من "محاسن" التورية، أنها تحول بين الانسان وخطابه، فتجعله "هجيناً"، وتسقط عنه سماته الفردية، وتنمطه ظاهراً، لأنها تقصي عنه أبعاده الجوانية، والباطنية، واللاواعية، وتصير "الأنا" المثقلة بأعباء النواهي رهاباً، لا وجه له. فالتورية بمقابل الرهاب يصير لها من الحقيقة وجهان: مواراة الصدق، ورُهاب الكذب. فبالتورية يصير للمثقف وجهان: وجه يُداري به صدقَه، ووجه يخفيه بكذبه، فتنشرخ منه "أناه" التي هي له، ويحسب انها أُعيرت له، وهي ليست منه! وانشقاق النفس هذا، عانته حياة شرارة في رواية لها بعنوان "إذا الأيام أغسقت" فكان لها من كبرياء "التورية" الانتحار مع ابنتها مها، من دون ابنتها زينب التي أخطأها الموت، لتصيبها الحياة بسهامها. فحياة شرارة التي مات زوجها العام 1983، انتظرت مرور عشر سنوات للحصول على جواز يسمح لها كأستاذة جامعية بالخروج من العراق مع ابنتيها مها وزينب، لأنها اشتاقت وحنّت لرؤية من هم لها عصب وأهل. ولكن ما ان حصلت حياة على جوازات العبور، حتى أدركت ان الجوازات ليست للعبور، وانما للمراوحة داخل أسوار العراق، بعدما مات المحرَم عنها وعن ابنتيها، فالمحرَم المائت، ترك لمحروماته الثلاث، سجن الحرمات، والمحرَّمات، الذي راح يتسع حتى صار بحجم الوطن. وقد صدر مرسوم يمنع الفتيات دون سن الخامسة والأربعين من السفر بلا محرَم، وكانت حجة المرسوم ان الفتيات يتاجرن بأجسادهن، وكأن متاجرة الداخل هي الحلال، أما متاجرة الخارج فهي من الحرام، وكأن مبدأ التجارة ليس واحداً، ولو شهد عليه بدر شاكر السياب في مطلته العظيمة "المومس العمياء" إذ قال من دون تحديد لعمر أو لمحرم: "من ضاجع الصبية السمراء لا يلقى خسارة"! فطالما ان أجساد العراقيات غير مباحة الا للاغتصاب، أو السجن، أو القتل، أو الجوع، أو الثكل، أو اليتم، أو التهجير، أو الذعر، فمن سيحمل هذه "الأفراح" عنهن ويتمتع بها دونهن، وأنّى لأم كحياة شرارة ان تحمل ابنتيها وترحل عن "فردوس أفراحها"، وله فيه كثير من "المتع". وعيّنت السلطة نفسها حامية لشرف بنات حياة شرارة، اللواتي هن بنات السلطة. فللسلطة ان تخاف على عذاراها وغير عذاراها، لأن شرف العراق، وعرض العراق، وإباء العراق هو من شرف عذاراه، السجينات، اللواتي لن يبلغن سن رشدهن، لولا ان السلطة كانت قد بلغت رشدها! وواجهت حياة شرارة بعد ذلك مأساة رسم الخروج وهو اربعمئة ألف دينار عراقي، وهو رسم زهيد لفرد واحد، لا يتجاوز معدل راتبه الستة آلاف دينار. ثم صدر مرسوم يفرض على المهووسين بالسفر ألا يكون الواحد منهم ضابطاً، أو وزيراً، أو مديراً عاماً، أو طبيباً، أو مهندساً، أو أستاذاً جامعياً، وسمح بالسفر للعاجزين، والمتقاعدين، دون الأرامل اللواتي من دون محرَم، ومنهم حياة شرارة الأرملة والأستاذة الجامعية! وإذ سُمح لحياة شرارة ان تسافر وحيدة من دون مها وزينب خوفاً من "المتاجرة" بهن، وكأن الأمومة لا حرمة لها، حملت حياة شرارة "ممنوعاتها" القابلة للنشر في بيروت لا في العراق. وكان جزاء السفر، سرقة دار حياة شرارة في العراق، لأن الدار أمست من دون محرَم. ولكن أنّى لحياة شرارة وابنتيها ان يأسفن على دار تساوت فيها الحياة بالموت، بعدما راح اللصوص