إن الاعمال الارهابية التي انتشرت في كثير من اقطار العالم اليوم، وصارت ترتكب لأغراض سياسية او دينية، ليست ممارسة حديثة العهد، بل تعود الى عهود قديمة، لانها تعبير عن نوازع الشر الكامنة لدى بعض الناس، والاستهانة بالقيم الانسانية والقوانين الالهية والوضعية، في سبيل تحقيق اغراض معينة، وهي ليست الا تجسيداً لمقولة "الغاية تبرر الوسيلة". لقد عُرف الارهاب في التاريخ البريطاني، كما عُرف في غيره، وشهدت بريطانيا عدداً لا يحصى من الذين مارسوا الارهاب، لعل اشهرهم في تاريخ انكلترا هو غاي فوكس الذي يحيي اطفال الانكليز ذكرى اعدامه في مثل هذا الشهر تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام. وقد حاول فوكس تنفيد مؤامرة خطيرة كاد يذهب ضحيتها الملك ووزراؤه واعضاء البرلمان البريطاني، لكن تقادم العهد بهذه المؤامرة جعلها من مناسبات التسلية الطريفة التي يلهو بها الاطفال. كان ذلك في عهد الملك جيمس الاول 1566 - 1625 ابن الملكة ماري، ملكة اسكوتلندا التي اجبرت على التنازل عن العرش، ونُصّب هو خلفاً لها وعمره سنة واحدة، باسم جيمس الاول، ونشأ الملك الطفل رجلاً عصبي المزاج، غريب الاطوار، واسع المعرفة، قليل الخبرة، شديد الايمان بالحكم المطلق ونظرية "الحق الالهي" للملك في الحكم. وكانت البلاد في عهده تمزقها الحزازات الدينية والطائفية. وعلى رغم ان أمه كاثوليكية، فقد نشأ جيمس الاول بروتستانتياً متعصباً، فأثار ذلك حفيظة الكاثوليك الذين لم يرتاحوا لحكمه، وكرهوا تحيّزه ضدهم. وأخيراً قرروا التخلص منه، ودبّروا مؤامرة لقتله. واختار المتآمرون لتنفيذ خطتهم يوم افتتاح البرلمان في 5 تشرين الثاني 1605، حين يكون الملك ووزراؤه واعضاء البرلمان مجتمعين فيه عند افتتاح دورته الجديدة. وكان المتآمرون يرون انهم اذا تمكنوا من القضاء على الملك وانصاره، ضمنوا السيطرة على مقاليد الامور في البلاد اثناء الفوضى التي تسودها. وكان زعيم المؤامرة، ورأسها المدبّر، شخصاً يدعى روبرت كاتسبي، وكان كاثوليكياً متطرفاً، وذا شخصية قوية، يعاونه عدد آخر من المتآمرين، بينهم ابن عمه تزماس وينتر وتوماس برسي وجون رايت ومعهم رجل آخر يدعى غاي فوكس تمكنوا في اللحظة الاخيرة من اقناعه بالاشتراك معهم. كان فوكس الذي ارتبطت المؤامرة باسمه في ما بعد انكليزياً ولد في مقاطعة يورك لأبوين بروتستانتيين، لكنه تحول الى الكاثوليكية. ومن المعروف ان الذين يتحولون الى مذهب جديد، او حزب جديد، يكونون أكثر تحمساً من ابنائه الاصليين الذين وجدوا انفسهم ينتمون الى دين او مذهب معين منذ ولادتهم، اي انهم لم يختاروا دينهم او مذهبهم القديم. إن روح المغامرة والحماسة الدينية التي كانت تغلي في نفس فوكس حملته على مغادرة انكلترا البروتستانتية في سنة 1563، والانضمام الى الجيش الاسباني في هولندا، في وقت كانت فيه هولندا في حال حرب مع انكلترا. وهناك حصل على سمعة جيدة بشجاعته وكفاءته الادارية وسع حيلته. وأثناء ذلك كان الرأس المدبّر للمؤامرة روبرت كاتسبي وجماعته الصغيرة من الكاثوليك، قد شعروا انهم يحتاجون الى رجل عسكري، على ألا يكون معروفاً على نطاق واسع مثلهم كي لا يجلب اليه الانظار، ولا يسهل التعرّف على هويته. فأرسلوا رجلاً الى هولندا في نيسان ابريل عام 1604 ليقابل فوكس ويقنعه بالانضمام الى جماعتهم. فوافق