استطاعت العملية الإعلامية الأميركية تجاوز استقطاب الانتباه الإعلامي في العراق والشرق الأوسط وتسليط الأضواء على فرنسا. وفي ما يشبه حملة "انتقام" ممن وقف في وجه التحالف الذي غزا العراق، وتطبيقاً لنظرية كوندوليزا رايس القائلة: "تجاهل روسيا وتجنب ألمانيا وانتقم من فرنسا"، تبدو صورة الجبهة الإعلامية وكأن وسائل الإعلام الأميركية بالتعاون مع وسائل الإعلام البريطانية قررت معالجة "الحالة" الفرنسية، كما يحلو لبعض المنظرين الأميركيين القول. وفي الواقع منذ انهيار النظام العراقي ومعه مقاومة الغزو بشكل أسرع مما كان يتوقعه حتى الحلفاء، تحفل الوسائل الإعلامية الأنكلوسكسونية بأخبار تشبه المعلومات "الجيمس بوندية" وتتعلق أكثرها بعلاقات "الحلف المناهض للحرب" وفي مقدم أعضائه روسياوألمانيا، وخصوصاً فرنسا. فصحيفة "ديلي تلغراف" البريطانية طالعت قراءها باكتشافات مراسليها في العراق من "وثائق سرية" عثروا عليها في "مراكز الاستخبارات العراقية المهجورة" بين حطام الأثاث وركام الأبنية! وقبل أيام تصدرت صفحات "صنداي تايمز" البريطانية أخبار عن "اكتشافات" أخرى لمراسليها داخل أبنية وزارة الخارجية المهدمة لوثائق "تثبت أن فرنسا كانت تُطلع النظام العراقي بشكل منتظم على فحوى مباحثاتها مع الولاياتالمتحدة"! ولكن لو تفردت صحيفة أو صحيفتان فقط بهذا النوع من الأخبار لهان الأمر وأمكن اعتباره من ضمن حقل التنوع الإعلامي الضروري والمفيد. ولكن وجود تيار إعلامي مركز تصب مختلف روافده في اتجاه واحد يطرح تساؤلاً حول الجهات التي يمكن أن تقف وراء استهداف فرنسا بالذات ضمن الحلفاء المناهضين للحرب، في محاولة لتلطيخ سمعتها لدى الرأي العام الغربي بشكل عام والأميركي بشكل خاص. من نافل القول ان السلطات الإعلامية الأميركية أو البريطانية تقف وراء حملة معينة، وأنها تستطيع التحكم بمدٍ معلوماتي يغطي شبكة ضخمة بمثل ضخامة شبكة الإعلام الأنكلوسكسونية تجمع آلاف الصحافيين والعاملين في الإعلام الذين يتمتعون بخبرة كبيرة لا يمكن الشك فيها. أضف أن كثيرين من الإعلاميين في البلدين يعارضون المنحى الذي اتخذه الحلفاء في نهاية الجولات الديبلوماسية وتجاوزه الشرعية الدولية. لكن هذا لا يخفي واقع أن الإعلام الأنكلوسكسوني عموماً مناهض لفرنسا بشكل شبه مرضٍي ويثير العجب والتعجب. غير أن التأكيد المنطقي لغياب "مؤامرة إعلامية" موجهة ضد فرنسا، لا يمنع وجود مصادر معلومات "موجهة" تسعى لتلطيخ صورة فرنسا لدى الرأي العام الغربي وتشويه صورة سياسة قادتها لدى الرأي العام الداخلي الفرنسي، وذلك عبر إغراق وسائل الإعلام بسيل من المعلومات المغرضة والمفترية بهدف النيل من صدقية مواقفها. ويقول مسؤول فرنسي كبير أن كثيراً من المعلومات التي تسوق وتدس في شبكة الإعلام العالمية مصدرها "المكتب الإعلامي للتحالف" الذي يلعب دور مولِّد وموزع لمعلومات هي أبعد ما تكون عن الدقة لا بل مختلقة من أساسها. ويتابع المسؤول: "ان أكثر من جهة وليس فقط فرنسا، قدمت احتجاجات كثيرة إلى السلطات الأميركية