"الملك سلمان للإغاثة" يوزع 25.000 ربطة خبز للأسر اللاجئة في شمال لبنان    «الأرصاد»: ربط شتاء قارس بظاهرة «اللانينا» غير دقيق    حافظ :العديد من المنجزات والقفزات النوعية والتاريخية هذا العام    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    "رفيعة محمد " تقنية الإنياغرام تستخدم كأداة فعالة لتحليل الشخصيات    رئيس جمهورية جامبيا يصل إلى المدينة المنورة    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    المملكة تؤكد على أهمية استدامة الفضاء الخارجي وضمان استمرار الفوائد التكنولوجياته    تشكيل النصر المتوقع أمام الاتفاق    تراجع أسعار النفط إلى 73.62 دولارًا للبرميل    الجبير ل "الرياض": 18 مشروعا التي رصد لها 14 مليار ريال ستكون جاهزة في العام 2027    محافظ بيش يطلق برنامج "انتماء ونماء" الدعوي بالتزامن مع اليوم الوطني ال94    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    الأمم المتحدة تؤكد أنها نفذت خطط الاستجابة الإنسانية ل 245 مليون شخص    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    الأخدود يتعادل سلبياً مع القادسية في دوري روشن للمحترفين    «الجيولوجيا»: 2,300 رخصة تعدينية.. ومضاعفة الإنفاق على الاستكشاف    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    «المجنون» و«الحكومة» .. مين قدها    5 محاذير عند استخدام العلم السعودي    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    ماكرون: الحرب في لبنان «ليست حتمية».. وفرنسا تقف إلى جانب اللبنانيين    قصيدة بعصيدة    حروب بلا ضربة قاضية!    دراسات على تأثير غطاء الوجه على صحة الإناث..!    شرطة الرياض: القبض على مواطن لمساسه بالقيم الإسلامية    التزامات المقاولين    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    قراءة في الخطاب الملكي    ديفيد رايا ينقذ أرسنال من الخسارة أمام أتلانتا    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    هدف متأخر من خيمينيز يمنح أتليتيكو مدريد على لايبزيغ    جوشوا ودوبوا يطلقان تصريحات التحدي    مصادرة صوت المدرجات    النصر وسكّة التائهين!    سوق المجلس التراثي بشقراء يواصل استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني 94    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    جازان: إحباط تهريب (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    أمانة الطائف تكمل استعداداتها للإحتفاء باليوم الوطني 94    سَقَوْهُ حبًّا فألبسهم عزًّا    نائب أمير جازان يطلق البرنامج الدعوي "انتماء ونماء" المصاحب لليوم الوطني ال 94    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    نائب أمير منطقة جازان ينوه بمضامين الخطاب الملكي في افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى    فريق بحثي سعودي يطور تكنولوجيا تكشف الأمراض بمستشعرات دقيقة    أمطار متوسطة إلى غزيرة مصحوبة بالبرد وتؤدي لجريان السيول على 5 مناطق    المواطن عماد رؤية 2030    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 7,922 رجل أمن من مدن التدريب بمناطق المملكة    تعزيز التحول الرقمي وتجربة المسافرين في مطارات دول "التعاون"    الأمير سعود بن مشعل يشهد اجتماع الوكلاء المساعدين للحقوق    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    سلامة المرضى    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مئة ألف في انغوشيا قطارات اللاجئين الشيشان : أمامهم جليد القوقاز ووراءهم نار الروس
نشر في الحياة يوم 30 - 09 - 2002

في السابع عشر من أيلول سبتمبر الجاري، انفجرت قنبلة في شارع مكتظ وسط العاصمة الشيشانية غروزني قرب محطة حافلات وقتلت 18 شخصاً معظمهم من النساء والأطفال وجرحت 20 مدنياً آخر. إنها ملابسات يوم عادي في الشيشان على رغم أن تفجير قنابل ضد مدنيين أمر نادر الحدوث في هذه الجمهورية التي تشهد حرباً متقطعة منذ ثماني سنوات.
اليوم العادي في الشيشان يعني، أن تدوس دورية روسية على لغم فينهال رصاص الرشاشات والصواريخ ويقتل بعض الجنود الروس ثم ينسحب المقاتلون الشيشان أو يقتل بعضهم. وبعد ساعات تقوم القوات الروسية بعملية تمشيط واسعة في القرى المجاورة وتلقي القبض على رجال وشبان وأحياناً على نساء، يختفي بعض هؤلاء القرويين المعتقلين بينما يطلق سراح آخرين تدفع عائلاتهم فدية لتخليصهم بعد أن يكونوا تعرضوا للتعذيب.
