افتتاحيات جريدة "الاهالي" العراقية التي كتبها كامل الجادرجي في الفترة بين عامي 1944 و1954 تصدر قريباً في كتاب عن دار الجمل - ألمانيا في عنوان: "في حق ممارسة السياسة والديموقراطية"، أعدها للنشر مركز الجادرجي للأبحاث وقدّم لها المهندس المعماري المعروف رفعة الجادرجي بدراسة عنوانها: "تنشئة النظام الديموقراطي وإحباطه في العراق". وفي هذه المرحلة القلقة التي يجتازها العراقيون يطرح الكتاب في الوقت المناسب، وحين تندر المثالات، صورة سياسي عراقي ديموقراطي كان يشكل مع نوري السعيد طرفين متعارضين في رؤية العمل السياسي وتطوير الدولة العراقية الوليدة وتحديثها. تنشر "الحياة" مقاطع من الكتاب بالاتفاق مع الناشر، وهنا الحلقة الثانية. واظبت "الأهالي" على انتهاج سبيل مستقل ونقدي منذ صدورها، وكانت معارضتها لسلوكيات الحكومات تتضح تدريجاً وتتزايد باستمرار، من دون ان تحرك الحكومة ساكناً ضدها. ولكن اثر نشرها مقالاً افتتاحياً في العدد 146 الصادر في 6/7/1932 في عنوان: "الأصل واحد وإن تعددت الألوان" أصدرت وزارة نوري السعيد الأولى أمراً بتعطيلها لمدة ثلاثة أشهر. وعندما عادت إلى الصدور نشرت في العدد 148 مقالاً افتتاحياً في عنوان: "نحن شعبيون" فعطلتها الحكومة مرة أخرى لمدة ستة أشهر. وتوالت أوامر التعطيل إلى أن توقفت الجريدة عن الصدور في عهد وزارة جميل المدفعي الأولى في 12/3/1934. إلا أن الجادرجي، الذي كان ينتمي إلى "جماعة الأهالي" في تلك الأثناء، احتاط مسبقاً للأمر واستحصل على امتياز باسم "صوت الأهالي" في 11/2/1934، فأقدم على إصدار هذه الجريدة بعد يومين من تعطيل الأولى، وأصبح صاحب الامتياز والمدير المسؤول. وعطلت جريدة "صوت الأهالي" لمدة عام بقرار من مجلس الوزراء في 22/5/1934، في عهد وزارة جميل المدفعي الثانية لنشرها مقالين ينتقدان سياسة الحكومة حول العلاقات العراقية - الإيرانية والتفريط بمصالح العراق. وعاودت "الأهالي" الصدور في 4/7/1934 لصاحبها ومديرها عبد القادر إسماعيل ثم عطلت في 11/8/1934. وتجدر الإشارة الى أن المسؤولية القانونية لإدارة الجريدة منذ 14/3/1934، وحتى سحب امتيازها عام 1954 وقعت على عاتق الجادرجي باعتباره المدير المسؤول وصاحب الامتياز، إلا في بعض الاستثناءات، وهذا يعني أن آخرين من "جماعة الأهالي"، وفي ما بعد من أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي، لم يتحملوا تلك المسؤولية القانونية، إلا فترات قصيرة، وهي مسؤولية أدت إلى مثول الجادرجي أمام القضاء مرات عدة واعتقاله وسجنه. انضمام الجادرجي لم تكن "الأهالي" تروق بآرائها واتجاهاتها وأبوابها المتنوعة لفئات الشباب المتعطش لهذا الموقف من التفكير السياسي فحسب، وإنما أثارت انتباه عدد من الساسة الأكبر سناً واستحوذت على اهتمامهم. وكان من أهم هؤلاء كامل الجادرجي الذي كان في منتصف الثلاثينات من عمره حين صدرت "الأهالي"، وكان عند صدور