مذ بدأت غادة السمّان نسيجها الروائي، بضمّ الصورة الى الصورة، تدثرت بالريح ينسجُ التراب ويسحب بعضه الى بعض، أو ينسجُ الماء فيضرب متنه، فيجعل منه طرائق كالحبك. إنها الناسج الذي ما فتئ يعترض النسيجة فيُلحم ما أطال من السدى، ويرتق ما عظم من الثقوب، فكأنها وحدها نسيجُ الكريم الذي يتعذر منوالُه على غيرها، لدقته. ففي "لسان العرب" قال ثعلب: "نسيج وحده الذي لا يُعمل على مثاله مثله". هذه الأحدية تأتيك من غادة السمّان فجراً يتلصص مرتحلاً في الموت وفي الحياة، منبعثاً في معاصي الحرية وأعظم ذنوبها، بغير ان يكلّ البصرُ منها، أو يغبشه غبش، وقد تسمّت كتابتها فجراً لانفجارها الذي به تنصدع الظلمة عن نور الصباح. هي الكاتبة التي لا تقر إلا بالعصيان والمخالفة وفضح الكذب لئلا تخبط في ظلمائه، أو تركب عشواءه. فغادة السمّان لها من مفتتح "الرواية المستحيلة" اعتراف أمجد الخيال، إذ يقول: "كل ما قلته لها قبل زواجنا عن التضامن مع المرأة وتحريرها كان دجلاً، فالحريم هن الحريم، وموتهن أفضل من العار". وهند موصومة بعارٍ مضاعف: أولاً لأنها أنجبت بنتاً لا ذكراً، وثانياً لأنها كانت كاتبة، تستر عارها باسم مستعار لتعتذر به عن آثامها التي يتبرأ منها "البيت الأمي الكبير" الذي هو بحجم "الأمة الأمية الكبيرة" حيث الأشياء تحمل صفة "المشاع" ومثلها "الهويات المشاع" التي لن تجد خصوصية لها في "أمة الأمية"، على رغم اتساعها، وجذورها البعيدة. وإذ ماتت هند متسربلة بعار انجابها، وعار اسمها المستعار، تركت لابنتها زين أن تسأل فيحاء: "ما معنى حرّة؟" فأجابت فيحاء ضاحكة: "حرّة يعني صبي". فعادت زين الى كوم الأوراق التي تتضوع برماد أمها، الكاتبة الملعونة التي لم تجرؤ إلا على قلم الرصاص، لأن الرصاص قابل للمحو، ولأنه على رغم انمحائه السريع الذي لا يلوّث البياض، فإنه استدعى الجلاّد، الذكر القوّام "الذي قتل لزين أمها، إذ كان يضربها على رأسها كي تستسلم وتعود الى الضفة الأخرى ولو ميتة كما ماتت أوفيليا في مسرحية هاملت". فالضفة الأخرى هي ضفة الصمت، وبرودة النهر التي تشهّر بجثة تطفو بخفتها ولا تعرف الأعماق. هذا التشهير بجثة تطفو ولا تتحلل، دفع بزين ان تكتب بضمير المتكلم، الذي هو ضمير الآثام، والشهادة، والترحال، والوحدة، والسفر، والغربة، والنزول في الممالك الغريبة والبعيدة عن "البيت الأمّي الكبير". فهند التي حملت "روايتها المستحيلة" التي تركتها "أديبة شفهية" وغامرت بالعبور الى الضفة الأخرى ليتحقق أمجد الخيال من مأثوراته الشعبية: "من غاية المجد والمكرُمات بقاء البنين وموت البنات"، عادت اليه زين كالصبح المنفجر من العتمات، وقد حملت لأمها ما لم تكتبه بالرصاص لئلا يمحي، وجلست الى قبرها تقصّ عليها من أدب الضفاف الأخرى "رعشة الحرية" بلغة جاهرت بها غادة السمّان في "القمر المربع": "سجل: أنا لست عربية". فغادة السمّان مذ لبست لبوس شمخة في "ملحمة جلجامش" ولبوس شهرزاد في "ألف ليلة وليلة" أيقنت ان العالم الوحشي لن يتأنسن إلا بمن تزيل عنه الوحشة، وتقتلع منه الغريزة، فيأنس اليها وقد جعلت من روحها جسراً يعبره من التقعر، والبدائية، الى رحاب شاخت وملّت الانتظار، فكان منها رحاب الحب لا الشهوة، ورحاب الحرية لا القمع، والماضي، والتراث، والتقليد. هذا العابر الغارق في ضفته، وقد أسنت منه، يعشق طحالبه، ووحله، لأنها تدثر عوراته، ومخاوفه، وعثراته، فيمسك بها ستراً، وتغيب عنه الشقوق، التي تفضح دثاره، وفي دثاره كثرة