الأقوياء الذين لا يهابون الموت يسرقون المقابر، والأكفان، والتوابيت في مقبرة "وادي السلام" لا للإتجار بها، ولكن لهدف تنموي وبيئي وسياحي، بغية لصوصه توسيع الشوارع في مدينتي كربلاء والنجف. وصمتت حياة شرارة، ولم تعد لديها لغة تخاطب بها الحاكم. فالحاكم الذي لا يعمل، لئلا يتقاعد، لا يعرف عند التقاعد كيف يتضاءل الوجود الانساني، وتتبدل القسمات. الحاكم يبقى فتياً، فلا ينضج، ولا يشيخ، لأنه أوكل هذه المهمات لغيره، من دون مهمة الفتوة. فالحاكم الفتي عليه الحفاظ على فتوته، التي بها يراقب من ينضج دونه، او يشيخ بإذنه. وكان من مهمات حاكم العراق وحكيمها هوس متعاظم باللياقة البدنية الواجبة على الأكاديميين لئلا يترهلوا فيترهل العلم بترهلهم، لذا كتب الحاكم على نفسه ان يسمن عوضاً عن محكوميه، فصار يأكل عنهم، وينام عنهم، وينجب لهم حكاماً صغاراً. هذه الومضات السريعة، تركتها حياة شرارة لتعتذر بها عن موتها منتحرة، وبعد غياب حياة شرارة، وابنتها مها، أطلّ عبدالمحسن شعبان في العام الثاني من الألفية الثالثة ليسأل عن الهوية، والانتماء، والوطن، والمواطنية، والجنسية واللاجنسية، وعن إسقاط الجنسية، وعن تقويمها، وعن انعدامها، وعن استحقاقها، لأن الإشكالية هي، هي، والحيرة هي هي، والمعجز ان تجيب: من هو العراقي؟ فعبدالحسين شعبان اذ راح يقرأ قرارات ومراسيم في كتابه "الجنسية واللاجنسية في القانونين العراقي والدولي"، رأى ان بداية تأسيس الدولة العراقية شهد التباساً خطيراً في تحديد "من هو العراقي"، اذ اعتبرت عشائر عربية معروفة - كانت ترفض الجنسية العثمانية تخلصاً من الخدمة العسكرية - غير عراقية. أما العراقيون الأقحاح فكانوا من الأرمن، والأتراك، والجورجيين، والهنود، الذين جاؤوا الى العراق حباً بالهجرة، فأغدقت عليهم "هجرتهم" نِعَمَ "المواطنية" بامتياز وصنفتهم مواطنين من الدرجة الأولى. والجنسية العراقية منذ العام 1968 وحتى 2001 كانت تميزها غرابة قرارات مجلس الثورة، ومنها قرار غريب يسمح بموجه للمواطنين العراقيين من غير العرب بتعديل قوميتهم الى القومية العربية، في محاولة من النظام لتغيير التركيب الديموغرافي والواقع السكاني، وكان القرار الصادر عن مجلس قيادة الثورة قد تأخر، إذ جاء في العام 2001 وتحت رقم 199. وأدت تعديلات المراسيم الى حرمان شرائح كبيرة من الجنسية العراقية اذ تمّ التشكيك في ولائها للعراق، خلال الحرب العراقية - الإيرانية 1980 - 1988، بحيث أصبحت عائلة الجواهري رائد الشعر العربي الكلاسيكي في القرن العشرين، والخليلي جعفر القاص الريادي، وعائلة الحيدري مهدي أحد رواد مقاومة الاحتلال من التبعية الإيرانية، المرمية في المنافي، وخارج حدود العراق الجريح! فالحاكم إذ يودّ إذلال العراقيين يسقط عنهم جنسياتهم، وإذ يود إذلال الإيرانيين يهديهم شاعراً عملاقاً كالجواهري، او نحوياً كبيراً مثل سيبويه، او كاتباً مميزاً كابن المقفع، والتهمة الجامعة لهؤلاء "الشعوبية"! فالجواهري الذي ولد قبل الدولة العراقية بنحو عقدين، له في العراق قبر يحنّ اليه، هو قبر الأسرة الجواهرية بقبته الزرقاء، التي هي واحدة من ثلاث قباب زرق لعوائل شهيرة ثلاث: آل بحر