الجريدة منتمياً إلى "حزب الإخاء الوطني" برئاسة ياسين الهاشمي، وعضواً في اللجنة العليا للحزب ومسؤولاً عن تحرير جريدته. وقبل ذلك كان الجادرجي عضواً في حزب الشعب الذي أسسه الهاشمي ايضاً أواخر عام 1925، وبهذه الصفة فاز بمقعد في مجلس النواب في انتخابات عام 1927 وهو في الثلاثين من العمر. نشر الجادرجي، بعد صدور "الأهالي" بأيام، كلمة موجزة في صحيفة "الاخاء الوطني" التي كان يشرف على تحريرها، رحّب فيها بالجريدة الجديدة مثنياً على خطّتها المنشورة في افتتاحيتها الأولى. وهو لم يكن آنئذ على معرفة شخصية ب"فريق الشباب"، لكن ترحيبه العلني يدل على أنه التقط بحسه السياسي المتمرس نمط النزعة التي تؤمن بها الجريدة والتي تتبدى من مقالها الافتتاحي الأول في عنوان "منفعة الشعب فوق كل المنافع". كان "حزب الإخاء الوطني" معارضاً في ذلك الحين، ومناوئاً لمعاهدة الصداقة والتحالف التي عقدها نوري السعيد مع بريطانيا عام 1930. ويبدو أن الجادرجي أدرك أن تلك المعارضة تدخل في باب المناورات السياسية التي يقودها الهاشمي ويناصره فيها بعض أقطاب حزبه مثل رشيد عالي الكيلاني. وصدق حدسه في ما بعد عندما تخلى الهاشمي عن معارضة المعاهدة وتولى الحكم على أساس احترامها. وكان تبرم الجادرجي بألاعيب أقطاب حزبه يتفاقم. ففي أواخر 1931 تولى رشيد عالي الكيلاني، أحد أقطاب الحزب، منصب رئيس الديوان الملكي بموافقة اللجنة العليا للحزب ومعارضة عضو اللجنة كامل الجادرجي، الذي بيّن سبب معارضته في رسالة إلى الهاشمي مؤرخة في 22 تشرين الثاني اكتوبر 1931. لم يكن الجادرجي مرتاحاً على الإطلاق للاستمرار في العمل مع الحزب، فتخلى أولا عن مسؤولية تحرير جريدة "الإخاء"، ثم استقال من عضوية اللجنة العليا في 25 تشرين الأول 1932. وعند قبول رشيد عالي الكيلاني تشكيل الوزارة في 30 آذار مارس 1933 مع أقطاب الحزب ياسين الهاشمي وحكمة سليمان وبالتعاون مع نوري السعيد ورستم حيدر، اعتبر الجادرجي ذلك نكوصاً عن معارضة معاهدة 1930 واعترافاً بها، فاستقال من عضوية الحزب. في تلك الأثناء كان الجادرجي يتابع ما تنشره "الأهالي" باهتمام، فيجد في آراء الجريدة تجاوباً مع آرائه، ثم وجد أن من المناسب أن يتعرف شخصياً الى المسؤولين عن تحريرها، لا سيما عبدالفتاح إبراهيم وعبدالقادر إسماعيل. وهكذا جرى لقاء فتفاهم على التعاون، إذ رحبت "مجموعة الأهالي" بالجادرجي بشدة كونه أكبر سناً وأكثر تجربة، وبالتالي يعد انضمامه إلى المجموعة مكسباً لها، كما أن في وسعه أن يوفر لهم ملاذاً آمناً للاجتماع في داره وطرح الآراء المختلفة للنقاش. بدأت الاتصالات الأولى بين الجادرجي و"جماعة الأهالي" عام 1932، وأصبح عضوا فيها منتصف 1932. ويستدل من نشاطه في تلك المرحلة ومما كتبه بعدها أنه كان يدأب على تثقيف نفسه بالمطالعة المستمرة لكتب مختارة تهتم بالتاريخ والاجتماع فضلاً عن السياسة والمبادئ الفكرية ومختلف العلوم