا الى المطار العسكري في منطقة الغزلاني جنوب الموصل للاستراحة نظراً الى توافر وسائل التبريد فيه، وكانت موجة من الحر الشديد تجتاح الموصل في شهر آب من تلك السنة. ويقول المثل المشهور: "من مأمنه يؤتي الحذر"، فبينما كان بكر صدقي جالساً في حديقة المطار العسكري يتجاذب اطراف الحديث مع الضابطين الطيارين محمد علي جواد وموسى علي، اسرع اثنان من الضباط الى انتهاز الفرصة، فذهبا الى احد المقرات العسكرية المجاورة، واصطحبا معهما بعض اتباعهما من ضباط الصف، بينهم العريف محمد عبدالله التلعفري وجنديان آخران، وعادوا الى المطار. وتنكر التلعفري في زي خادم في المطار حضر لتقديم المرطبات. وبينما كان بكر صدقي ومحمد على جواد منهمكين في الحديث ظهر محمد التلعفري الى الحديقة، ووقف امام بكر صدقي، واخرج من قميصه مسدساً واطلق عليه من مسافة قريبة رصاصتين قتلتاه في الحال. وعلى اثر ذلك نهض محمد علي جواد وهجم على القاتل ليمسك به، فعاجله هذا بثلاث طلقات قتلته في الحال ايضاً، ولما حاول القاتل الفرار خرج اليه بعض الضباط وتمكنوا من القبض عليه، وان كان بعضهم قد حاول انقاذه فلم ينجحوا في ذلك. ولم يتمكن حكمت سليمان من البقاء في الحكم بعد مقتل بكر صدقي، فاستقال بعد حكم لم يدم اكثر من تسعة اشهر وعهد بتأليف الوزارة الجديدة الى جميل المدفعي الذي كان معارضاً شديداً لسياسة حكومة الانقلاب، ولكنه في الوقت نفسه كان رجلاً متسامحاً طيب القلب فتبنى سياسة ما اسماه "اسدال الستار" والترفع عن الانتقام. وهكذا انتهت حياة الفريق بكر صدقي ووزارة الانقلاب بعد تسعة اشهر وبضعة ايام، وبعد ان استن سابقة سيئة لسلسلة من الانقلابات العسكرية في العراق وفي اقطار عربية اخرى لم يكن من شأنها سوى قمع الحريات، وكبت الديموقراطية، وتدخل العسكريين في السياسة وعرقلة تقدم البلاد