لو أن أحداً وضع ما يحدث في العراق اليوم في سيناريو قبل الحرب لقيل انه متشائم بما فيه الكفاية وانه يشك في النيات الاميركية لإقامة ديموقراطية حقيقية في العراق تنعكس تغييرات ديموقراطية في المنطقة. لكن النتيجة التي توصل إليها الاميركيون أخيراً حسب تصريحات مسوؤل اميركي لم يشأ ان يذكر اسمه، ان الطموح النهائي هو اقامة نظام شبيه بالنظام المصري الحالي، وان عودة البعثيين الى الحكم ستتم قبل الانتخابات، وان رئيس الحكومة الموقتة سيكون "مؤبداً" مثل أي رئيس عربي، وان العراق سيخرج من نفق صدام حسين ليدخل في نفق مجهول وان "الشيطان" الذي تعرفه سيصبح أفضل من شيطان لا تعرفه، وان العراق وقع ضحية صراع الدوائر الاميركية الذي تسبب به صراع أحمد الجلبي المحسوب على البنتاغون واياد علاوي المحسوب على الأجهزة الأمنية، وان المحمكة الخاصة التي شكلها الحاكم السابق بريمر خلفا لمحكمة الثورة الخاصة السيئة الصيت ستظل سيفا مسلطا من قبل الحكومة على كل من ينتقد الحكومة أو يختلف معها أو تريد إقصاءه من العملية السياسية، كما حدث مع الجلبيين احمد وسالم، وكما حدث مع المحمداوي عضو مجلس الحكم السابق وغيره، وان المجلس الوطني البرلمان هو عبارة عن دائرة تابعة للحكومة بحيث أنها ترفض حضور وزير الخارجية ليجيب عن تساؤل في شأن صفقة بثلاثين مليون دولار مع شركة ألمانية في حين ان شركة بلجيكية قدمت عرضا بالمواصفات نفسها بأقل من نصف المبلغ، وان الرجل الذي ذهب الى إسرائيل ستدينه محكمة عراقية فيما يرفض البرلمان مساءلة رئيس الحكومة الذي صافح وزير خارجية إسرائيل. ويغيب أعضاء مجلس الحكم السابق الذين أصبحوا روتينياً أعضاء في المجلس عن جلساته في بادرة احتقار للبرلمان لم تشهدها أية ديموقراطية في العالم. حتى تعهدات نائب وزير الدفاع الاميركي وولفوفيتز الشفوية لأحزاب المعارضة لم يتم تحقيقها الا بشكل جزئي. فقبيل الحرب استدعى وولفوفيتز قادة أحزاب المعارضة كلا على انفراد أول الأمر في فندق غروفنر في لندن ووجه إليهم أسئلة عن مرحلة ما بعد الحرب. أولا: 95 في المئة من النفط العراقي يباع للولايات المتحدة والباقي يباع لدول اخرى باشراف اميركي. هل توافقون؟ ووافقت الأطراف. ثانياً: المرحلة الانتقالية لا تشهد أي تحريض سياسي أو إعلامي ضد إسرائيل. هل توافقون؟ ووافق الحاضرون. ثالثاً: المرحلة الانتقالية لا تسمح لأي طرف إرهابي بالعمل ضد إسرائيل من داخل العراق. هل توافقون؟ ووافق الجميع. فقرة واحدة تحققت من هذا العقد الشفوي وهي ان النفط العراقي يباع لأميركا والباقي تحت إشراف اميركي. وتحول العراق بعدها الى ساحة عجيبة من التناقضات ليس أغربها إعدام عراقي متجنس بالإيطالية وتركماني بتهمة لا يعرف أحد كيف صاغتها الجهة المعنية وماذا أرادت منها، فقد اتهمته بالعمل لمصلحة إيران وتركيا وإسرائيل بالتنسيق مع الدول الثلاث وجاءت بأسماء شيعية مختلقة باعتبارها المنسق العراقي للتجسس، فيما كشف عميل اميركي لصحيفة "ديلي تلغراف" البريطانية أنهم دفعوا الى تكوين قصص خيالية لتضخيم أسطورة أبي مصعب الزرقاوي بهدف خلق عدو شرير لإخراج فيلم عن الصراع بين الخير والشر كما في الأفلام والقصص. في هذا الوضع يحرك الأكراد قضية كركوك كلما أرادوا إرباك التسويات. ويتهم عراقيون قوات التحالف بخرق الهدنات مع النجف ومدينة الصدر وسامراء كلما جرى حديث عن تهدئة أو انتخابات. ولا أحد يفهم لماذا لا تعمد قوات التحالف للسيطرة على ستة كيلومترات من "طريق الموت والاغتيالات والخطف" التي تمر باللطيفية على بعد ثلاثين كيلومترا جنوببغداد والتي تحولت دويلة للجماعات السلفية المسلحة ترتبط بالفلوجة بطريق برية. ولا أحد يفهم ماذا يفعل الاميركيون وماذا يريدون بالضبط؟ ولماذا اختصرت عملية إعادة اعمار العراق بإعادة اعمار المنطقة الخضراء؟ ولماذا بدأ مسؤولون أميركيون يشيعون لغة اليأس والإحباط في تصريحاتهم عن العراق؟ وفي وقت يهاجم وزير الدفاع العراقيإيران بلا هوادة يعود رئيس الحكومة اياد علاوي من واشنطن وهو مكلف بالتطبيع مع إيران أولا ثم التطبيع بين واشنطن وطهران فيما بعد. انها لا تبدو فوضى العراق بقدر ما تبدو فوضى العالم التي انعكست على العراق ويدفع ثمنها العراقيون الذين أصبحوا كالعروس التي انتظرت زواجها حتى وصلت سن اليأس وتلقت طلقة في يوم العرس بدلاً من ان تقضي شهر عسل لذيذ. وتحت ركام من التدهور الأمني وانفلات الأمور اختفى الكلام على الفساد وتأجلت الشفافية وتراجعت النزاهة وتعين الأصحاب والأقارب في محسوبية لم يشهد لها العراق مثيلا من قبل في سباق محموم على احتكار البلاد حكومة وبلدا منذ الآن. فبدلاً من محسوبية حزب البعث الواحد حلت ستة أحزاب في هذه المحسوبية وظل ضحايا صدام هم ضحايا اليوم يمثلهم أربعة ملايين عراقي هم سكان مدينة الثورة، الاسم الأسبق أو مدينة صدام الاسم السابق، أو مدينة الصدر الاسم الحالي، الذين لايجدون بديلا لانسحاقهم أربعين عاما سوى الانخراط في "جيش المهدي". من جانبها لا تعنى الحكومة مثل سابقها مجلس الحكم، بتغيير واقع صدام، وإنما بأشكال صدام ورموزه، فها هي المسابقة الثانية لتصميم علم عراقي، وها هو النشيد الوطني يضيع ولا أحد ينشده، وها هو العراق يشهد للمرة الأولى في تاريخه الحديث مرور عام ونصف عام من دون ان يحتفل بمناسبة وطنية أو يوم وطني، فقد اختلطت الأيام وارتبكت بحيث لم يعد العراقيون يعرفون متى يحتفلون ومتى يفرحون فهم يعرفون منذ أكثر من ستة وثلاثين عاما كيف يبكون ويحزنون. في الوقت نفسه تراجعت نسبة الثقة بالانتخابات وتقلصت آمال العراقيين باختيار نظام حكم ديموقراطي، وأصبح المسؤولون الحاليون يتخفون ويغيرون سياراتهم وطرق سيرهم ويزيدون حراساتهم خوفاً من عمليات الاغتيال، أي أصبحت الحكومة هاربة ومتخفية امام خليط من إرهابيين وبعثيين وفدائيي صدام ومجرمين من مختلف الجنسيات والعقائد والشعارات، وصارت صور الذبح بالسكين صورة عراق اليوم ولا احد يدري من الذي يذبح ولماذا، فالشعارات غائمة والاهداف سرية والأساليب مروعة. مع هذا لا تحدث عراقياً مخلصاً انتظر يوم الخلاص من صدام ونظامه إلا وتفاءل بان الخلاص قريب وان تصميم العراقيين على صنع غد أفضل لا يزال مستمراً، وان لهجة النقد عندهم في أوج تصاعدها ضد كل مظاهر القتل والاستلاب مثلما ضد أداء الحكومة وعدم قدرتها على توفير الخدمات والأمن. من الواضح ان الولاياتالمتحدة لم تستطع إقناع العراقيين بأنها حررتهم فعلاً من نظام صدام، سواء كان ما يحدث هو "مؤامرة" كما يعتقد أصحاب نظرية المؤامرة، أم تخبط وعدم معرفة واعتماد واشنطن على تجريب سياسات الرد على وقائع لم تحسب لها الحساب، فهي صارت تتبنى نظرية البعثيين السابقين من إن حل الجيش و"حزب البعث" وأجهزة الأمن والاستخبارات كان خطأ، لذلك بدأت تسمح لحكومة علاوي باستعادة "البعث" برموز