المعاصرة. وهذا ما جعل التوافق والوئام سريعاً بينه وبين "جماعة الأهالي". وأسهم الجادرجي في مداولات المجموعة المتعلقة بالمقالات الافتتاحية وبسياسة الجريدة عموماً وفي المناقشات حول مبدأ "الشعبية". ويبدو أن نقاط اللقاء بين الطرفين كان مردها توافق فكري على مبادئ معينة منها ضرورة التأسيس لنهضة اجتماعية وتحقيق الحريات المختلفة للسير في نظام الحكم في وجهة سليمة تنأى عن الحكم الفردي، وإعادة النظر في الأوضاع الاقتصادية السائدة اضافة إلى الاستقلال. ولعل ما ساعد على ذلك التوافق اعتقاد الطرفين بصحة النظرية المادية في تفسير التاريخ، وفيما اعتمد طرف المفهوم الثوري للماركسية ممثلاً بعبدالفتاح إبراهيم، اعتمد الطرف الآخر الاشتراكية الفابية ممثلاً بالجادرجي ومحمد حديد. و هذا لا يعني أن الجادرجي وحديد لم يقرآ أو لم يتأثرا بالأدب الماركسي، بل اعتمد كلاهما الجدلية المادية في الموقف من الظروف الاجتماعية وتحليلها. لكن هذا التوافق بين القطبين الرئيسين في المجموعة، عبدالفتاح إبراهيم والجادرجي، لم يستمر على الدوام بسبب الفارق الكبير في التوجه العقائدي لدى الشخصيتين. ومن جهة أخرى أخذ الجادرجي، بعدما تعرف على أفراد "جماعة الأهالي"، يميل فكرياً أكثر نحو محمد حديد الذي عاد آنذاك من لندن بعد دراسة الاقتصاد مؤمناً بمبادئ الفابية القائمة على العمل الايجابي لتجديد حيوية المجتمع ليس بالنظريات المجردة، وإنما بإصلاح المجتمع تدريجاً بوسائل دستورية، وبممارسة الآليات الديمقراطية كالحوار المتبادل والمساءلة. ورفضت كلتا الجماعتين، الفابيون و"جماعة الأهالي"، فكرة الثورة العنيفة. وتطور ذلك الميل الفكري إلى صلة عمل في عالمي الصحافة والسياسة بين الجادرجي وحديد استمرت أمداً طويلاً. وفي الوقت نفسه بقيا على صلة صداقة وثيقة بعبدالفتاح إبراهيم وعبدالقادر إسماعيل، وفي هذا إشارة دالة على أن الجادرجي لم يكن يجد في الخلاف العقائدي ما يدعو إلى التباعد. بعد انضمام الجادرجي إلى "جماعة الأهالي" استحصل على امتياز باسمه لإصدار جريدة سماها "صوت الأهالي"، اذ أدرك أن موقف "الأهالي" المعارض سيؤدي إلى منعها من الصدور عاجلاً أم آجلاً. كما اختار إسماً فيه كلمة "الأهالي" للدلالة على اعتزازه بهذا الرمز. وتحقق حدس الجادرجي بالفعل، فحين عطلت "الأهالي" في 12 آذار 1934 صدرت "صوت الأهالي" محلها في 14 من الشهر نفسه. ولم تختلف الجريدة الوليدة بشيء عن الجريدة الأم باستثناء الإضافة في الاسم، فظلت أبواب الجريدة وإخراجها ومقالاتها الافتتاحية وشعارها كما هي، فكانت نسخة طبق الأصل من "الأهالي". وشكل الجادرجي لولباً حيوياً في "جماعة الأهالي" وموجهاً أساسياً لسياستها وتحركاتها، وكان أشبه ما يكون برئيسها من دون أن تطلق عليه هذه الصفة. وهو اكتسب هذه المكانة بسبب نشاطه وخبرته ووضوح ذهنه وصلابته وقوة شخصيته الكاريزمية وتمرسه بالعمل السياسي، اضافة إلى سمعته الوطنية. كما