سرقوا من العراق مداده المنغرز في "ملحمة جلجامش"، فتعالى العراق فوق سواد المداد، وتسربلت الكتابة منه بالدم، تتدثر به، وتحكي بطولاته، وأيتامه، وأرامله، ومثاكيله. بالدم وحده يوقع الشعب "عراقه"، وتحكي العراقيات نشيجهن الطويل، وقد جعل منه الحلاج وضوءاً، والسياب مخاضاً سجله قبل الرحيل: "من عالمٍ في قاع قبري أصيح لا تيأسوا من مولد أو نشور" فالكتابة في العراق، طقسٌ مارسته "أخيدونيا" ابنة الملك سرجون الأكدي 2370 - 2316ق.م إذ نقل عنها ان "لكل مقام، مقال" فصار عراقها "المقام" وصارت كتابة العراقيات "مقالَهُ". ففي زمن عزّت فيه أحجار اللحاف، وعُسب النخيل، لم تخن الخفيدات الجدة "أخيدونيا"، وقد علمتهن أن في الكتابة تطهراً، وفي التطهر عزاء وسلواناً" وقد حافظت العراقيات على طقس الكتابة القدسي والقاسي، خشيةً على الإرث من التهافت، والشفاهة، وغدر الذاكرة، فقمن بتدوين "جراح" حرب الخليج الأولى، وحرب الخليج الثانية، وحذر الحرب الثالثة وقد حدسن بها قبل انفجارها. فكأن العراق وحده، لا مواعيد له إلا الوضوء بالدم. وتجحفلت كتابة العراقيات بالوجد، والحنين، والانتظار، وتضوعت الصفحات بعبق من رحلوا، يحضرون في الذاكرة كي تحضرَ الحياة بهم. فالعراقية في العراق عاشت بحياة واحدة ما يوازي عشر حيوات، تسرق من العتمة رصاصاً، لتنكتب به، والعراقية في المنفى أثقلتها ذنوب البعاد، فحنت على الجراح، تلمّها، وتجمعها، وتسجلها حياةً لا ذكرى، كما فعلت انعام كحجه جي في كتابها: "أقوال عراقيات، المأساة العراقية مكتوبة بأقلام النساء"" الصادر في باريس 2003 دار لوسربان أبلوم. فإنعام كجه جي تعرف أن أقلام الكحل هي أيضاً عزّت في العراق الذي جرّد من أقلامه، وأن رسائل العراقيات صارت تُكتب على وصفات الأطباء، ووصفات الأشعة، ووصفات الأدوية، والفواتير التي لم تدفع، وما بقي من إرث الدفاتر المرتقة وهو كثير. إنها أوراق الدفاتر "المشلعة" تشبه "تشلج" أرواح من يكتبن، ورائحة الأوراق تشبه رائحة الجلود التي تنبض بالحياة ولا تحيا إلا على غياب أو انتظار. في باريس، أنّى لإنعام أن تتقنَّع بقناع كوميدي ياباني، وتموت وحيدة في المنافي، ولها من كؤوس الدم ما يفي بكل ليالي العراق والعراقيات؟ أنّى لانعام أن تسامح "انتحار" "حياة شرارة" في العام 1990. فحياة شرارة التي لم تسعفها اسطورة اسمها ولا دلالته، احتضنت ابنتيها وقد تواطأتا معها على أن يكون الرحيل جماعياً، فحظيت حياة شرارة برفقة واحدة من ابنتيها، وأخلف الموت موعده مع الأخرى. فحياة شرارة تقول في كتابها "الأيام إذا أغسقت": "قتلتني حقارة الزملاء، وعقوق الطلاب، إذ تحولوا جميعاً الى عيون عمياء، وآذان صماء، يسقطون خوفهم على تميّزي، ويتلصصون على ضعفهم. كانت الحياة سوداء "كعاشوراء" لا تنتهي، وكيوم حشر لا يهدأ، وصارت حكايات الجامعات أشبه بحكايات الجن والعفاريت في ألف ليلة وليلة. فلو أن شهرزاد خبرت ما خبرتُهُ لفارقتها مخيلتها، وهجرتها فصاحتها، ولقررت أن تترك شهريار لغرائز تعميه وتعمي منه البصر والبصيرة، من دون أن تتيح له الاستبداد بحياتها، التي هي