على هذا المنوال، تدخل الحرب في الشيشان عامها الرابع منذ بدء العملية العسكرية التي أطلقتها موسكو عام 1999 والتي كان من المفترض أن تنتهي بعد مرور عام على بدئها، لكنها لا تزال مستمرة ولا يزال 80 ألف جندي روسي يتمركزون في الأراضي الشيشانية حيث يسقط عدد منهم في شكل شبه يومي.
وتحولت الجمهورية القوقازية منطقة مدمرة ومقفرة ومحاصرة. لا أحد يمكنه الدخول أو الخروج بحرية، لا رجل، لا امرأة، ولا حتى طفل أو كبير. الحواجز العسكرية في كل مكان ولاجتياز هذه الحواجز على المدنيين أن يدفعوا رشاوى في جوازات مرورهم، ومن دون هذه الرشاوى يمكن للجنود الروس ببساطة أن يطلقوا النار من الخلف أو ان يحتجزوا العابر، والعواقب دائماً خطرة.
مستعيناً بضوء مصباح زيت باهت بالكاد يضيء عتمة الغرفة، يجلس آرثر، على حصيرة قديمة في غرفة باردة أثاثها قليل ومتواضع، يعلّم أولاداً صغار بعضاً من اللغات السبع التي يجيدها، فيما تجلس والدته جانباً تتمتم بعض الأدعية.
آرثر، شاب شيشاني في مطلع العشرينات من عمره يعيش مع والدته في نزران، عاصمة جمهورية انغوشيا المجاورة للشيشان، حيث يقيم بصفة لاجئ.
يملك آرثر جسماً ضئيلاً وملامح تحمل من الهدوء بقدر ما تحمل من الحزن والحيرة، حيرة غالباً ما تطغى على مشاعر أولئك المجبرين أن يحملوا لقب لاجئ ويعيشوا مصيره المجهول والموحش.
مع بدء العملية العسكرية الروسية الثانية ضد الشيشان عام 9919، اضطر آرثر ووالدته إلى النزوح من قريتهما زافتسكوي إلى نزران بعدما شعر أن الحرب الثانية أخطر من العملية الروسية الأولى ضد الشيشان عام 1994، ويقول آرثر: "كثيراً ما كنت ارى الطائرات الروسية في السماء تقصف في الشيشان بينما كنا نجلس أنا وأمي في القبو وهي تبكي وتدعو الله"، لذلك ما أن بدأت العملية العسكرية الروسية الثانية ضد الشيشان حتى كان قرارهما سريعاً وحاسماً بضرورة مغادرة القرية التي لم يعودا إليها حتى اليوم.
حكايات الذين خدعوا بنداءات الكرملين وبالدعاية القائلة بأن الحياة تعود إلى طبيعتها في الشيشان أمر لا يريد آرثر ان يقع فيه كما حدث لآلاف آخرين من اللاجئين الشيشان. ويصرّ مسؤولون موالون لموسكو في الشيشان على أن الآلاف يحتشدون في المنطقة للعودة إلى قراهم وبيوتهم، لكن حقيقة الأرقام تظهر غير ذلك، إذ لا يزال آلاف اللاجئين الشيشان منتشرين في جمهورية أنغوشيا المجاورة فيما يستمر القلق من تراجع عدد السكان في الجمهورية القوقازية المدمرة والذي تقدره بعض المصادر بأنه تراجع من مليون ومئتي ألف خلال العهد السوفياتي إلى أربعمئة ألف نسمة حالياً، وهي أرقام لا يمكن التأكد من صحتها في ظل الوضع غير المستقر وفي ظل انعدام مسح دقيق للسكان.