كان الجادرجي يتميز بأفق ثقافي واسع، وكانت هذه الثقافة تجد مجالاً رحباً في داره لذوي الاختصاص في الكثير من فروع المعرفة، حيث كانت تجري نقاشات مستفيضة حولها. التأثير المصري والفابي كان للمفكرين المصريين تأثير في ثقافة "جماعة الأهالي"، ومن بينهم سلامة موسى وطه حسين وإسماعيل مظهر وعلي عبد الرزاق ومصطفى صادق الرفاعي. وفي عام 1921 شارك سلامة موسى مع مثقفين مصريين في تشكيل الحزب الاشتراكي المصري، واستقال بعدما قررت اللجنة التنفيذية للحزب تحويله إلى الحزب الشيوعي المصري. وكانت فلسفة سلامة موسى الاجتماعية والسياسية هي الليبرالية، فيما دعا إسماعيل مظهر الى الفكر الحر وإلى نظام اقتصادي سماه "التكافل الاجتماعي" ليحل محل الاقتصاد الحر بتوفير فرص متساوية للجميع، في ظل نظام من الحرية المضمونة من شأنه أن يحد من استغلال الفرد للمجتمع ومن اضطهاد المجتمع للفرد. وفي حين تأثر حسين جميل بإسماعيل مظهر، تأثر محمد حديد بسلامة موسى، الى جانب تأثره بالفابية اذ كان عضوا في الجمعية الفابية مذ كان طالبا في "مدرسة لندن للاقتصاديات". كما تأثر حديد بهارولد لاسكي الذي كان مشرفاً على دراسته وأحد المحاضرين الرئيسيين في صفه، وكان هذا عضواً بارزاً في الجمعية الفابية التي كان لها تأثير عقائدي قوي في حزب العمال البريطاني أواخر العشرينات ومطلع الثلاثينات. والجمعية الفابية هي مجموعة تسعى إلى نشر آراء عملية عن المشاكل الاجتماعية القائمة و الملحة، و إلى تبيان طريقة إدخالها في الاجراءات التشريعية و الادارية. ولا ترى في الاشتراكية حركة ثورية للطبقات العاملة من أجل إقامة شكل جديد من أشكال المجتمع، وإنما هي مبادئ تطورت نتيجة سلسلة طويلة من المشاكل الاجتماعية التي نشأت من التغيرات المتعددة، الاقتصادية والاجتماعية والمعنوية، والتي تنبغي معالجتها بقدر ما يرغب المجتمع في رفع مستواه المعيشي. وتنصب المبادئ الأساسية للجمعية على إنجاز شكل من أشكال الديمقراطية، تكون الدولة فيه هي المسيطرة على الاقتصاد ومسؤولة عن الصحة والرعاية الاجتماعية للسكان. وتتحقق هذه الأهداف تدريجاً وبوسائل دستورية محضة، وتكون الديمقراطية الآلية السياسية للوصول إلى الاشتراكية. وثمة تشابه آخر بين هذا المعتقد و"الشعبية" لجهة رفض الثورة العنيفة والايمان بأن التغيير الاجتماعي يتحقق برفع درجة الوعي لدى الناس من خلال برامج التعليم العام. وكلتا الجماعتين ذات عضوية محدودة تقتصر على أفراد مختارين، كما إن "جماعة الأهالي" تبنت العهد الفابي الذي كان عبارة عن قسم أو تعهد بخدمة المجتمع إلى أقصى الحدود التي يستطيعها العضو، وكان من ضمنها دفع رسوم شهرية، وحضور الاجتماعات التي تعقدها الجمعية. توسيع نطاق "الشعبية" في تلك الأثناء كان الجادرجي اكتشف في جعفر أبو التمن شخصية أمينة وصادقة وموثوق فيها وذات وطنية صلبة لا تبتغي من العمل العام سوى الخدمة العامة. كما أنه وثق بشخص حكمة سليمان، السياسي المخضرم.