أمنه واستخباراته، إضافة إلى رموز إدارته وفكره فصارت ترتكب خطأ في مقابل آخر، فعودة البعثيين ستكون مكافأة ثانية لهم وعقاباً ثانياً للعراقيين الذين من الواضح أنهم لن يسكتوا عن ذلك. وإذا كانت الانتخابات التي تؤكد الإدارة الاميركية، كما يؤكد رئيس الحكومة، انها ستتم، على شاكلة التعيينات التي فرضتها الحكومة على المجلس الوطني، فان تصريح المسؤول الاميركي من إن انتصاراً سيحدث إذا نجحت واشنطن في تشكيل نظام على نمط نظام الرئيس حسني مبارك في مصر سيكون نهاية المطاف لكارثة الحرب وما أعقبها من تضحيات عراقية وقتلى وصل عددهم إلى عشرين ألفاً بسبب الانفلات الأمني. وهكذا فان اتفاق ولفوفيتز مع أعضاء الحكم الحالي عندما كانوا في المعارضة، نجح في إن تحصل الولاياتالمتحدة على نسبة 95 في المئة من النفط العراقي، وان يحصل علاوي على نسبة 95 في المئة من الحكم، والباقي ذرته رياح التناقضات والمفاجآت والتفجيرات والسيارات المفخخة والعمليات الانتحارية وسكين الزرقاوي وحرب الفضائيات التي استثمرت الحال تجارياً ودخلت طرفاً في الحرب وترتيب الوضع السياسي الحالي في العراق ودعم هذا الطرف على حساب ذاك ووضع يدها الإقليمية في التدخل القوي في الشأن العراقي ونجحت في ترتيب معادلات سياسية كان من المفروض إن الوضع العراقي الجديد سيتجاوزها باعتبارها من مشاكل الماضي السياسي للعراق. في زيارته إلى واشنطن أجاب الرئيس العراقي غازي الياور على سؤال الرئيس الاميركي عن قوة آية الله السيستاني بأن رجل الدين الشيعي صمام أمان للوضع في العراق، وكان يرد بذلك الجميل الذي أسداه الأعضاء الشيعة في مجلس الحكم لدعمه ضد عدنان الباجه جي، وكذلك الأكراد الذين دعموه. وإذا كان ما قاله الياور سيظل صحيحا فان الانتخابات المقبلة إذا حصلت لا يمكن ان تمر على طريقة سيطرة الحكومة على 95 في المئة من تعييناته، وإذا تغيرت الحال فان صراع الحكومة مع المرجعية سيعيد العراق إلى صراع العشرينات، وربما أعاد التاريخ نفسه. فالهجوم الرسمي العراقي على إيران ينذر باندلاع نزاع سياسي لن يساعد على استقرار الوضع في العراق، وسيكون ذريعة، كما كان من قبل، لتمرير أهداف وخطط تبقي العراق في قبضة عدم الاستقرار الذي سيكون بدوره عاملا على حال عدم الاستقرار التي تتطلبها أسعار النفط في أحيان كثيرة. هناك سؤال يطرحه منحازون كما يطرحه محايدون: هل سيبقى التمثيل الشيعي كما هو عليه الآن؟ هذا السؤال أثاره مقربون من المرجع الشيعي بالتأكيد على نسبة الشيعة في الحكم، لافتينى الى مؤشرات حول تحجيم القوى الدينية الشيعية من قبل الحكومة الحالية، الأمر الذي يمكن ان يكون تمهيداً لإضعافها في الانتخابات المقبلة وتقليص دورها للبدء بمرحلة تجاوزها في المستقبل. لذلك فان قوائم الكتل السياسية التي تستعد للانتخابات تشهد مناورات للقوى السياسية غير الدينية من أحزاب الحكم الحالي الائتلافي، فهي تضع أسماءها في قوائم متعددة بهدف الوصول إلى البرلمان المقبل بأي ثمن، وإذا استمرت سياسة الائتلاف بين القوى التي احتكرت الحكم ورضي بعضها بوزير وثلاثة وكلاء وبضعة مدراء فان مستقبل العراق سيكون أسوأ مما هو عليه الآن على رغم انه سيكون أحسن مما كان عليه في عهد صدام، وهذا هو الرهان الذي تروج له الأحزاب الستة التي احتكرت الحكم من دون ان تدرك ان هذا الاحتكار لن يحل مشكلة الشعب العراقي ولا مشاكل تراثه السياسي العنفي