عائلة زاتاكهانوف من العائلات التي اختارت العودة من مخيمات اللجوء في أنغوشيا إلى الشيشان بعدما أكد لأفرادها مسؤولون أن المنازل سيعاد بناؤها وأن الطعام والأمن متوافران، لكن آسيا زاتاكهانوف اضطرت للسكن منذ شهر حزيران يونيو عام 2001 مع ابنائها في غرفة في منزل نصف مرمم حيث يتقاسمون المطبخ مع عشر عائلات أخرى في مبنى مؤلف من عشر طبقات في غرزوني، المدينة التي تكاد ان تسوى بالأرض جراء ما تعرضت له من قصف على مدى سنوات. وتقول آسيا انها تعيش مع أبنائها وجيرانها في خوف دائم من أي عمليات روسية لسحق المقاتلين الشيشان.
"قالوا لنا سنقدم لكم الطعام وأولئك الذين دمرت منازلهم سيحصلون على تعويضات... وعدونا لكن حين أتينا أصبحنا فجأة لا نعني أحداً. لم يكن لدينا ماء لنغتسل. لم يكن هناك شيء فما الذي كنا سنفعله في الشتاء! إن الحياة في الشيشان أبعد ما تكون عن الحياة الطبيعية".
أمضت آسيا أشهر الصيف في غروزني ثم جمعت أولادها وعادت إلى مخيمات اللاجئين الشيشان في انغوشيا.
رعب دائم
يسكن الشيشانيون اليوم رعب اسمه عمليات التمشيط، وهي عمليات تتكرر كل يومين أو ثلاثة وتعتمدها القوات الروسية عند حدوث هجوم عليها فتمشط القرى المحيطة بمكان الهجوم وتفتش المنازل وتشن حملة اعتقالات واسعة.
"نكون في السوق وفجأة يقفلون مداخله ويبدأون في اعتقال الأولاد ما بين السادسة عشرة والسابعة عشرة. الأمهات يسكنهن الرعب من هذه العمليات وهذا هو سبب رفض كثيرين العودة إلى الشيشان". إنها تجربة عايشتها زينب مراراً في غروزني ما اضطرها إلى الهرب مع عائلتها. هي اليوم لاجئة تسكن في إحدى مقصورات القطارات القديمة في انغوشيا والتي باتت ملجأ مئات العائلات الشيشانية.
في مقطورات القطار القديم والمعطل منذ سنوات يتناثر اللاجئون الشيشان في غرف القطار الضيقة جداً والتي بالكاد تتسع لشخص أو شخصين ومع ذلك تكتظ فيها عائلات بأطفالها وكبار السن فيها، يتمددون على ما يشبه الأسرّة ذات الطوابق نظراً الى ضيق المساحة. يعيشون في قطار لا يتحرك ولا ينطلق أبداً وكأن حياتهم معلقة بانتظار صفارة ما للعودة. وزينب التي غادرت الشيشان مرتين خلال حربي العام 1994 و1999 لا ترى سوى مستقبل قاتم لها ولأطفالها، "أترين كم هي حياتنا مريعة هنا ولا تحتاج إلى شرح. لا نملك أي شيء وعلينا أن نعيش هكذا... على رغم كل المزاعم لا يمكننا العودة الى الشيشان فهناك يمكن أن يعتقلوا رجالنا وأولادنا وأن يرسلوهم إلى السجن وقد لا نستعيدهم أبداً. ليس لنا حقوق في روسيا فهذه الامبرطورية لم تجلب لنا سوى الجوع والفقر والموت. وعلى رغم أن الحكومة الروسية تقول إننا مواطنون تابعون لها لكنهم لا يفكرون بنا وبسب هذه الحرب لا نملك المال، المساعدات التي ترسل لنا لا تصلنا فالضباط الروس والموظفون الحكوميون يتقاسمونها ويتاجرون بها".
تصطف النساء في القطار بينما تروي زينب حكاياتها وتسارع كل منهن إلى رواية ما حلّ بزوجها أو أبنائها على يد القوات الروسية وسط بكاء صامت من القابعين المستمعين إلى حكايات تردد أمامهم كل يوم.
ويقطع الحديث صوت ينادي من خارج القطار أن عربة الخبز وصلت، فتهرع النساء والأولاد للوقوف في الصف للحصول على حصة من الخبز. وبينما تقف زينب وابنها أصلان للحصول على أرغفة الخبز تواصل رواية حكايتها بأسلوبها الحادّ والمرّ في آن: "أنا اليوم لا أشعر بأي شيء، فقد فقدت الإحساس، أفكر فقط كيف أربي أولادي. يأتي أعضاء من المنظمات التي تشرف على شؤون اللاجئين كل صباح ليحصوننا كما يحصون البقر... نشعر أننا بقر لا أكثر وهم يتاجرون بقوتنا وعلى حسابنا".
