العام الجديد 2004 "لن يكون مملاً". هذا ما استنتجه التقرير السنوي ل"الايكونومسيت". وهو استنتاج سيكون في محله على الاغلب في شتى المجالات : في السياسة كما في الاقتصاد، في الاستراتيجيا كما في التكتيك، في العلوم والتكنولوجيا كما في القيم الاخلاقية والبيئية. بيد ان توزّع الاهمية على كل مجالات النشاط البشري، لن يعني أن كل هذه المجالات ستكون متساوية في الاهمية. سيكون في 2004 مهم وأهم. سيكون هناك أيضا نجوم وأبطال، ولاعبون ثانويون وكومبارس. الطرف الاكثر ترجيحا للتربّع على عرش الاهمية، طرفان هما: العولمة والعلم، أو بالاحرى الشركات العملاقة متعددة الجنسية، والبيوتكنولوجيا. لماذا؟ لنبدأ مع العولمة. كل المؤشرات تدل على ان العالم سيدخل خلال السنة الجديدة في مرحلة جديدة من ظاهرة العولمة: المرحلة الثالثة منها على وجه التحديد. فالمزيد والمزيد من الشركات العملاقة متعددة الجنسية، ستنقل عملياتها ومراكز السيطرة الاساسية فيها بعيداً عن مقراتها الرئيسة. وهي بذلك ستحذو حذو شركة "آي. بي. ام" التي افتتحت اخيراً مقراً رئيسياً اقليمياً في سنغافورة يعمل فيه اكثر من ألف شخص، ويقوم بالاشراف المباشر على نشاطات الشركة المتزايدة في شرق وجنوب شرقي آسيا. وكما هو معروف، تحوّلت شركات العولمة في البداية الى شركات عالمية، حين بدأت تبيع عالمياً ما تنتجه محلياً. وهذه كانت المرحلة الاولى من عولمة العصر الحديث. المرحلة الثانية أطلّت برأسها، حين انتقل كل من التصنيع والمبيع الى كل أنحاء العالم، سعياً وراء الأيدي العاملة الرخيصة والضرائب المنخفضة، لكن مراكز السيطرة والادارة والضبط بقيت بإحكام في أيدي المقرات القومية الثلاثية في كل من اميركا واوروبا واليابان. اما المرحلة الثالثة الحالية، فهي تشهد، وستشهد أكثر، انتقال مراكز السيطرة والادارة هذه الى خارج بلدان المقرات الثلاثية، الامر الذي سيجعل الشركات العالمية متعددة الجنسية، عالمية حقاً. وهذا سيكون على مستوى التصنيع والمبيع والادارة، كما على مستوى المدراء التنفيذيين، حيث بدأت مجالس ادارة الشركات تتكون على نحو متزايد من جنسيات قومية مختلطة ومتعددة. لكن ثمة مفارقة مثيرة هنا، اذ أن القفزة الجديدة الى امام في عولمة الانتاج والادارة، تترافق مع قفزة الى الوراء في عولمة السياسات الاقتصادية، من خلال استمرار الخلافات الحادة بين الدول القومية في جولة الدوحة حول مسألة حرية التجارة. بماذا يمكن تفسير هذه الظاهرة؟ ليست هناك ألغاز. فشركات العولمة العملاقة ال500 تنفّذ استراتيجيات لا تتوقف كثيراً امام تكتيكات الدول القومية. وهي تستطيع أن تفعل ذلك لأن دخل كل منها يوازي دخول دولة كبرى او ثلاثين او أربعين دولة صغيرة ومتوسطة معاً. وعلى أي حال، نجحت الشركات في خلق سوق عالمية، قبل وقت طويل من بدء المحادثات بين الدول حول القواعد والمستلزمات القانونية لهذه السوق. وهي كانت تتداول اكثر من تريليون دولار يومياً في السوق الالكترونية، فيما كانت