عوراته. فالذكورة ليست دثاراً، وإنما فضيحة، وأدب الرحلة ليس أدباً ذكورياً، بعدما صارت المساحات مشاعاً، والشواطئ عرياً، وضجت المدن بصخب الإثنيات وفضول الوجوه التي جعلت من "أجسادها حقائب للسفر" ومن تغربها "غربة تحت الصفر"، طارت اليها ب"شهوة الأجنحة" وب"نورس وحيد" هو القلب الظامئ الى رعشات الحرية. فالظمأ وحده يدفع بغادة السمّان الى الرحيل، لأن القلب منها نورس تميته البوادي، والرمال، والقحط، والجدب، والسرابات التي تراوغ والواحات المعلّقة على أقدار الرياح والمطر. فللنورس عند غادة السمّان مدن الماء، ومنها مدينة أولى كانت بيروت التي اشتعلت في العام 1975 لتعود وتنطفئ في "كوابيس بيروت" وتقيم مأتمها في ليلة المليار. فكأن بيروتالمدينة المائية مذ انطفأت، اطفأت في عيني غادة منارات الطريق، طريق الحنين، وطريق الحميمية، وطريق قدرها، وطريق عشقها، وهي كلها طرق الفجر والبداية، التي بدأت تنسحب لتسلم غادة الى قدر آخر له منها الترحال، والغربة، والمنافي، وأدب الرحلات، لا أدب الروايات. بيروت وحدها كانت الرواية والقصة والشعر، وما بعد بيروت صار أعمالاً أخرى غير كاملة. فمذ كانت غادة السمّان في بيروت، التهمت المدينة بأعمالها الكاملة، ومذ غادرتها غاصت في الأعماق من روحها، ومن هذيانها، ومن كوابيسها الغريبة، وأقمارها المربعة، لعلها تحتل شيئاً من أعماقها، يشبه احتلالها القديم لمدينتها القديمة، المعلقة بين ضفتي الذكريات والمنافي. وغادة السمّان مذ هجرت بيروت الى المنفى، أدمنت السفر حتى أترعته، وأُترع بها، تثمل به ويثمل بها، إذ يتبادلان كؤوس المرارة، والشوق، والبحث عن وجه يشبه وجه المدينة الغائبة. فبيروت مذ صادرت روايات غادة السمّان، صادرت منها فنون شهرزاد وشرقية القص والرواية، وأسلمتها لفنون الغربيين من الرحالة والمستشرقين، وبدّلت ذاكرة الأنثى منها، بذاكرة "فحل" قدره "اغتصاب" الأماكن والمدن التي ليست له، يقيم فيها ويبحث عمن يشبهه. ففي "رعشة الحرية" الكتاب الصادر عن منشورات غادة السمّان عام 2003، تتمنى غادة على "بساط الريح" ان يلتمّ ويهرب من قصر سليمان الملك والملكة بلقيس، ليحمل المساجين والمضطهدين وموتى المقابر الجماعية الى أقاصي الأرض التي تعبق بالدهشة والمجهول. فحيث تتعانق الدهشة بالمجهول يقول اينشتاين الفيزيائي المعاصر: "الولاياتالمتحدة الأميركية بلدٌ انتقل مباشرة من البربرية الى الانحطاط من دون ان يعرف الحضارة". وإذ تستشهد غادة السمّان بآينشتاين تشد الرحال لتشهد إما على اينشتاين وإما له، فتفتح رحلاتها "بحبيبة عنيدة هي نيويورك" التي جعلت منها هامش عنوان مفارق لأغنية عبدالحليم حافظ "أنا كل ما أقول التوبة". فنيويورك نص من دون عنوان، لأن "اللقيط" تنزل عليه عناوين شتى، توحي بها هوياته الشتى، وكوابيسه الشتى، ومعارضه الشتى والسوريالية، التي انقضت على غادة السمّان بمعرض للسيارات المعدنية التي حاول فنانو نيويورك أنسنتها، إذ جعلوا منها "بيتاً إنسانياً" أو "سجنوا فيها كلباً معاصراً يعبث بالمقود ويقضمه" وهو يصغي الى صوت الأكورديون ينبعث من السيارة المجاورة، لئلا يفتضح سرّ خاطئ مجاور في السيارة المعدنية التي تحولت الى كرسي اعتراف، وقفت بجانبها سيارة المرحاض، في مشهد عجيب ليس فيه من أدوات البادية أداة، ولا سيف، ولا طلل. فالكنيسة في نيويورك تقابل ال"وول ستريت" لتذكرك بأن "بنك الآخرة" بإمكانه أن يعوّضك "مبنى البورصة وبنوك الدنيا"، فالبورصة تشيخ وتتساقط أسنانها، وبنك الآخرة