Lionel Jospin. Ma Vision de L'Europe et de la Mondialisation. رؤيتي لأوروبا وللعولمة. Plon, Paris. 2001. 88 Pages. ليونيل جوسبان، رئيس وزراء فرنسا منذ عام 1997 والمرشح لرئاسة جمهوريتها في انتخابات 2002 القادمة، رجل سياسة، لا رجل فكر. لكنه في الوقت نفسه رجل سياسة على الطريقة الفرنسية، لا على الطريقة الاميركية. فهو ليس شخصية نجومية، ولا رجل عمل بالمعنى الذرائعي المحض للكلمة. فهو، مثله مثل اكثر الزعماء الاشتراكيين الفرنسيين من قبله كفرنسوا ميتران او ميشيل روكار او جان بيار شوفنمان، سياسي يباطنه مثقف، او بتعبير ادق سياسي صاحب رؤية فكرية. كتابه الجديد هذا يؤكد، في عنوانه بالذات، على فكرة "الرؤية". ولئن تكن هذه الرؤية مزدوجة، لاوروبا وللعولمة معاً، فليس ذلك من قبيل الصدفة. فالموضوعان عند جوسبان متضامنان، لأن مشروع الوحدة الاوروبية هو في نظره ردّ اوروبا من حيث هي اوروبا، على تحدي العولمة. ولنسارع حالاً الى القول ان جوسبان ليس خصماً للعولمة، فهي في نظره الواقع الاكثر واقعية في العالم المعاصر. وليس يسع اية امة، ما لم تختر لنفسها الانتحار، ان تعزل نفسها عن دينامية العولمة. ولكن هذه العولمة ليست بالضرورة "سعيدة" على نحو ما يؤكده عنوان كتاب مشهور للمفكر الفرنسي ألان منك. فالعولمة يمكن ان تكون ايضاً "تعيسة" او هي، في الاحوال جميعاً، ذات وجهين. فالعولمة دينامية خالقة لنمو اقتصاد كوني، ولكن العولمة دينامية خالقة ايضاً لتفاوت كوني في النمو. والعولمة تأخذ بيد البشرية الى اكشاف تنوعها، لكن العولمة تنزع ايضاً الى فرض نمطية آحادية على البشرية جمعاء. وبكلمة واحدة، العولمة تحرر طاقات، لكنها تطلق في الوقت نفسه قوى سلبية لا بد من ضبطها. العولمة اذن ليست آلية عمياء. فهي قابلة ايضاً لأن تكون كما تريد لها البشرية ان تكون. ذلك ان البشر ليسوا فقط موضوع العولمة، بل هم ايضاً، وفي وسعهم ان يكونوا، فاعلها. فهي، في التحليل الاخير، مسألة ذات طبيعة سياسية. والسياسة هي مجال تدخل الوعي والارادة الانسانيين. ومن دون ان يتنكر جوسبان للطبيعة الاقتصادية لآليات العولمة فتح الاسواق، تداول الرساميل، ترحيل المصانع، نقل التكنولوجيا فانه يؤكد على اولوية السياسة. وخلافاً لدعاوى الليبرالية المطلقة، فان ما هو سياسي ليس مكتوباً عليه ان يقف مكتوف الايدي امام ما هو اقتصادي. والسياسة، بالمعنى الفلسفي العميق للكلمة، هي وحدها التي تستطيع، كالقابلة، ان تستولد عولمة ذات وجه انساني. عولمة تحفظ حق البشرية في نمو دائم ومتوازن، وتصون البيئة ولا تُنضب مواردها القابلة للنضوب، وتضمن مستقبل الاجيال المقبلة، وتعمم قيم السلم والديموقراطية وحقوق الانسان. وكذلك حقوق الشعوب في زمن بات فيه البشر لا يؤلمهم شيء، وهم يعيشون في "قرية كونية واحدة"، كشعورهم بأن حدوداً عميقة لا تزال تفصل بينهم وتقسمهم قسمة عضالاً الى اغنياء وفقراء، الى متقدمين ومتخلفين، الى مدعوين دائمين ومتخمين الى وليمة العولمة والى مستبعدين دائمين ودائمي الجوع. حقوق الشعوب ام حقوق الامم؟ ان المسألة لا تتعلق، بالنسبة الى مؤلف "رؤيتي لأوروبا وللعولمة" بترادف لفظي، بل باختلاف مفهومي. ففي رؤياه للعالم المعولم يتحدث عن "شعوب"، لكنه في رؤياه لاوروبا المؤربة لا يتحدث الا عن "أمم". ذلك انه يعتقد انه اذا كانت القومية والايديولوجيا القومية قد انتهى دورها في اوروبا، فان "الدولة/ الامة" في المقابل لم تستنفد بعد كامل مهمتها التاريخية. فحتى عندما تتصدى اوروبا لمشروع الاتحاد فانها تتصدى له، لا عن طريق شعوبها وحدها، بل كذلك واساساً عن طريق الدول/ الامم فيها. وفي نظره ان المطلوب ليس ان تحلّ هوية "اعلى" هي الهوية الاوروبية، محل هوية "ادنى" هي الهوية القومية، بل ان تتراكب الهوية القومية مع الهوية الاوروبية، بحيث تغتني بها بدلاً من ان تلتغي بها. وفي ذلك يقول: "انني لا افضل فرنسا عن اوروبا. ومثلي مثل كثيرين غيري من الاوروبيين المقتنعين، فإني ارغب في اوروبا، ولكني اظل حريصاً على امتي. فالمطلوب ان نصنع اوروبا من دون ان نحلّ فرنسا: ذلك هو خياري السياسي". ويعود فيكرر القول: "انني فرنسي. وانني لأشعر ذاتي اوروبياً. ولهذا اريد