العلوم، وآل كاشف الغطاء، وآل الجواهري. ومن المعروف ان مقبرة الأسرة الجواهرية مضى على تشييدها نحواً من مئتي عام. ويبقى ان الجنسية تحتاج الى جواز سفر، والى محرَم، لتتم بهما الرؤية الفانتازية التي عجزت حياة شرارة عن رؤيتها. فحياة شرارة التي لم تكن تحب الفانتازية أسقطت عن نفسها جنسيتها، واستبدلت جواز عبورها، بعبور آخر الى حيث لا يتمكن أحد من نيل حريتها او حرية مها ابنتها. فحياة شرارة اختارت جوازاً يطير من دون أجنحة، وسافرت داخل صندوق مقفل، طلبت ان يُسجى بالقرب من صندوق مها. أما قاسم حَوَل المخرج السينمائي العراقي فقد فرح فرحاً عظيماً إذ تسلم جواز سفره "اليمني الجنوبي" بأوراقه الفارغة، لأن نسراً كان يزين غلافه الأسود. فانشغل قاسم حَوَل بالنسر حتى انه نسي من هو؟ ومن يكون؟ ثم راح يضع النسر في جيبه حيناً، ويتركه في الدرج أحياناً، ومن دون سبب وجيه، كان القلق يأخذ بروح قاسم حَوَل فيضطرب ويعود الى الدرج، ويخرج الجواز ويصرّ على إمساك النسر بيديه، يتقرّاه، ويرجوه ألا يغدر به ويطير، ثم يعود ويرجوه ألا يغادر الدرج الا بصحبته. لطالما حلم قاسم حَوَل بنسر على جواز سفره، ولطالما حلم بجواز سفر من دون نسر، ولطالما حلم بسفر من دون نسر ومن دون جواز، وفاته ان يحلم بملاليم قليلة، ترد لنسره الأسود بعض عافية. غير أن الأكثر حكمة من قاسم حَوَل، كان مظفر النواب، الذي لا يجوز لنفسه السفر الا الى "مشرب" غير بعيد يقول فيه: "أنت كما الاسفنجة تمتص الحانات ولا تسكر وأنا يقتلني نصف الدفء، ونصف الموقف أكثر فالبعض يبيع اليابس والأخضر ويدافع عن كل قضايا الكون، ويهرب من وجه قضيته سأبول عليه وأسكر". وإذ يتابع مظفر النواب يقول: "وأقنع بكون نصيبي في الدنيا كنصيب الطير ولكن سبحانك، حتى الطير لها أوطان". هي مأساة ان يصير الوطن بحجم "البيت الشهير" ويشبه خاناً من خانات بغداد القديمة، تنزله السيدة جنان، بعدما كانت تسكن في دار فسيحة في الكرادة، تلك الدار التي داهمها رجال الأمن ليهجروا منها "جناناً" ويأخذوا طفلها البالغ خمس سنوات، تصاب بعدها جنان بالهستيريا لا تكفّ تعاودها، كلما عاد اليها طفلها "المفقود". ذاك "البيت الشهير" في طهران، صار بيتاً للمهجّرين من العراق، او قل للمهجرات اللواتي عليهن هجرة الوطن، وهجرة الأبناء، لأن كل ابن صار يحمل إثم ذكورته، وإثم غدره بوطنه. فبعد جنان، هُجّرت أم سالم، صاحبة البنايات في بغداد، لتنتظر تهجير ابنائها الكبار، الذين أسقطت عنهم جنسيتهم، وصاروا بلا هوية، ينتظرون - بعد ان يُهجّروا - الأممالمتحدة، لنقلهم الى منفى، لا يكون لهم فيه وطن، ولا بناية، ولا أم، ولا أخوة، ولا ماض، ولا ذكريات، ولا مستقبل. فأم سالم التي راحت تنتظر لتهجير أبنائها الى البيت الشهير في طهران، بقيت تردد من دون توقف: "أريد أن أُدفن بالقرب من مرقد الإمام علي في النجف حيث مسقط رأسي". فأم سالم لم تعد تبحث الا عن قبر يعزيها ولو أنها كانت تجهل ان لا تعزية في القبور، لإنها عرضة للنبش، وتهديد "البولدوزر" والسرقة، فما جهلته أم سالم أيقنته أم علي وهي تتذكر ابنها النائم في المهد بأيامه السبعة، وهي تصرخ في وجه رجال الأمن: "الطبّاخ مشتعل، وابني