و أدت هذه العلاقات إلى نجاح الجادرجي في إشراك هاتين الشخصيتين في مداولات مجموعة "الشعبية" ثم في حصوله على موافقتهما في الانضمام إلى المنظمة السرية المسماة "جمعية الإصلاح الشعبي". وكانت هذه الجمعية ملتزمة المبادئ التي بشرت بها مجموعة "الشعبية" بعد صدور "الأهالي" مطلع الثلاثينات. وتطورت العلاقات الوثيقة بين الجادرجي وهاتين الشخصيتين، خصوصاً مع حكمة سليمان، إلى نشوء فكرة تغيير حكومة ياسين الهاشمي ولو بالقوة. و يتضح مما كتبه الجادرجي نفسه في أوراقه المنشورة وغيرها أنه كان يؤمن، كغيره من المفكرين، بجواز اللجوء إلى العنف لمثل هذا التغيير عندما تسد الأبواب في وجه إصلاح سلوكيات الفئة المستأثرة بالحكم. وتبلور هذا الموقف بعدما صرح الهاشمي الذي ألغى إجازات الأحزاب، بأن حكمه سيدوم عشر سنوات. ودفع هذا الموقف الجادرجي إلى التعاون مع العسكر في انقلابي 1936 و1958. الاشتراك في انقلاب 1936 اتجهت أفكار الساسة المعارضين إلى إشراك الجيش في استبدال رجال السلطة، فبدأ التخطيط لما يعرف بانقلاب بكر صدقي عام 1936 ضد حكومة الهاشمي، وكان هذا أول انقلاب عسكري في العالم العربي. اذ أدى التفرد في الحكم والقمع السياسي الذي أصبح صفة السلطة التي كانت يترأسها الهاشمي. ودفعت هذه العوامل إلى قرار بعض رجال المعارضة والعسكر، حكمة سليمان وبكر صدقي، بالتحرك لتنظيم انقلاب ضد الهاشمي. ونظراً الى العلاقة السياسية والصداقة بين حكمة سليمان والجادرجي، فاتح سليمان الجادرجي و"جماعة الأهالي" بالاشتراك معه، باعتبارهم الجانب السياسي الإصلاحي في هذه الحركة. واشتركت الجماعة ومن ضمنها الجادرجي وأبو التمن وحديد في هذه الحركة وفق شروط تحقيق مبادئ "جمعية الإصلاح الشعبي" التي كانت سرية. و أعد محمد حديد مسودة بيان الانقلاب والخطاب الموجه إلى الملك غازي، والذي يطالب فيه الجيش بإقالة وزارة الهاشمي وتعيين حكومة برئاسة الشخصية الوطنية الإصلاحية حكمة سليمان. واشترك أبو التمن والجادرجي في تعديل البيان، فيما شذ عن ذلك عبدالفتاح إبراهيم الذي عارض إشراك الجيش في تغيير رجال السلطة. وبعد الانقلاب في 29/10/1936، تألفت حكومة برئاسة سليمان شارك فيها الجادرجي وأبو التمن، وعاودت "الأهالي" الصدور وأجيزت "جمعية الإصلاح الشعبي"، فأصبحت "جماعة الأهالي" شريكة في الحكم بهدف تحقيق الإصلاحات الاجتماعية المنصوص عليها في مبادئ الجمعية. وفي 20/2/1937 أجريت الانتخابات النيابية وفاز فيها عدد من أعضاء الجماعة ومناصريهم، ومنهم عبدالقادر إسماعيل ومحمد حديد وعزيز شريف وصادق كمونة ومكي جميل وعبدالجبار الملاك وعبدالنبي الدهوي وذيبان الغبان، اضافة إلى الوزير كامل الجادرجي. وحاول بعض النواب من "جماعة الأهالي" و"جمعية الإصلاح الشعبي" وفي مقدمهم الجادرجي وأبو التمن تحويل الجمعية إلى حزب سياسي معترف فيه رسميا يتبنى مبادئ الجمعية بدلا من كونها