يجمع المراقبون قبيل خمسة أيام من موعد تسليم السيادة في 30 حزيران يونيو الجاري، على أن الأمن يحتل الموقع الأول في الأولويات في الساحة العراقية. فبدون أمن لا إعادة إعمار أو ازدهار أو تدفق طبيعي للنفط، ولا انتخابات، ولا حرية، ولا ديموقراطية، ولا أي من المكاسب التي وعدت بها أميركا منذ اطاحت نظام صدام حسين قبل خمسة عشرة شهراً. فمن الواضح وضوح الشمس أن التحالف فشل في الامتحان الأمني، ولم يقو الجيش الأميركي المؤلف من 138 ألف جندي إضافة إلى 10 آلاف جندي بريطاني، على القضاء على المقاومة، بل إن الوضع الأمني هو في الواقع أسوأ من أي وقت مضى. فلا يكاد يمر يوم واحد من دون انفجار سيارات مفخخة ودون كمائن وهجمات بمدافع الهاون واحتجاز رهائن واغتيال البارزين من العراقيين المتعاونين مع الاحتلال. فهل تفلح الحكومة العراقية في تحقيق نتائج أفضل حين تتولى - على الأقل نظرياً - كل السلطة في نهاية الشهر؟ وهل ينجح إياد علاوي رئيس الحكومة الجديدة في الوصول إلى استتباب الأمن؟ لا شك أن حظه في ذلك أفضل من أسلافه. ذلك أن علاوي سيستفيد من الشرعية التي منحها مجلس الأمن لحكومته في القرار 1546، كما سيستفيد، وهذا هو الأهم، من المال الذي ستستمر أميركا في إنفاقه في البلاد. وهو بالإضافة إلى ذلك حصل على بعض التأييد من جانب حكومات عربية وإسلامية بل حتى من جانب بعض الدول الأوروبية التي عارضت الحرب. ونشير في هذا الصدد إلى رسالة التشجيع التي وجهها الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى إياد علاوي مطلع هذا الأسبوع. غير أن الكلام والمال وحدهما لا يكفيان لضمان النجاح. معضلة ولفوفيتز أمضى بول ولفوفيتز نائب وزير الدفاع الأميركي والمهندس الرئيسي للحرب على العراق أربعة أيام في بغداد في الأسبوع الماضي، يرافقه السير كيفن تيبيت الأمين العام الدائم لوزارة الدفاع البريطانية. كانت مهمتهما تتلخص في التوصل إلى اتفاق مع السيد علاوي وأهم زملائه على صعيد الجبهة الأمنية، وزير الدفاع حازم شعلان ووزير الداخلية فلاح النقيب، حول الخطوط العريضة للإستراتيجية الأمنية. وتقول مصادر مطلعة أن المحادثات كانت حامية الوطيس إذ كان هناك اتفاق محدود على بعض النقاط في حين ظلت أكثر الأمور موضع اختلاف كبير. ولعل أهم بند في الاستراتيجية الجديدة التي وافق عليها الطرفان هو أن يتولى العراقيون في الأشهر المقبلة المسؤولية الرئيسية عن الأمن بدلاً من قوات التحالف التي سيقتصر دورها على تقديم الدعم، بحيث يتولى العراقيون بدلاً من القوات الغربية محاربة المقاومين العراقيين. وهذا بعبارة أخرى يعني أنه سيعاد بناء الجيش العراقي. فقد قال علاوي بكل صراحة أنه يعتبر قرار بول بريمر، الحاكم الأميركي، حل الجيش العراقي كان خطأ فادحاً، وأنه يريد إعادة بناء الجيش في أقرب وقت ممكن بدءاً بتشكيل قوة من 45 ألف جندي كحد أدنى يجري اختيارهم من الجيش العراقي السابق. ويقول علاوي أنه إذا كان عليه أن يعيد استتباب الأمن فإن على أميركا أن تسمح بإعادة تسليح العراق. وهو يريد في الواقع جيشاً من 250 ألف جندي له دباباته وصواريخه ومدافعه الثقيلة وطائراته. غير أن مثل هذا البرنامج أمر مرفوض من جانب إسرائيل وأصدقائها من الأميركيين، إذ يشاع في العراق أن بريمر أقدم على حل الجيش العراقي بضغط من إسرائيل بالدرجة الأولى. ففي أذهان رجال مثل ولفوفيتز وزملائه من المحافظين الجدد أن الغرض من الحرب على العراق هو إضعاف هذا البلد نهائياً وتقسيمه إذا أمكن إلى دويلات منفصلة بحيث يمنع من أن يتحدى ثانية إسرائيل أو المصالح الأميركية النفطية والاستراتيجية في الخليج. فالقبول بإعادة تشكيل جيش عراقي جديد، أي انبعاث جيش صدام حسين، معناه توجيه ضربة قاتلة لآمال أولئك المحافظين الجدد. طموحان عراقيان لذلك فليس غريباً أن تنشب خلافات بين علاوي وولفوفيتز خلال محادثات بغداد حول حجم القوة العراقية الجديدة وتسلحها. فولفوفيتز يريد أن يضع سقفاً للجيش العراقي الجديد بحيث يتم تزويده أسلحة خفيفة فقط، وهو حتماً يرفض منحه الدبابات والصواريخ والطائرات، إذ إنه يريد التأكد من منع العراق من لعب أي دور إقليمي. أما علاوي فيريد على العكس التمتع بالحرية التامة في بناء جيش قوي مجهز بكل ما يحتاج إليه من سلاح وعتاد. ومثل هذا التناقض بين الموقفين لا بد أن يؤدي إلى صدام على المدى القريب أو المتوسط. وفي هذا الصدد ذكرت صحيفة"فاينانشال تايمز"اللندنية هذا الأسبوع، أن سلطات الاحتلال الأميركي، في عزمها على منع حصول العراق على أسلحة ثقيلة، منحت عقداً ب 259 مليون دولار لشركة أميركية تدعى"أنهام جوينت فانتشور"تكون بموجبه المورد الوحيد للسلاح إلى العراق خلال السنتين المقبلتين. فهل تقبل الحكومة العراقية بأن يُحدّ من سيادتها بهذا الشكل؟ فأميركا تحاول فرض إرادتها لأنها تقدم المال، لكن يبدو أن هناك حداً لا بد للسلطات العراقية الجديدة أن تتمرد عنده. والمعضلة التي تواجهها أميركا هي أنها بكل إمكاناتها عاجزة لوحدها عن حل المشكلة الأمنية في العراق. غير أنها لا ترغب من ناحية أخرى في رؤية جيش عراقي قوي يعود إلى الوجود في خدمة حكومة مركزية قوية في بغداد. ورغم ذلك فليس أمام أميركا خيار حقيقي آخر. فإذا كانت ترغب بتحقيق شيء من الاستقرار في العراق قبل انتخابات الرئاسة الأميركية في تشرين الثاني نوفمبر المقبل، فلا بد لها من الاعتماد على إياد علاوي، أملها الوحيد. وأما إذا أخفق واستمرت المقاومة على وتيرتها الحالية، فإن الفشل الأميركي يصبح تاماً من دون أن يكون هناك في المدى المنظور أي استراتيجية بديلة. ولقد اختير إياد علاوي رئيساً للحكومة الجديدة لما عرف عنه من حزم وقسوة، ومن دراية وسعة إطلاع في الشؤون الأمنية. وهو البالغ الثامنة والخمسين من العمر على صلة وثيقة بالاستخبارات البريطانية والأميركية. ولقد نشأ وترعرع في المدرسة البعثية المتشددة لكنه اختلف مع صدام في السبعينات وسافر إلى الخارج حيث قضى 22 سنة في المنفى. ويقول الزملاء الذين عرفوه كطالب في كلية الطب بأنه كان دائماً يحمل مسدساً. وقد أصيب بجروح بليغة وقضى سنة كاملة طريح الفراش في المستشفى بعد أن حاول شخص يعتقد بأنه عميل عراقي قتله بالفأس وهو في سريره. وإذا ما أراد إياد علاوي أن ينجز ما هو منتظر منه في العراق فإن على أميركا أن توافق على أكثر بكثير من إعادة تسليح العراق. فهي قد تضطر إلى صرف النظر عن الديموقراطية وحقوق الإنسان، ذلك لأن علاوي إذا ما أراد القضاء على المقاومة، فعليه أن يعيد بناء جهاز المخابرات الذي كان ذا سمعة رهيبة ويلجأ إلى الاعتقالات والتعذيب والإعدامات الفورية وغير ذلك من الأساليب المعهودة في نظام صدام حسين والتي اعتمدتها القوات الأميركية نفسها في سعيها للسيطرة الكاملة على البلاد. وقد تضطر أميركا لتنقذ ماء الوجه في هذا الظرف الحرج أن تقبل بأن ينتهي نظام إياد علاوي إلى ما لا يختلف كثيراً عن النظام الذي أقدمت على قلبه. بل قد تضطر أميركا إلى تقديم تنازلات أخرى ذلك أن رئيس الحكومة العراقية الجديدة، في سعيه إلى استرضاء قطاع واسع من الشعب العراقي سوف يلح في طلب انسحاب القوات الأميركية خلال هذه السنة أو في السنة المقبلة. غير أن ولفوفيتز أفاد أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأمريكي هذا الأسبوع بأنه يفكر في إبقاء قوات أميركية في العراق لعدة سنين، مما يدل على أنه لن يتخل بعد عن هدف المحافظين الجدد في جعل العراق نوعاً من الدولة الحليفة أو العميلة بمجرد ما تهزم حركات المقاومة. فهو على ما يبدو لم يستوعب بعد، رغم الثمن الباهظ الذي بذلته بلاده بالرجال والمال، بأنه لن يكون لها أي سيطرة على النفط العراقي وأي احتمال لأن تقيم قواعد عسكرية في هذا البلد. من ناحية أخرى فإن الصراع على السلطة في العراق لا يزال في بدايته. فهنالك عند الشيعة نزاع وتنافس حول من يمثل الطائفة حقاً. وأما أهل السنة الذين حكموا البلاد منذ ما يقرب من ثمانين عاماً فليسوا على استعداد لأن يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية، وقد كشروا عن أنيابهم في الفلوجة وسواها. وأما الأكراد، فطموحاتهم مغالية بحيث لا يمكن لأي عربي أن يقبل بها. وهنالك إلى جانب ذلك كله حركة إسلامية أصولية كشفت عن وجهها القبيح. كل ذلك يفسح مجالاً واسعاً للنزاعات في المستقبل. وأما الجيش العراقي، فلديه تقاليده الوطنية الراسخة. وهو إذا ما أعيد بناؤه، كما يعتقد إياد علاوي بضرورة ذلك كي يتاح له فرض النظام، فقد يلجأ أركانه من الضباط، وقد استعادوا ثقتهم، إلى الاستيلاء على السلطة كي"ينقذوا البلاد". إنه تقليد راسخ في مصر وسورية والعديد من الدول العربية الأخرى التي مرت بهذه التجربة أكثر من مرة خلال نصف القرن الأخير، بما في ذلك العراق نفسه. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.