إلى انغوشيا، وهي جمهورية تقع غرب الشيشان وتتشارك في الانتماء العرقي مع الشيشان، لجأ آلاف المدنيين الشيشان هرباً من الحرب. في حكايات كثيرين منهم مخاوف من إجبارهم ببطء على مغادرة خيمهم وملاجئهم من قبل المسؤولين في انغوشيا بضغط من موسكو، إذ تتمثل هذه الضغوط بقطع امدادات الكهرباء والماء عنهم. ويخشى اللاجئون العودة قبل أن يستتب الأمن في الشيشان، لكن تسودهم اليوم مشاعر أنهم سيجبرون على قطع الحدود والعودة.
وتروي رايسا التي تسكن في تجمع من خيم اللاجئين الشيشان، "قال لنا المسؤول الجديد عن المخيم أن علينا العودة إلى بلادنا. لقد تعبوا منا هنا، كما يقول، ونحن لم يعد لدينا ماء والحمامات التي نصبوها لنا في حال مزرية وأطفالنا يستعدون لقضاء شتاء رابع وسط هذه الظروف".
تتزايد هذه المخاوف لدى اللاجئين الشيشان في ظل الاتفاق الموقع في شهر أيار مايو الماضي بين الإدارة الشيشانية الموالية لموسكو والرئيس الانغوشي مراد زيكايوف، والقاضي بضرورة مغادرة جميع اللاجئين الشيشان انغوشيا والعودة إلى الشيشان مع نهاية شهر أيلول. وعلى رغم ذلك يبدي قليلون استعدادهم للعودة الى قراهم المدمرة وغير الآمنة.
إغلاق الخيم
وكالة غوث اللاجئين لدى الأمم المتحدة تشير إلى أن هناك حوالي 110 آلاف مدني شيشاني يعيشون في انغوشيا في حين تقدر عدد الذين عادوا إلى الشيشان بحوالى 3300 شخص منذ أعلنت وكالة الهجرة الفيديرالية الروسية أنها ستقفل مدن الخيم للاجئين الشيشان لتجبرهم على العودة إلى قراهم.
ويقول رسلان وهو لاجئ يسكن في مخيم "كاربولاك" في انغوشيا منذ العام 1998: "إنهم يقولون ان الناس هنا يستعدون للعودة إلى ديارهم، لكن هذا هراء. إنهم لا يجرؤون على رمينا إلى الخارج بالقوة. أتمنى أن يفعلوا ذلك عوضاً عن هذه الحملة البطيئة القاتلة. إنهم لا يسمحون لأولادنا بالذهاب إلى المدارس من دون زيّ رسمي مثلاً. ولكن من أين لي أن أحصل على ألف روبل 30 دولارا لشراء الزي المدرسي؟".
ينكر المسؤولون الموالون لموسكو أنهم يجبرون اللاجئين على العودة إلى ديارهم، ويقول عليبك كاسميكوف رئيس مجموعة الادارة الشيشانية الموالية لموسكو في انغوشيا "إن المهجرين يعودون طواعية. وإذا قطعت الماء والكهرباء عنهم فهي فقط لاجراء اصلاحات تحسباً لفصل الشتاء المقبل، ومن يدعي غير ذلك فهو يفعل لجذب الانتباه".
لكن رسلان بادالوف رئيس اللجنة الشيشانية للانقاذ الوطني يقول "إن روسيا تضغط على المسؤولين عن مخيمات اللاجئين لإجبار اللاجئين على العودة عبر الحدود، لكن اللاجئين لا يعودون بالحجم الذي تتطلع إليه الإدارة الروسية التي تصر على أن الحياة تعود إلى طبيعتها في الشيشان". ويضيف بادالوف: "على رغم أن المسؤولين يقولون إنهم لا يجبرون الناس على العودة لكنهم ومنذ الربيع الماضي يقللون من حصص الخبز وهي القوت الأساسي للاجئين. إنها محاولة إبادة للشعب الشيشاني".