مجرد جمعية، فقدم عدد منهم طلباً إلى الحكومة لإجازة الحزب، إلا أن رئيس الوزراء حكمة سليمان رفض طلبهم تحت ضغط بكر صدقي. وهكذا سرعان ما دبّ الخلاف بين صدقي و"جماعة الأهالي" لانحرافه عن المنهج المعد سابقاً من قبلهم علماً ان صدقي كان عضواً في "جمعية الإصلاح الشعبي" السرية ولموقفه من الحريات الديمقراطية، وبسبب تأثير القوميين عليه من جهة، وتأثير ذوي المصالح خصوصاً من رؤساء العشائر وكبار الملاكين من جهة أخرى. كما اشتد الخلاف بسبب التطرف اليساري عند بعض من التقدميين من "جماعة الأهالي" خصوصاً عبدالقادر إسماعيل. وفاقم الخلاف تطرف الحزب الشيوعي بسبب النشاطات العلنية التي أقدم عليها. وفي مقابل ذلك، كانت هناك نزعة عسكرية سلطوية لدى صدقي. وأدت هذه العوامل إلى تبلور الخلاف خصوصاً بين الجادرجي وصدقي ما أدى إلى استقالة أربعة وزراء هم الجادرجي وأبو التمن وصالح جبر ويوسف إبراهيم. وتطور الخلاف الى حد حظر "جمعية الإصلاح الشعبي" في 12 تموز يوليو 1937 وتعطيل "الأهالي" التي كان إسماعيل صاحب امتيازها ومديرها المسؤول. وجرّدت حكومة الانقلاب عبدالقادر إسماعيل وشقيقه يوسف إسماعيل من الجنسية العراقية بسبب معتقداتهم الشيوعية. وغابت "الأهالي" عن قرائها منذ عام 1937 ولم تعد إلى الصدور هي وأخواتها حتى عام 1942، فانتهت بذلك المرحلة الأولى من عمر الجريدة. دور العسكر استخدمت الحكومات العراقية المتعاقبة قبل عام 1936 الجيش لأغراض سياسية، وزجت به في قمع تمرد فئات في المجتمع، واستخدم الجيش العراقي في عمليات قمع داخلي نحو 45 مرة، وكانت المرة الأولى عام 1921 بأمر من الإدارة البريطانية، ثم في 1933 لإخماد حركة الآثوريين بقيادة بكر صدقي وبقرار من رئيس الوزراء ياسين الهاشمي ووزير الدفاع رشيد عالي الكيلاني ووزير الداخلية حكمة سليمان. وفي عام 1935 زج ياسين الهاشمي بالجيش ضد سكان الفرات الأوسط، وضد سكان مدينة الرميثة بقيادة بكر صدقي أيضاً. وسُخّر الجيش في قمع التظاهرات والاحتجاجات الفلاحية واضرابات العمال والثورات الكردية والتحركات العشائرية المسيسة وغيرها من قبل الكثير من رجال السلطة. وبعد أحداث 1936، احتل بكر صدقي موقعاً سياسياً مرموقاً ومؤثراً في إدارة الحكومة وسياستها. وبلور موقعه المكتسب صورة في مخيلة العسكر بأن في استطاعتهم القفز من وظيفتهم العسكرية إلى موقع السلطة السياسية، مع ما يعنيه ذلك من تعطيل القانون، وتحويل وظيفة الجيش المنصوص عليها في الدستور من كونه قوة ضاربة تسخرها الدولة والمجتمع للدفاع عن الوطن، إلى قوة ضاربة ترهب المجتمع كما كانت قبل تأسيس "الدولة العراقية". ومنذ ذلك الحين تصاعد طموح العسكر العنيف للوصول إلى السلطة، واختدم الصراع بينهم وبين المجتمع ومؤسساته عن طريق سلسلة من الانقلابات والاغتيالات. وبقدر ما تمكن العسكر من الوصول الى السلطة السياسية، استطاع رجاله إرجاع العراق إلى الأنظمة الاستبدادية وعطلوا