في شأن وجود مكتب إعلام موجه وعد رامسفيلد بتفكيكه ولكنه اكتفى بتغيير اسمه!". ويرى بعض "التاريخيين" في الأمر ترسبات للصراع الانكليزي - الفرنسي ويخرجون بصور تواصلية تعود إلى جان دارك وحرب المئة سنة وحروب نابليون وصراعات الثورة الفرنسية وتوجهاتها اليعقوبية والتناقضات التي تثيرها مع التوجهات الليبرالية للأنكلوسكسونية، معتبرين أن الولاياتالمتحدة حلّت محل بريطانيا العظمى في المبارزة التاريخية. في حين يرى آخرون ان هناك تصفية للحسابات بين الولاياتالمتحدة و"فرنسا ديغول" التي رفضت الانضواء تحت مظلة محرريها الأميركيين، مثلما فعلت الدول الأوروبية الأخرى عقب الحرب العالمية الثانية عندما فضلت التمسك بحرية قرارها والإمساك بقنبلتها النووية. فالدولة الصغيرة، حسب تعابير معظم المسؤولين الأميركيين، تشكل عائقاً كبيراً في سياق التوجهات الاستراتيجية الأميركية الجديدة. قد تكون الأسباب الحقيقية مرتكزة إلى بعض من كل هذا، إضافة إلى عوامل أخرى قد لا تظهر حالياً، غير أن ما يثير الاهتمام من الناحية الإعلامية اندفاع وسائل الإعلام الأنكلوسكسونية، التي تميزت دائماً ببرودة تحليلاتها، وراء الحملة وسقوطها في تيارها بشكل مفضوح. إلا أن القراءة الإعلامية للحملة التي يشترك بعض المكاتب الإعلامية وشركات تسويق المعلومات بنشرها وتأجيجها تفرض التوقف أمام نقطتين: 1- إن السيل الإعلامي المتدفق يصل بسبب العولمة الشاملة التي نعيشها إلى مجمل الجسم الصحافي العالمي، ولكن الإعلام الأنكلوسكسوني وحده يعطيها أهمية هجومية تخدم أهدافاً معينة، فالإعلام البريطاني والأميركي على رغم أنهما اشتهرا بالتحقق من مصادر الأخبار قبل نشرها، فهما في هذه الحال يهملان "الحد الأدنى" من أصول المهنة. 2- إن الحملة الإعلامية المنظمة التي تستهدف فرنسا بشكل عام، واسلوب شيراك ومعه دوفيلبان بشكل خاص ومركز، محصورة بصورة عامة بالإعلام الأنكلوسكسوني، وإن كان عدد من وسائل الإعلام في العالم يعود ويتناقلها بشكل "تساؤلي" ونقلاً عن مصادرها الأنكلوسكسونية، ولكنها محصورة بشكل خاص في وسائل إعلام تابعة لمجموعة ميردوخ المعروفة باسم "نيوز كوربوريشن". وتتصدر مجموعة من الإجابات الرد على أسئلة كثيرة تطرحها الحملة الإعلامية على فرنسا. وتتكفل هيكلية العمل الإعلامي في يومنا هذا بالإجابة على السؤال الأول، حيث بات الترابط بين دفق المعلومات شاملاً غلوبال ومنهجياً سيستماتك. فبمجرد وضع "معلومة" على شبكة معلومات، أياً تكن، فإنها تتوزع بصورة "آنية" إنستانت ترانسفير في مختلف شبكات المعلومات أي شبكة المكتوب والمسموع والمرئي أو الرقمي وكذلك شبكة الإعلام الحي أي التواتر والإشاعات والهمس والقيل والقال وغيرها…، ما يجعل مختلف الشبكات الإعلامية شبكة واحدة. ولكن ما يمنع "التلون الأوحد" يونيك كلريشن هو مهنية القيمين على مختلف وسائل الإعلام وطريقة عمل الصحافيين، وفي مقدمها مبدأ التأكد من المصادر وتقاطع الأنباء وتطابقها مع ما سبقها من أخبار أو مع الوقائع. وهذا ما يمنع بعض الصحف الأنكلوسكسونية