فوكس وعاد الى انكلترا، وانضم الى الجماعة من دون ان يعرف التفاصيل الدقيقة للمؤامرة المزمعة. وبدأ المتآمرون بتنفيذ مخططهم باستئجار بيت مجاور لمبنى البرلمان في ايار/ مايو 1604 ثم حفروا نفقاً يبدأ من قبو ذلك البيت، ماراً تحت مبنى مجلس اللوردات. وفي آذار مارس 1605 تمكنوا من استئجار سرداب يقع تحت قصر ويستمنستر مباشرة، ثم وصلوا بين القبوين. وتمكن فوكس ان يُدخل الى القبو خلسة عشرين برميلاً مليئة بالبارود، فوقها قضبان من الحديد ليكون اثر الانفجار اشد واقوى. واخفى هذه البراميل تحت اكوام من الحطب والفحم المستعملين للتدفئة. وكان دور فوكس في تنفيد المؤامرة هو اشعال الفتيل في البراميل اثناء الاجتماع في البرلمان، لينفجر البارود ويدمر المبنى ومن فيه. وكان قد انضم الى المؤامرة اشخاص آخرون، احدهم يدعى فرانسيس تريشمان له ابن عم هو اللورد مونتفيل الذي كان عضواً في البرلمان، فأرسل اليه تريشمان كتاباً طلب منه فيه ان يبقى بعيداً عن البرلمان في ذلك اليوم. فلما اطلع مونتفيل على الكتاب، أدرك خطورة ما سيحدث اذا نفّذت المؤامرة، وقام بوازع ضميره، بابلاغ رئيس الوزراء اللورد سالزبيري بأمر المؤامرة. وفي يوم 4 تشرين الثاني 1605، وهو اليوم السابق لموعد تنفيذ المؤامرة، جرى تفتيش المبنى مرتين، في المرة الاولى داهم الحرس القبو الذي توجد فيه براميل البارود، وقاموا بتفتيش دقيق للابنية وأقبيتها، فوجدوا فوكس الى جانب كومة الحطب التي اخفيت تحت براميل البارود. فارتابوا في أمره، ومن سوء حظه انه كان المتآمر الوحيد الذي كان موجوداً في المكان في ساعة التفتيش. ولدى تفتيش حقيبته وجدوا فيها فتائل بطيئة الاشتعال، فألقوا القبض عليه وبدأ التحقيق معه على الفور، واعترف تحت التعذيب بتفاصيل المؤامرة لكنه لم يكشف عن اسماء المتآمرين الآخرين الا بعد تعذيبه على "المحلقة"، وهي من أدوات التعذيب القديمة يمطّ عليها الجسم. واحيل فوكس على المحاكمة امام محكمة خاصة، فحكم عليه بالاعدام، ونفذ فيه الحكم امام مبنى البرلمان في 5 تشرين الثاني 1605. أما المتآمر الرئيسي كاتسبي وثلاثة آخرون من المتآمرين، فقد قتلوا خلال مواجهة مع الحرس حاولوا خلالها المقاومة. وأثارت هذه الحادثة الرأي العام البريطاني ضد روما، واعقبها اتخاذ اجراءات قاسية ضد الكاثوليك في انكلترا. وأصبحت هذه العملية التي عرفت في انكلترا باسم "مؤامرة البارود" من المناسبات الشعبية الطريفة في انكلترا وفقدت اهميتها السياسية والدينية، فأصبحت مناسبة شعبية يحتفل بها الاطفال بصورة خاصة ويجدون فيها متعة وتسلية. ويشاهد في شوارع لندن منذ اوائل شهر تشرين الثاني من كل عام، اطفال يطلون وجوههم بأصباغ ملونة، ويسيرون الى جانب دمية على هيئة رجل، مصنوعة في الغالب من قماش محشو بالخرق البالية، وهم يسحلونها معهم، طالبين من المارة بنساً قائلين: "بنس للغاي" فاذا حلّ اليوم الخامس من هذا الشهر اشتعلت النيران في شتى الحدائق والميادين في معظم مدن انكلترا، والقيت فيها تلك الدمى في عملية ترمز الى عهد مضى وانقضى، واصبحت ذكراه مجرد تسلية للأطفال، ولا يفكر أحد ان الارهاب بدأ في الغرب، قبل ابن لادن والزرقاوي بقرون عدة وأصبح الآن من مخلفات التاريخ واسباب التسلية. فمتى سيصبح الارهاب ممارسة قديمة وموضوعاً للتسلية لدينا، وليس وسيلة للقتل والتدمير