الدول تفقد القدرة على التحكم في دخول هذه الكمية الهائلة من الاموال او خروجها. بكلمات أوضح: "الامبرياليات الاقتصادية الخاصة" كما يسمي بعضهم الشركات متعددة الجنسية تبدو اكثر فأكثر مستقلة عن سياسات الدول القومية، بما فيها الدول الام التي انطلقت منها. وهو أمر سيظهر على نحو فاقع في 2004، ليحول بذلك ظاهرة العولمة الى عولمة ظاهرة وواضحة وضوح الشمس! ثورات العلم هذا عن العولمة. فماذا عن النجم الآخر: البيوتكنولوجيا والعلم؟ هنا سيكون العالم على موعد مع قفزات جديدة مدهشة، قد تغّير العديد من المفاهيم الفكرية والاقتصادية. حتى مرحلة متأخرة، كانت النظرة الى البيوتكنولوجيا تتضمن حالة من الشيزوفرانيا الانفصام الحقيقية، حيث كان العالم يرحّب ويصفّق لما تنتجه هذه من أدوية طبية وعلاجات جينية لأمراض مستعصية، ويرتعب ويدين ما تفعله هذه بالاطعمة المعدلة جينياً والبيئة الطبيعية، ناهيك عن عمليات استنساخ البشر والحيوانات. بيد ان هذه الصورة الثنائية المعذّبة قد تتغّير بشكل جذري في 2004. لماذا "لأن الصناعة البيوتكنولوجية انطلقت نحو ما يمكن ان يكون أضخم ثورة تكنولوجية "نظيفة" منذ القرن التاسع عشر: الحصول على الوقود ليس من النفط بل من النباتات والبكتيريا المعدلّة جينياً. وفي حال نجح البيوتكنولوجيون في هذا المسعى والارجح أنهم سينجحون، فإن الايثانول سيحل محل البترول كمصدر لوقود السيارات. وهذا ما سيجعل أنصار البيئة في حيص بيص، لأنهم على رغم معارضتهم بقوة التعديلات الجينية، لا يستطيعون رفض صناعات تستند الى النباتات والبكتيريا المعدلة جينياً لانتاج طاقة غير ملوثة وقابلة للتجديد. وجنباً الى جنب مع هذه التقنية الثورية الجديدة، ثمة تقنية أخرى بدأت تطل برأسها، لكن هذه المرة في التكنولوجيا غير البيولوجية المتمثلة في ثورة المعلومات. اذ أن علماء الكومبيوتر يستعدون لاطلاق ثورة جديدة تتمثّل في انتاج بلايين المجسّات الالكترونية الدقيقة، التي ستعمل كجهاز عصبي يربط كل الكرة الارضية بعضها ببعض. هذه الثورة تجد جذورها في فكرة بسيطة للغاية: بدلاً من محاولة حشد أكبر كمية من المعلومات الالكترونية في مكان واحد، يجب العمل على وضعها في فضاءات أصغر بكثير. وهكذا يمكن وضع قدرات الكومبيوترات الحالية، التي يبلغ حجم كل منها حجم الصناديق الصغيرة، في أجهزة لا تتعدى مساحتها مساحة حبة الاسبرين. وقريباً سيتم تصغير حبة الاسبرين لتصبح بحجم حبة الرز ثم حبة الرمل. وهنا سندخل ما يسمى عالم "الغبار الذكي"، وهي كناية عن كومبيوترات صغيرة الى درجة بحيث لا يمكن رؤيتها اذا ما دخلت عبر نافذتك مع النسيم العليل وبالطبع، ال"سي. أي. ايه" هي الطرف الاكثر اهتماماً بمثل هذا التطور!