ملكها وحدها". فحياة شرارة التي لم تشبه إلا كرامتها وكرامة ابنتيها، أبَت الذل والقمع والتلصص، وتوجت نفسها ورحلت مع ابنة بعد ان انتزعت الحياة الأخرى. حياة شرارة لم تتساءل عن مصير مهجري العراق ومنفييه، حياة شرارة انتحرت، ونازك الملائكة رائدة الشعر الحر، هجرت منابرها، تاركة للعراقيين مأثرة ريادتها، ونرحت مع ابنها الى القاهرة. وحدها حياة انتحرت، والملائكة انتزعت سيف ديموقليس، ورمته بوجه جلاّدها، وتركت له نياشين تكريمها، يزورها، ويتزين بها، كلما اعتلى منبراً ليس له. وإذ تمتد سلسلة حفيدات "أخيدونيا" تشتعل أوراق ميسلون الهادي بالكتابة على "رجل وراء الباب" لتكسر به مللَ الانتظار، فيعانق نصها نص أودري هيبرن "عليك بانتظار الظلام". فميسلون الهادي تنتظر غائباً، والغائب لا يحضر، وبطلتها تسأل: "هل ان الخيال يشبه الحقيقة أم أنه هو نفسه الحقيقة؟" ثم تضيف: "أنا لم أرَ مشهداً سينمائياً يضحك فيه الأبطال كما أضحك، أو يطلبون الشاي كما أطلبه فهم يطلبون ما لا يشربونه، وأنا أطلب ما يرويني. إني دائماً أسأل النقاد الأغبياء عن مناقشاتهم البلهاء التي تؤكد: "إن الفن لا يشبه الحياة" بل هي الحياة تحتاج الى الفن كي يكملها ويساعد في تجميلها! وإذ تخرج من وهم الرجل الذي وراء الباب ولا يعبر، ندخل "في مرآة" ابتسام عبدالله، حيث يعود الزوج من الجبهة، ويحلّ ضيفاً على المرآة، يغوص فيها ويقول: "كم تغيرت ملامحي. هناك في الجبهة أعرف من أكون: إما قاتل أو قتيل. أما هنا، فتسقط كل قناعاتي، وأصير أكثر انجذاباً الى هناءة العيش الذي انقضى. هي الهناءة تخيفني، لأنه لم يعد لي وجه الهناءة". وإذ يكرر الزوج العائد من الجبهة "كم تغيرت ملامحي". تنتزع الزوجة المرآة من يديه لتعلن كذبة المرآة، ولكن سرعان ما يرمي الزوج زوجته بمرآتهما، فتنكسر وتتشظى "وتحفر جرحاً في صدر الزوجة، ويسيل الدم بينهما". وتأتي دنيا ميخائيل حاملة "ذكريات موجة خارج اليمّ" وتقول: "إن العراقيات اليوم يمزجن الخبز بالأرقام، كما يمزجن النفط بالحليب، والجنين بالأورانيوم المنضب. فالعراقيات اليوم إذ أكثرن من ذكر الشموع، فإن كثرة الشموع ليست من رومنطيقية عالمهن، وانما من بدائية العيش"، ثم تضيف: "ان الطبيعة الحمقاء لا تفرّق بين موت إنسان وموت حرة، غير ان رحم الأرض يئن بانتفاخه، والقمر يهاجر شواهد القبور استنكاراً وهولاً، وأبناء آدم الذين لم يموتوا في الساحات، عادوا من الساحات ليختنقوا بسعالهم من تكاثف الدخان والحرائق". ولما أحسَّت دنيا ميخائيل بالاختناق، فرّت عن حبيبها ولجأت الى جلادها، والجلاّد هو أبداً ما تؤثره الضحية، وصارت أميركا منفاها. فحملت الشاعرة الكردية غلالة النوري مشعل الحريق الذي "يجعد زمنها" وراحت تتقاسمه مع ريم القبة وأقراصها المدمجة، وغير المدمجة، فاستهوى العراقيون شعرها المصحوب بالموسيقى، وصدح صوت ريم القبة في ساحات بغداد، وفي سيارات التاكسي. فريم القبة إذ تنعزل تعود اليها نرجسية الشعر والشاعرة، فتخلق بحيوية معجزة لا تضاهيها حيوية ألف رجل، وتقول لمعشوقها: "إذ يتحقق حلمي، وتنبت لي أجنحة/ أطيرُ بها للبعيد/ أكتفي بأن أحطّ على ركبتيك/ وأغطي حماقاتي بجناحيّ". أما تلميذة الباليه بتول الخضيري، فتطمئن المتعجبين السائلين عن معاهد الباليه وتقول: "إن بغداد ليست كابول" فمعاهد الباليه منتشرة في أرضنا منذ نصف قرن، ونبيذ "البوجوليه" يفوح بعتقه قادماً الينا من الصحراء، ونحن نؤدي بخفة خطانا وأجسادنا معزوفات شوبان، ورخمانينوف، وباخ، وجان ميشال جار، نحن نرقص وننظر من خلال الشرفات الى المآتم، ومراسم التشييع، لأن كل واحدة منّا أصابها شرف الموت، وشرف السجن، وشرف الجبهات التي لا تعيد قاصديها. فلكل واحدة منا رجلٌ في جبهة، وقتيل في أخرى، وجريح في مستشفى، وشهيد فوق تلة. نحن نرقص، وإذاعاتنا لا تمل من اجترار خسارات العدو... وأحياناً بعض خساراتنا". وظلت بتول الخضيري ترقص الباليه تعبيراً حزيناً، كما رقص زوربا عندما وافاه نعي ابنه، حتى وافاها نعي أبيها، فتقلص الجسد منها دون حزنها الذي صار يمتد ويكبر حتى صار مرقماً يُراسل السماء، سماء بتول الخضيري التي حسبتها "قريبة". وإذ تعود بغداد العام 2002 لتودّع مليونين من أبنائها، تتشبث لطيفة الديلمي بآلة تصوير لا تخادع، وتغرز المهاجرين في لحمها، بعد أن غرزت في صفحاتها وأوراقها "ضحكة اليورانيوم" في ملجأ العامرية، تلك الضحكة التي بجلجلتها حصدت مئات الأمهات بأحضانهن، وصدورهن الحانيات على أطفالهن. لا بدّ لأطفال العراقيات أن يموتوا، لأن الواحد منهم ورث عن أمه الإسراف، إذ يُتلف في كل شهرين قلماً كاملاً، ناهيك عن الأوراق التي جعل منها ألعاباً، إذ لم يعد من لعبه سوى الألغام المفخخة تغويه، وتأخذه غوايتها. ويبقى السؤال: ما هذه الطقوسية المعربدة التي تسمى كتابة؟ ولم يسمح للأطفال أن يعربدوا بأقلامهم الملونة وهم لا يجيدون القراءة والكتابة؟ أسخرية يسخر بها الأطفال لتنفيس همومهم؟ أم لبناء عالم من الألوان لا يُشبه إلا مخيلتهم وطفولتهم؟ ولما كان الإسلام ديناً يعتبر ان "الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون" فإن ميّ مظفر في كتابها "تينات الذهب"، جمعت وكأنما في سلة من الحزن واحدة، كل عراقية تنتظر إبناً، أو زوجاً، ثم تعود وتراه جالساً تحت شجرة تين ضخمة، لأن التين من فاكهة الفردوس، فتطمئن لغيابه، طالما انه يعيش، وتطمئن على جوعه، لأن له من ثمار الجنة شبعاً، ومن وارف ظلالها استراحة. وإذ ورث العراقيون من أساطير سومر، أن "إينانا" ملكة السماء والأرض، هجرت سماءها وأرضها، وهبطت الى العالم السفلي لتقترن بتموز الراعي كي "يحرث رحمها" وتعود بتاج الخصب، قالت "إينانا" لخادمتها: "إذا طال غيابي، ولم أعد، اقرعي الطبول، واحضري مقاعد الآلهة، وانحبي، وادخلي الهيكل، وهزي عرش الإله "إنليل" قائلة: "لا تسمح بأن تساق كاهنة السماء الى هوّة الموت". هذه المرثية يتذكرها العراقيون مذ قرر "رمز أميركا" العودة بالعراق "الى العصر الحجري"، ف"رمز أميركا" لم يقرأ تاريخ "اينانا وتموز"، ولم يقرأ تاريخ الخصب في العراق، وتاريخ الانبعاث، والعودة من ظلمات الموت وبرودته. فطقوس الموت في العراق تمتد ستة أشهر في باطن الأرض، يكون