يبقى "إذ لا غالب إلا الله" كما نحت الأندلسيون في قصر الحمراء في غرناطة، لعلّ أوروبا تتعظ! وإذ تنهي غادة السمّان زيارتها السوريالية الأولى، تدخل الى متحف الفن الحديث في مانهاتن نيويورك لترى روائع الفنان الأميركي الكبير بروس نيومان، فتطالعها شاشة عملاقة، ويرحب بها بروس نيومان بتشكيل فني أول هو "نكش الأنف، العين، الأذن" وما في النكش من عنف مازوشي، يليه عمل "إبداعي" لا نكش فيه وإنما "غائط داخل قبعة، ورأس على مقعد". فإذا كانت غاية الفن التجرّد من فنّيته، أدخلك صاحبه الى دورة المياه ليمارس "ابداعه" في حضرتك، وترك لك ان تستأنس ببعض البق والبراغيث والجرذان والجراد، والقنابل المسيلة للدموع والروائح الكريهة لعلها تصرفك عن الانشغال بدورة مياهه، وممارسة ابداعه. وإذ تخرج غادة السمّان من مراحيض الفن، تقصد الى ما هو أكثر إنسانية وعزاءً، فترافق صديقتها الأميركية الى الكنيسة لحضور عقد قران ابنتها، الذي سيسبق محاكمتها كعروس حامل. فالعروس كانت من حملها في الشهر الثامن، والكاهن في الشهر الثامن للحمل أنجز مراسم الزواج، وسمح للعريس بأن يقبّل العروس. وفي الشهر الثامن نجحت الأم في إرغام ابنتها على الزواج، وإلاّ حرمتها من الميراث. ولما قامت المؤسسة الديكتاتورية بإذن من الكاهن، وبعودة الميراث الى صاحبته، انهال العريس والمدعوون على العروس بقبلات تعادل "الرشوة" من مئات آلاف الدولارات، التي كانت من رصيد الابنة وإرثها، ومن رصيد الأم وإرثها. وغادة السمّان إذ حضرت هذه المحاكمة، أيقنت سرّ المؤسسة، فالمؤسسة مذ قامت، تمثلت البورصة، وقوانينها، فجعلت لها إرثاً في الأرض ومثله في السماء، وفصلت بين نعاج سود، ونعاج بيض، وجعلت للمتعالي يميناً ويساراً، واتهمته بالأثرة، والمفاضلة، فكفر البيض باليمين، وكفر السود باليسار، وظلت المؤسسة تقص تاريخ الأثرة، الذي هو تاريخ لها ومنها. فالأم الحامل، هي غير الزوجة، لأن المحمول منها ولها، ولن تقبل اقتسامه، أو اختطافه، أو القوامة عليه وعليها. فالحامل لها من "ابداعها" كفاية، تنوب عن الشراكة، والشريك، والقسمة والتقاسم، وإرث الشجار، وذلّ الصدقة. فالإرث هو إرث الحرية، وإرث الأمومة "المبدعة" التي لا تقرّ بالتقاسم، بل بصلة الرحم التي منها الرحمة واتساعها. الأمومة لا تخشى قوانين الذكورة، وقوانين المؤسسة، لأن الأمومة هي من الفطرة هبة، ومن السماء نعمة، إنها من "الفوق" تأتي، وبهذا "الفوق" تتعالى. فمحاكمة الحامل، كانت في "رعشة الحرية" النص الأقصر، والأكثر تكثيفاً، ولكن الحامل كانت الأكثر مراوغة في المشهد الكنسي، الذي انتزع منها فطرتها، وأمومتها، ليسلمها الى ذكورة تأبى قوانينها، فتقبض الثمن غالياً، في مقابل اعتراف بها، ذكورة هامشية منقضية، تدوم بدوام المشهد الذكوري: الكاهن والزوج. المحاكمة هي في نصوص غادة السمّان، معتقل تقيم فيه الأنثى، فيمنع عنها الترحال، ويمنع عنها الفضول، والغربة، والمنفى، فتتعزى بالتراب عنصراً للإقامة والسكينة، بغير هواء، وماء، ونار. وإذ تستعير غادة السمّان من الكون ما أُعير لها من عناصره الأولى، تعود بالعناصر الى عذريتها الأولى وقد كانت سديماً، وتسرق سرّ الابداع، وسرّ النرجسية المنعكسة في الماء، حتى إذا عرفت السرّين أيقنت ان الابداع حر، وأن الماء لا يأسن بل يتجدد، عندها تخففت غادة السمّان من ذاكرة التراث، والماضي، وأشكاله ومعانيه، لتصير لها من رؤاها معان وأشكال، يحملها القلب منها نورساً وحيداً الى جهات الكون الأربع