من الوقوع في فخ الحملات الإعلامية الموجهة. أما بالنسبة إلى وسائل الإعلام غير الأنكلوسكسونية، فإنها لا تستطيع تجاهل ما تحمله الوسائل الإعلامية الأميركية أو البريطانية من معلومات من دون أن تتعامل معها حتى وإن كان بالإشارة إلى وجودها، وهو ما يحصل حالياً حتى مع الصحافة الفرنسية. كذلك في الإجابة على السؤال الثاني تفسير لما يدفع الحملة الإعلامية نحو شمولية عالمية. ويعود ذلك إلى حجم مجموعة "نيوز كوربوريشن" الضخم وانتشار شبكتها الإعلامية حول العالم خصوصاً في الدول الأنكلوسكسونية. وبات أكيداً، نظراً إلى أن معظم تلابيب الحملة المناهضة لفرنسا موصولة بوسائل إعلامية تابعة ل"نيوز كوربوريشن"، أن مجموعة ميردوخ صممت على مواجهة فرنسا على مختلف المستويات. فهي لا تكتفي بالمسألة العراقية وموقف فرنسا في مجلس الأمن، بل ان متابعة دقيقة لمجمل الأخبار التي تغطيها مختلف وسائل الإعلام التابعة لبليونير الصحافة، كفيلة بالبرهان على أن فرنسا وضعت تحت مجهر مراقبة وانتقاد بشكل منهجي كامل. ويمكن أن نجد أسباباً كثيرة لحملة العداء التي شنها ميردوخ على فرنسا، قد يكون في مقدمها الأسباب الايديولوجية. فالسيرة الذاتية لميردوخ وكيفية بنائه امبراطورية إعلامية لا تغيب بحق الشمس عنها، تبين التناقض بين اسلوبه الليبرالي الوحشي حسب تعبير أحد كبار الماليين الفرنسيين، وبين ما هو مقبول به في فرنسا. أضف إلى أن ميردوخ، الذي يملك حصصاً وأسهماً في معظم الدول الأوروبية، لا يملك أي حصة مالية في أي محطة أو شركة إعلامية فرنسية ما عدا مساهمة رمزية في محطة صغيرة "بيرتزه" مقاطعة بريتانيا في غرب فرنسا والمعروفة بمطالبتها بحرية تقرير المصير!. لا بل على العكس فإن أكبر منافس له على الإعلام الشامل هي شركة "فيفندي" الفرنسية. ويقال ان توني بلير حذر ذات يوم ليونيل جوسبان رئيس الوزراء الاشتراكي السابق بعدما عرف رغبة ميردوخ في شراء حصة في "فيفندي"، قائلاً: حذار من ادخال الذئب إلى الحظيرة! وقد وضعت الحكومة الفرنسية آنذاك "فيتو" على دخول ميردوخ في رأس مال الشركة الكبرى. ويلاحظ بعضهم أن مشاكل شركة "فيفندي" بدأت بعد ذلك حتى اضطرت إلى بيع عدد من شركات الانتاج التلفزيوني والسينمائي في الولاياتالمتحدة. وباعت قناة "تيلي بيو" الإيطالية لمجموعة تقودها مجموعة ميردوخ، وهي تستعد للفصل بين أعمالها في مجالات الصحة والمياه، وبين نشاطها السينمائي في هوليوود. ويقول آخرون إنها قد تضطر لبيع استديوهات "يونيفرسال" الشهيرة المنافسة الأولى لاستديوهات "توينتي سنتشري فوكس" التي يملكها ميردوخ. ويملك ميردوخ من القوة الإعلامية ما يسمح له بالوقوف في وجه قوى سياسية لا تتناسب توجهاتها مع معتقداته الايديولوجية، وهو على رغم تأكيدات مستشاريه، وعلى رأسهم طارق بن عمار، لعدد من الصحف، أن ميردوخ لا يتدخل في مضمون ما تنشره وسائل الإعلام، إلا أنه يمسك بزمام أمر تعيين رؤساء تحرير كل الوسائل الإعلامية التي يملكها، وفي اختيار كبار العاملين فيها. وظهر تأثير أفكاره اليمينية