سيرورة الانتقال إلى المجتمع الديمقراطي. ولا شك في أن اشتراك "جماعة الأهالي" في انقلاب بكر صدقي كان خطأ سياسياً، أدى إلى اندحارها أمام العسكر وتعطيل نمو بذرة ممارسة الحوار السياسي الذي أخذ ينشأ في المجلس النيابي وفي تجمعات بغداد عموماً. واستمرت الحال على هذا المنوال حتى إلغاء الدولة الدستورية البرلمانية صباح 14 تموز 1958، لتتعطل القاعدة الأساس لممارسة السياسة في العراق، فأصبح المجتمع يرزح تحت أنظمة استبدادية تقليدية تتمتع بأداة ضاربة حديثة . واذا كان اشتراك "جماعة الأهالي" في انقلاب بكر صدقي خطأً سياسياً، الا ان ذلك لا يعني أن استبدال رجال السلطة عن طريق العنف، أي الثورة أو الانقلاب العسكري، يؤلف خطأ مبدئياً في مفهوم ممارسة المبادئ الديمقراطية وفلسفتها. وربما من المفيد هنا الإشارة إلى بعض مواقع الخطأ السياسي كما إلى المبادئ الديمقراطية التي تبرر استبدال السلطة عن طريق الثورة أو الانقلاب العسكري. إذ ان الأسس الفكرية والفلسفية التي جاءت بها الحركة التنويرية والتي تتضمن مفهومين رئيسين هما: أولاً "الحق الطبيعي" للفرد والجماعة في الوجود الاجتماعي. ولأنه يعتبر طبيعياً يصبح غير قابل لحرمان الفرد منه، ويفترض هذا الحق أن وظيفة السلطة أو الحاكم هي تأمين سلامة هذا الوجود. وفي مقابل ذلك يتنازل الفرد والجماعة موقتا عن بعض حقوقهم. واذا عجزت السلطة في وظيفتها، يحق للجماعة استبدالها بطرق سلمية أو استعمال العنف ضدها. وهذا هو المبدأ الذي جاء به هوبس، والذي أسسه على قاعدة عقلانية. ثانياً المبدأ الذي جاء به لوك وهو "العقد الاجتماعي" بين الحاكم والمحكوم، حيث تكون سلطة الحاكم ممنوحة له من قبل المجتمع ولذا يكون مسؤولاً أمامهم، بمعنى إن سلوكيات رجال السلطة محددة باتفاق مسبق لهذه السلوكيات. لذا في حال تخلي الحاكم عن التزامه بشروط العقد يحق للجماعة استبداله سلماً أو بالعنف. وعطل لوك بهذا المبدأ نزوات السلطة، وهذا ما أشار إليه الجادرجي في محاضرة ألقاها على أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي، حول حق المجتمع في اللجوء إلى الثورة. ويمكن القول ان أساس الثورة ضد رجال السلطة هو نزاع بين واجبين: واجب إطاعة القانون وواجب تحقيق العدل. فالثورة بمفهومها الديمقراطي لا ترمي إلى الاستغناء عن القانون، بل ترمي إلى إسقاط رجال السلطة الذين انتهكوا القانون. كما ان إطاعة القانون، في مفهوم العقد الاجتماعي، تتضمن التضامن مع آليات الحوار السياسي، الذي لا يكون من اجل ذاته، و إنما من اجل تحقيق العدل. و لذا فإن الثورة، واستبدال رجال الحكم، تعتبر موقفا سياسيا لأنها ترمي الى تحقيق العدالة، بمعنى أن الثورة لا تبرر إلا إذا فشلت جميع المحاولات القانونية المبنية على الآليات الديمقراطية، ويصبح هنا استعمال العنف ضد السلطة عملا سياسيا اضطراريا. وتتحدد سلوكيات رجال الثورة ضمن هدف الثورة نفسها، أي استبدال رجال السلطة