وتسجل الروايات الشيشانية الكثير من الوقائع اليومية التي يعيشها القاطنون في تلك المناطق المضطربة. وحسب منظمة العفو الدولية فإن كلاً من القوات الروسية والشيشانية ارتكبت انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان وخرقت القانون الدولي. وذكر مندوبو المنظمة أن أوضاع اللاجئين الشيشان مروعة في انغوشيا وأن الانتهاكات، ومنها الاعتقال التعسفي والتعذيب والاغتصاب وسوء المعاملة وحوادث الاختفاء وعمليات الاعدام خارج نطاق القضاء واستخدام مراكز اعتقال سرية غير رسمية لا تزيد عن كونها حفراً في الأرض في أحيان كثيرة. وكانت التحقيقات التي أجرتها السلطات الروسية في شأن انتهاك ضباطها وجنودها حقوق الانسان غير كافية وقلما تمّ تقديم المسؤولين عن الانتهاكات الخطيرة إلى المحاكمة.
أما القوات الشيشانية، حسب منظمة العفو، فقد شنت هجمات على المدنيين العاملين في الإدارة المحلية الشيشانية التابعة لموسكو ولم تتخذ أي خطوات للتقليل من الخسائر في صفوف المدنيين، وأساءت معاملة الجنود الروس الذين وقعوا في الأسر وأقدمت على تعذيبهم وقتلهم
رحلة لم تكتمل الى الشيشان
كانت ساعات الانتظار غير المبرر طويلة في مطار موسكو قبل أن تحملنا الطائرة إلى مدينة "محج قلعة" عاصمة جمهورية داغستان، وهو انتظار لم أكن أدرك حينها أنه سيكون سمة الأيام المقبلة التي أمضيتها في رحلة محاولة الدخول إلى الشيشان بل ربما كانت تلك هي السمة الألطف خلال تلك المهمة.
بسبب الانتظار الطويل الذي لم أعرف حتى اليوم أسبابه وصلت الطائرة إلى مطار العاصمة الداغستانية مساء، وظهر وكأن مطار "محج قلعة" يقفل ليلاً أو هكذا بدا لي أنا وزملائي في الفريق الصحافي. كان المطار عبارة عن قاعة فسيحة تصطف على جوانبه غرف التدقيق في الجوازات والجمارك وهي كانت قليلة الإضاءة وشاغرة ومتهالكة لم تجدد منذ العهد السوفياتي، ومسؤولو الأمن بملابسهم البالية وملامحهم الضجرة كانوا يضاعفون من قتامة المكان، لكن أكثر ما يلفت الانتباه تلك الأصوات المتناهية من غرفة مغلقة في آخر قاعة المطار. لم تكن تلك الغرفة سوى مطعم أو حانة، لا أدري! فقد استمرت أصوات رجال يضحكون ممتزجة بموسيقى عالية تتناهى إلينا من بعيد ونحن ننتظر أن تسجل أسماؤنا كصحافيين لنتمكن من الدخول. وما زاد من "سوريالية" المشهد مطاردة شرسة بين كلب وقطة في قاعة المطار الفارغة إلا مني ومن زملائي.
حقائبنا قُذف بها من دون اكتراث من قاعة الأمتعة، فقد كان المسؤول عن تلك القاعة على عجلة من أمره لأسباب لم نعرفها، لكننا عرفنا السبب لاحقاً حين أقفل الباب وتبول قربه أمامنا قبل أن يغادر المطار سعيداً. تأخر السائق الذي كان ينبغي أن يقلنا إلى الفندق لكنه أتى في النهاية وذهبنا إلى فندق لم يكن أقل غرائبية من قاعات المطار، ففي كل طابق من طوابق الفندق تشرف سيدة مسنة على أمن الطابق وعلى الزبون أن يدفع لها مبلغاً من المال لضمان عدم سرقة حاجاته.
وبعد ليلة قلقة توجهنا فجراً إلى الحدود الداغستانية - الشيشانية متسلحين، أو هكذا اعتقدنا، ببطاقات صحافية وتصاريح يفترض أنها تسمح لنا بالعبور إلى هذه البلاد. على الطريق كنت ورفيقنا الصحافي الشيشاني نخطط لوجهتنا من المناطق وكم سنمضي وأين، ووصلنا إلى الحاجز العسكري الروسي وبرودة الجو تلفحنا على رغم احتمائنا بالسيارة. ونزلت وكلي ثقة بالبطاقات التي أحملها لأطلب من الجندي الروسي أن يسمح لنا بالعبور.