الموت فيها جنيناً مستتراً في الأحشاء ينتظر دفء الربيع ليخرج الى ضفاف دجلة والفرات، يعبُّ منها ويرتوي بانتظار الصيف ومواسم الحصاد. ان "رمز أميركا" الفتي الغر، لا يعرف تاريخ رموز العراق، لأن "رمز أميركا" لا تاريخ له. فلو انتزع "رمز اميركا" من العراقيين رموزهم، لصارت الرموز في بلاده مسوخاً، ولو قبلت الرموز بالرحيل عن أرضها، لحل الظلام، وجفّ الزرع والضرع، ولفّ القحل الأرض ومن فوقها ومن دونها. انها المرثية التي استلهمتها إرادة الجبوري، الكاتبة الكربلائية في راوية "رائحة التفاح"، إذ جعلت من القنابل تفاحاً، ومن إنذارات القنابل رائحة توقظ مقدسات الكربلائيين، وتوقظ الأموات في القبور، فيتعانق التاريخ بالجغرافيا، وينتصب الأولياء لمباركة الأحفاد، واستعادة ذكريات الانبعاث، وفيه عود دائم للحياة. وإذ تأتيك لميعة عباس عمارة مكللة بالنياشين، يسألها الرئيس صدام حسين بعد أن استدعاها: "لِمَ لا تكتبين؟ فأجابت: "أحياناً أؤثر الصمت" حين لا دافع للكتابة!!". وفي حرب العراق وايران، استدعي أحد أبناء لميعة عباس عمارة للخدمة العسكرية. وصدف ذات يوم، كانت فيه لميعة في طرابلس - ليبيا، ان التقت امرأة تلبس "التشادور" وتمسك بطفليها الجميلين وكأنهما كوكبان. وسرعان ما تعرفت لميعة الى صديقتها الإيرانية فروزندا مهراد، زميلة الدراسة على مقاعد بغداد، منذ ثلاثين عاماً. وبعد أن غادرت فروزندا لميعة لتستقل الطائرة بصحبة ابنيها الجميلين، اقتحم سؤال عابث مخيلة لميعة فغرقت في شجنه: ماذا لو وقف ابني في الجبهة العراقية بمواجهة ابن فروزندا مهراد في الجبهة الإيرانية؟ عاشت لميعة عباس عمارة في مدن كثيرة كان منها بيروت، والقاهرة، وباريس حيث عملت كمستشارة ثقافية لسفارة بغداد، وكمندوب دائم لدى الأونيسكو، هذا كان في سبعينات القرن المنصرم، وقبل أن تستقر لميعة عباس عمارة في كاليفورنيا، لأن مناخ كاليفورنيا يساعد الذين في صدورهم ضيق، على التنفس. ذات يوم في بيروت، سأل صلاح ستيتية لميعة عن عمرها؟ فأجابت: "خمسة آلاف سنة"!! هذه هي بعض وجوه عراقيات يجبهن الموت، والغياب، وفاءً لوصية الجدة اخيدونيا: العراق مقامكن، والمقال كتاباتكن. وأضافت الجدة: ان الكتابة تحت الحصار كعبء سيزيف. فبعد أن يغفو أطفالكن، وتضيء القنابل عتمة الكهوف والملاجئ، اكتبن للغافين: الخبز الآتي، والجوع الراحل. اكتبن الحياة والموت والشهادة، لا تزورن التاريخ، بل اكتبن اضافة اليه تاريخاً بلون دجلة والفرات، وآخر بلون السماء والنخيل، ولا تهزوا الغافين إذا استيقظوا وغامروا بالقلم والمبراة، ففي المبراة فيضٌ ينتقم من القلم، ويسجل تاريخهم. أخيراً، إن انعام كجه جي التي أصغت طويلاً الى حكايات العراقيات، ورسائلهن تتحول جمراً بين يديها، وتخشى أن تنطفئ النار المشتعلة فتغذيها بوقود هو من الورق "ورقة واحدة" لا أكثر، تضمها الى كل رسالة تبعث بها الى الوطن، خشية أن يفتضح الرقيب "كثرة الأوراق، وضخامة الرسائل المثقلة بمقاومة الجوع، والموت. "ورقة واحدة"، وتبقى نار الكتابة مشتعلة، "ورقة واحدة" وتبقى الذكريات تضج بالإدانة.