المتطرفة على الإعلام في الولاياتالمتحدة من خلال توجه قناة "فوكس نيوز" التلفزيونية التي استطاعت تحت شعار "نحن ننقل وأنت تقرر" أن تركب موجة التوجه اليميني للمجتمع الأميركي بعد 11 أيلول سبتمبر، وفي خلال أقل من سنتين انتزعت من "سي إن إن" المرتبة الأولى على قائمة عدد المشاهدين في الولاياتالمتحدة. وهي لذلك وضعت جانباً كل التحفظات المهنية المعمول بها في الولاياتالمتحدة بالنسبة إلى التناول الإعلامي، ولا تتردد في الإشارة إلى جنود التحالف بقولها: "جنودنا"، وهو ما لم يكن معمولاً به في السابق في مختلف وسائل الإعلام في الغرب. ويترأس روجر ايليس، المستشار السابق لكل من الرؤساء ريتشارد نيكسون ورونالد ريغان وجورج بوش الأب المؤسسة الإعلامية الكبرى، وهو لم يتردد في توجيه "نصائح" للرئيس بوش الابن بعد شهر على الهجمات على نيويوركوواشنطن حول أفضل الوسائل للتعامل مع الإرهاب. ومنذ بداية أزمة العراق، خرج ميردوخ مرات عدة عن صمته للتنديد بالمعترضين على التوجه الأميركي لحسم الأمر عسكرياً. وكان من الطبيعي أن تكون فرنسا على رأس قائمته السوداء. وأعطت معظم وسائل الإعلام التابعة له صدى كبيراً لمختلف حملات المقاطعة التجارية التي شنها بعض الجهات ضد فرنسا. وعلى رغم أن المسؤولين الفرنسيين يحاولون تخفيف حدة التوتر الذي يشوب العلاقات الأميركية - الفرنسية ويتهربون من الإجابة المباشرة على أسئلة يمكنها أن تضع النقاط على الحروف وتضيء الظلال التي تفسر أسباب الخلاف، غير أن قوة الحملة الإعلامية وكثافتها، خصوصاً تكرارها المركز واتساع نطاقها يوماً بعد يوم، باتت عاملاً إعلامياً يفرض نفسه على الساحة الإعلامية العالمية. فلم تعد أي وسيلة إعلام قادرة على تجاوز الصراع الفرنسي - الأميركي الذي بات عنصراً إعلامياً يتداخل في مجمل حقول العلاقات الدولية. فإذا تطرقت وسيلة إعلام إلى "الحالة الكورية" نسبة إلى مسألة اقتناء كوريا الشمالية أسلحة نووية، فإنها عاجزة عن فعل ذلك من دون المرور بما يفرق فرنسا عن الولاياتالمتحدة. وإذا كان الموضوع المعالج يصب في حقل البيئة وأفضل وسيلة للحفاظ على الموارد الطبيعية، فإن الصراع الفرنسي - الأميركي حاضر لا محالة. وفي مختلف المضامير من الشؤون الأفريقية إلى منظمة التجارة العالمية مروراً بشؤون الدفاع الأوروبي أو بديون العراق، نرى أن التناول الإعلامي بات مضطراً لأخذ زاوية العلاقات الأميركية - الفرنسية في الاعتبار. من هنا يعتبر بعض المتابعين الأميركيين للموضوع، خصوصاً المقربين من وزارة الخارجية، أن سياسة ميردوخ الإعلامية المناهضة لفرنسا تأتي بمفعول عكسي لما تريده واشنطن وأن حربه من "خارج السرب الرسمي" يعرقل الاستراتيجية الرسمية، ويعطي وزناً لفرنسا أكثر من وزنها الحقيقي على الساحة الدولية، وأنه يضعها في موقع الند الأساسي لأميركا، وهذا ما يثير انزعاجاً كبيراً لدى الرئيس بوش، الذي يضطر القيمون على حملته الإعلامية للأخذ في الاعتبار عامل "تكبير دور فرنسا" الذي تساهم به الحملة عليها من أجهزة ميردوخ الإعلامية