الوحيد في مهده" ولما ابتعد بها رجال الأمن، وخلفهم رجال الاطفاء، كانت المهمة سهلة، فلا مياه ولا خراطيم، بل جثة مطفأة ترمدت، وتكفنّت بأيامها السبعة. وإذ تغيب شهادة الأمهات، تأتيك شهادة الأبناء، ومنها شهادة عبدالغني الخليلي من السويد، المهجّر البعيد عن أمه، ليقرب من أبنائه. فعبدالغني الخليلي شهد على تهجير قريبة بلغت السادسة والتسعين مع نفر من أفراد أسرتها، هاجمتهم عصابة متخصصة بالاعتداء على قوافل المهجرين، ففرّ أفراد الأسرة ببقايا قواهم، ولم تسعفهم تلك البقايا على حمل العجوز المُسنّة، فأطعمت العجوز سنيها السادسة والتسعين لذئاب القرى الجائعة والمهجورة لعلّها تسدّ بجسدها جوع الذئاب، فتعفّ عن القوافل القادمة! وإذ ماتت العجوز، انفجر لغم في ربيع جميل، وقسم اللغم الربيع الى قسمين، فرقدت صاحبته في حفرة غريبة الحجارة والرائحة، تحلم بالرجوع الى الوطن الطري، ولو حُملت اليه عظامها بكيس اسود. وإلى شيراز مدينة "الأولياء والشعراء"، جاء عبدالغني برفقة أمه وكانا حافيين يثيران الشفقة، فتقدم رجل شيرازي من أمه، ووضع في يدها "توماناً" ظناً انها تتسول. ولم يكن الشيرازي يعرف ان الأم وابنها كانا يتسولان وطناً، لا "توماناً"، وكانت الأم تحلم الموت على أرض الوطن. أما عبدالغني فلم يخبر أمه، أنه قبل الرحيل عن بغداد، وفي غفلة من رجل الأمن الذي حمل الرعب الى بيته، تسلل الى مكتبته وكتب على قفا لوحة زيتية: الى اللقاء يا وطني، وظن عبدالغني، ان التهجير سيكون الى شيراز القريبة، لا الى السويد البعيدة، مدينة الثلج والصقيع، واحتشاد الموت. ولكن انّى لعبدالغني ألا يتذكر وطناً منغرزاً في قلب أمه، إذ تستيقظ في شيراز وتصرخ كل صباح: "هذا ليس بيتي، إن بيتي بعيد، وفيه نخلة وحمام أليف. من بعد رحيلنا ينثر الحب لطيور القطا؟ من بعد رحيلنا يلاعب كلبنا شيبوب؟ إني على يقين بانتظار شيبوب على عتبة الدار التي لا يبرحها! وتعود الأم وتسأل عبدالغني ابنها: "من بعدنا، يزور الراقدين" في "دار السلام" التي هي مقبرة من أكبر المقابر في العالم، اذ انها تمتد الى أميال عدّة وتأتيها الجنائز للدفن تيمناً بموقعها، ما دعا الشاعر أحمد الصافي النجفي الى وصف مدينة النجف بقوله: "وواردات بلدتي جنائز / وصادرات بلدتي عمائم" وإذ نعود الى حياة شرارة التي قاومت التهجير بالانتحار، نعود الى كبرياء الموت في أرض العراق، وكبرياء الجوع في أرض العراق، وكبرياء القبور التي عشقتها حياة شرارة في النجف. فالنجف مدينتان: مدينة الموتى ومدينة الأحياء، حيث تماسّ الأحياء والموتى يتواصل، وهو تواصل ألفته حياة شرارة في النجف حيث ولد 1935 في حيّ المدينة القديم، وحيث جاء أهل النجف يُعَزّون والدها بثالثة الأثافي، ما دفعه لتسميتها "حياة" تحدياً. أما حياة شرارة فأنكرت على أبيها تحديه، وتسميتها، إذ خلعت عنها رداء النجفيين دون النجف، فاحتضنت مها وكفنتها برداء النجف الأسود، وهاجرتا معاً من دون مَحرَم ومن دون تهجير. وإذ لم يعد في العراق دليل الا الريح والغربان وبقايا حشرجات، قال مظفر النواب: نخبك، نخبك سيدتي إن الفراق دنيء تأبى الذوائب مذ ثبتتها الدماء على غُرّة ان تزيح ومن ثبتته الدماء محال يزيح"