، لتجمع المعلومات او لتقوم ببعض المهام التنفيذية. هذا "الغبار الذكي" ستكون له استخدامات لا نهاية لها: في أجهزة الاتصالات اللاسلكية. في علوم الجو والبيئة. في التحكم بظروف البرد والحر. في مراقبة حركة السير. في تسهيل عملية الدفع في السوبرماركت وغيرها، وبالتأكيد في مجال التجسس على البشر والحجر. والى هذه الثورات الجينية و"الغبارية"، يمكن توقّع الآتي في 2004: الحصول على معلومات ادق عن كوكب المريخ، من خلال المركبات الفضائية السبع التي ستحوم حوله في العام الجديد، والتي ستكون ثلاث منها اوروبية ويابانية. احتمال تزايد انفجارات البراكين التي ستقتل عدداً اكبر من البشر. نجاح علم الجينات في تمديد عمر الانسان، بعد النجاحات المماثلة التي تم تحقيقها مع الجرذان وأدت الى إطالة اعمارها بأكثر من خمسين في المئة. تطوير تكنولوجيات جديدة تسمح للبشر المشلولين بتحريك اطرافهم التجارب في هذا الشأن نجحت مع القرود. العالم ينتخب العالم في 2004، اذاً، سيكون على موعد مع الكثير من مفاجآت العولمة ومكافآت العلم. لكن ماذا عن السياسة والسياسيين؟ سيكون لدى هؤلاء أيضا الكثير ليقولونه. فالسنة الجديدة ستكون سنة اقتراع بامتياز، حيث ان دولاً تضم نصف عدد البشر ستجري انتخابات عامة. في تشرين الثاني نوفمبر، سيقرر الاميركيون ما اذا كانوا سيبقون الرئيس جورج بوش رئيساً لفترة جديدة، أم يدحرجون رأسه بلا شفقة او رحمة، اما بسبب احتمال تدهور الاوضاع في العراق والشرق الاوسط، أم لتفاقم عدد العاطلين الاميركيين عن العمل. حتى الآن، كل الدلائل تشير الى أن بوش سيبقى في البيت الابيض، وان بفارق بسيط عن منافسه الديموقراطي هوارد دين. لكن، سواء بقي بوش أم رحل، لا يتوقع أن يتغير الكثير في السياسة الخارجية الاميركية، لا في الشرق الاوسط ولا خارجه. وفي الهند، اكبر الديموقراطيات في العالم، ستجري أيضاً انتخابات حاسمة. وفي حال نجح الهندوس في تمرير هذه الانتخابات بأقل الخسائر الممكنة طائفياً ودينياً، فإن بلادهم مرشحة للتحول الى تنين اقتصادي جديد ينضم الى قافلة التنانين والنمور الاقتصادية التي "تزأر" في أنحاء آسيا هذه الايام. أما أوروبا فإنها ستشهد في العام الجديد لحظة انتصار الانتقال الديموقراطي السلمي الى الوحدة في أيار مايو، حين تنضم الدول العشر الشيوعية الاوروبية السابقة الى الاتحاد الاوروبي. وعلى رغم ان ذلك سيتم في حمأة استفتاءات حارة، وانتخابات حامية، ونقاشات حادة حول الدستور الفيديرالي، الا ان مجرد رؤية الاوروبيين وهم يحلون مشاكلهم القومية بالطرق السلمية، حدث تاريخي بحد ذاته. وتبقى الصين التي، على رغم انها لن تشهد انتخابات ديموقراطية في 2004، الا أن قادتها سيقترعون لمصلحة استمرار طأطاة الرأس في السياسة الخارجية، بهدف مواصلة رفع الرأس في المجال الاقتصادي. هل يعني هذا العرس الديموقراطي الحقيقي، ان 2004 ستكون سنة هادئة وهانئالة للعالم وفيه؟ ليس تماماً. اذ من شأن أي هجمات ارهابية كبيرة، او عودة وباء "سارز"، او الهزاّت النقدية والمالية المفاجئة، او الانفجارات الامنية في الشرق الاوسط او كوريا الشمالية، ان تحيل هذا العرس الى مأتم. لكن سواء كان 2004 هادئاً أم غاضباً، "الايكونوميست" على حق. انه لن يكون بالتأكيد "عاماً مملاً"