لاوروبا ان تؤكد هويتها، ولكن من دون ان تلغي هويات الامم الاوروبية". ومن هنا رفض جوسبان لفكرة "الاتحاد" اذا كان هذا الاتحاد يعني تذويب الامم الاوروبية في امة فوق قومية. فليس المطلوب ان تتحد اوروبا على طريقة "الولاياتالمتحدة الاميركية" او على طريقة "الاقاليم الالمانية المتحدة". فأوروبا ليست مدعوة، في الاجل المنظور على الاقل، الى ان تكون امة فوق الامم الاوروبية. فالاتحاد الاوروبي هو اتحاد بين دول، او على حد تعبير جاك دلور، الذي ينتصر له ليونيل جوسبان بقوة، هو "اتحاد الدول الامم" الاوروبية. وهذا معناه ان ما من دولة اوروبية مدعوة الى ان تتنازل عن سيادتها القومية. فهذه السيادة هي بحد ذاتها شرط لبناء الوحدة الاوروبية، ولكن بدلاً من ان تكون سيادة منغلقة على نفسها، بالمعنى الذي كان القرن التاسع عشر الاوروبي يعطيه لمفهوم السيادة القومية، فان المطلوب منها من الآن فصاعداً ان تكون سيادة منفتحة وتشاركية مع الدول / الامم الاخرى الداخلة في مشروع الاتحاد الاوروبي. ثم ان هذا المشروع نفسه لم تتحدد معالمه السياسية بعد. وصحيح ان "اليورو" اي العملة الاوروبية الموحدة، سيدخل قيد التداول ابتداء من مطلع العام القادم لكن الوحدة الاوروبية ليست، ولا يمكن ان تكون، محض وحدة نقدية. والواقع ان المعالم السياسية للوحدة الاوروبية لن تتحدد قبل نهاية العام 2004. فذلك هو الاجل الذي حدده الاوروبيون لأنفسهم للتفكير في الطبيعة الدولانية للاتحاد الذي يريدون بناءه. وفي نظر جوسبان ان الاتحاد الاوروبي ينبغي ان يتعقل نفسه، لا بمصطلح وحدة القومية، بل بمصطلح وحدة الحضارة. وهذه الحضارة تقوم على منظومة موحدة من القيم، من دون ان يعني ذلك الغاء واقع التعددية الثقافية الاوروبية. فحضارة اوروبا هي مجموع ثقافاتها ايضاً. ورغم ان هذه الثقافات قد ورثت ماضياً من العداوات والحروب المتبادلة، الا انها انتهت جميعاً الى اقرار حاضر من السلم ومستقبل من التفاهم والتعاضد. فاوروبا قد طوت صفحة الامبرياليات الانانية والتوتاليتاريات القاتلة التي ادمت التاريخ الاوروبي على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين. واوروبا هي اليوم الفضاء الاول للديموقراطية وحقوق الانسان ودولة القانون. وهي المجموعة السياسية الوحيدة في العالم التي اجمعت على الغاء عقوبة الاعدام ورفعت بالتالي احترام الشخص الانساني الى اعلى ذروة متاحة. ومن هنا اصلاً خلاف اوروبا الجزئي والحق يقال مع ذلك الفضاء الحضاري الآخر الذي تمثله اميركا بقيادة الولاياتالمتحدة. وجوسبان لا يتردد في ان يحدد هذا الخلاف بنقاط اربع: 1- عقوبة الاعدام وما فيها من مساس بكرامة الشخص الانساني. 2- تلويث البيئة وعدم احترام اتفاقية طوكيو. 3- برنامج الدفاع الفضائي الاميركي. 4- الالتزام بمقررات "منظمة التجارة العالمية" باعتبارها المنظمة الدولية الوحيدة المتاحة في عصر العولمة للحؤول دون هيمنة طرف واحد او دولة واحدة على التجارة العالمية. هل معنى ذلك ان اوروبا راضية عن نفسها، وان وعيها لذاتها وعي سعيد؟ ان جوسبان هو من يعقد الفصل الاخير من كتابه للكلام عن "حاجة اوروبا السياسية الى اصلاحات عميقة". فأوروبا لم تستطع بعد ان تظهر وجهها الاجتماعي بمثل الجلاء الذي اظهرت به وجهها الاقتصادي والنقدي. واوروبا لم تفلح بعد في توحيد سياساتها الضريبية، وما زالت هناك في اوروبا دول تقدم تسهيلات ضريبية كيما تجتذب اليها رؤوس الاموال. واوروبا لم توحد بعد سياستها في مكافحة الاجرام، والى اليوم لم ترَ النور شرطة اوروبية موحدة، ثم ان اوروبا كانت ولا زالت بلا دستور، وان حبت نفسها بمجلس وزاري مشترك وببرلمان مشترك. وهذا الدستور سيقتضي من الاوروبيين مجهوداً كبيراً من الخيال ومن التواضع معاً. وثمة مطلبان كبيران لا يزالان يترصدان اوروبا: من جهة اولى اعادة تنشيط النزعة القومية ومثاله الذي لا يأتي جوسبان بذكره التنافس الفرنسي الالماني على رئاسة البنك الاوروبي، ومن الجهة الثانية بناء اوروبا "باردة" تعود امرتها الى البيروقراطيين والتكنوقراطيين بعيداً عن "دفء الشعوب" ولهذا يختم جوسبان بالقول: "انما لأنني لست اوروبياً فاتراً، لا اريد ان اريد أوروبا باهتة".