الذين أفسدوها، مما يعني أن على القائمين بالثورة أو الانقلاب بعد استبدال رجال السلطة التنازل عن صفتهم الثورية والرجوع إلى صفتهم كرجال سلطة في دولة دستورية برلمانية والحرص على ممارسة الآليات الديمقراطية. ولكن يكمن في الثورة نفسها خطر سياسي. فإن تجاوز رجال الثورة هدفها وعجزوا عن إرجاع القانون وضمان حرية الممارسة السياسية وإصلاح الوضع، وستمروا في العنف والإجراءات الاستثنائية، انحرفوا بذلك عن شرعية الثورة وعن وظيفة العقد وقضية العدل والحق. أدى فشل الانقلاب إلى دحر "جماعة الأهالي" وتبع ذلك انحسار الحركة الديمقراطية وتعطيل تبلور الفكر الديمقراطي في العراق، مما يدل على أن الثورة التي أقدمت عليها "جماعة الأهالي"، خصوصاً الجادرجي وحديد، كانت خطأ سياسياً. وربما يكمن الخطأ أو أهم مسبباته في العوامل الآتية: 1 لم تقدر الجماعة جهل العسكر بالممارسة السياسية وبوظيفة الدولة في نظام دستوري برلماني.... 2 أقسم بكر صدقي على مبادئ الثورة باستبدال سلطوية ياسين الهاشمي بحكومة ديمقراطية مع منهج إصلاحي يقوم على بعض مبادئ "جمعية الإصلاح الشعبي". لكن صدقي ليس رجلاً سياسياً، وإنما رجل عسكري عراقي، لم يتثقف بالمبادىء السياسية الديمقراطية، وكان سهلاً أن يقع تحت تأثير جهات أخرى بعد الانقلاب.... 3 لم تقدر "جماعة الأهالي" ضعف القوى الديمقراطية في العراق، بل انخدعت بإقبال الناس على "الأهالي" وإعجابهم بها، فاعتبروا هذا الإعجاب تأييدا لمبادئها الإصلاحية.... ولم تكن الطبقة الوسطى في العراق آنذاك ناضجة بالقدر الكافي، بل كانت ولم تزل مغرقة في علاقات المجتمع الأهلي ومستلبة الإرادة، لذا لم تؤلف قوى عقلانية فعالة، و هذا ما لم تنتبه إليه "جماعة الأهالي". وكانت هذه الطبقة تنجذب بسهولة لشعارات حماسية غوغائية، لأنها تمنحها الفرصة لالتقاط الأنفاس من مظالم مزمنة في أعماق نفسية أفراد المجتمع، وتمثلت هذه الشعارات في بداية الأربعينات بغوغائية يونس البحري، ثم في الخمسينات بجمال عبدالناصر واحمد سعيد وعبدالكريم قاسم وفاضل المهداوي وغيرهم. لذا فإن اشتراك "جماعة الأهالي" في الانقلاب بهدف إجراءات إصلاحية، كان لا بد لها أن تصطدم مع مرجعيات "المجتمع الأهلي".... 4 لم يكن للجادرجي ولحديد خبرة في التعامل مع العسكر، سوى أن هناك صداقة حميمة بين الجادرجي وطه الهاشمي الذي كان رئيس أركان الجيش، وجواد حسين آمر القوة الجوي.... ويلاحظ أننا لم نشر إلى دور أبو التمن في هذا الصدد، لأن موقفه يختلف من حيث المبدأ عن الجادرجي وحديد. فهما امتهنا السياسة واطلعا على فلسفة التنوير وصيغها المعاصرة، بما في ذلك الفابية والجدلية المادية وغيرها، فيما لم يطلع أبو التمن على هذه المفاهيم. فهو رجل يتمتع بأخلاقيات متينة في الاستقامة والصدق والوطنية وداعٍ حقيقي للإصلاح والحد من إفساد الدولة والمجتمع. وللسبب ذاته استهواه الانقلاب باعتباره خطوة سريعة لتحقيق ذلك....