بدا الجندي الروسي الواقف في البرد القارس شاباً صغيراً، وجهه متشقق وأحمر بفعل البرد ويطغى على ملامحه الضجر وشعور دفين بالحنق والغضب، فقّدرت أنه ربما من أولئك الذين سعوا إلى التهرب من الخدمة العسكرية في الشيشان لكنهم اضطروا في النهاية إلى التسليم بالأمر. وحين تسلم البطاقات رفض السماح لنا بالدخول معتبراً أن هذه البطاقات لا معنى لها من دون أمر عسكري بذلك ولم يقابل هذا الجندي الشاب جدالي وحنقي وغضبي سوى بنظرة لا مبالية تصل إلى حد القرف، فطلب مني بحدة التنحي للسماح بمرور شاحنة عسكرية لا أرقام لها، وهنا همس لي مرافقي الشيشاني أن هذه الشاحنة هي لتهريب النفط وهي تجارة غير مشروعة نشطة يتهم فيها مجموعة من كبار الضباط الروس الذين يخدمون في الشيشان. وبعد ساعات من الانتظار والجدال مع هذا الجندي ومع قادة أعلى منه شأناً عدنا أدراجنا وقررنا تغيير الخطة والسفر براً وصولاً إلى جمهورية أنغوشيا والدخول منها إلى الشيشان.
فجر اليوم التالي بدأت رحلة أخرى وبات الوصول إلى أي حاجز عسكري مغامرة مختلفة تتراوح بين الانتظار لساعات للتدقيق في هوياتنا وبين الاقتياد إلى الشرطة واحتجازنا في غرفة قرب الزنزانة للتحقق من هوياتنا وسبب زيارتنا إلى هذه المنطقة العسكرية التي يندر وجود الصحافيين فيها، وكانت هذه الأمور تستغرق ساعات طوال بلا جدوى وسط عجز عن التفاهم المباشر لصعوبات لغوية زادت من توتر الموقف.
واستمرت الأيام السبعة على هذا المنوال، اتصالات ووعود واحتجاز في المخافر وعلى الحواجز وأمام إحدى القواعد العسكرية الروسية التي وعدنا أنها ستساعدنا في الانتقال إلى الشيشان من دون أن يتحقق ذلك فعلاً.
وأتى اليوم الأخير لنا في مدينة نزران قبل عودتنا إلى موسكو لنفاجأ بسيارات عسكرية تتوقف أمام الفندق وتشهر السلاح في وجه زميل لنا وتقتادنا جميعاً إلى مركز للتوقيف حيث صودرت آلاتنا ومعداتنا وسئلنا عما نفعله... وبعد ثلاث ساعات من تكرار الاسئلة والحوارات نفسها علت نبرة الحوار خصوصاً أن موعد طائرة العودة إلى موسكو قد اقترب وما زلنا لا ندرك ما الذي نفعله في هذا المكان.
هرعنا إلى المطار لنكتشف أن أشرطة الفيديو سرقت جميعها من تلك الأجهزة الرسمية في أنغوشيا لكنني كنت وزملائي أكثر حيطة إذ كنت أحتفظ بالأشرطة المصورة في حقيبة يدي ولا أدعها تفارقني، وهي كانت تتضمن مقابلات مع لاجئين شيشان في انغوشيا وحكايات معاناتهم.
وغدا تكرار الأمر غاية في السخرية، إذ أوقفنا أيضاً في مطار موسكو لدى عودتنا من نزران وفُتشت الأمتعة وسئلنا مجدداً عما نفعله، إلى أن كانت الرحلة الأخيرة من مطار موسكو إلى بيروت التي شهدت تكرار السيناريو نفسه. لقد أثار مشهد الموظفة التي أخذت جواز سفري وبدأت تدقق في جهاز الكومبيوتر ضحكي إذ بدت وكأنها أمام وضع غاية في الخطورة ما دفعها الى استدعاء كبار ضباط أمن المطار للتدقيق معنا، واستعادة حقائبنا من الطائرة بعدما كنا أتممنا إجراءات شحنها لمعاودة التفتيش والتدقيق من دون جدوى، إلى أن طالب الضابط المسؤول أن يأخذ مني الأشرطة التي صورناها، ولكن رفضنا الحازم أدى الى السماح لنا بالعودة إلى الطائرة والسفر إلى بيروت.
نزاع قديم...وأمة مُهانة
يعد المقاتلون الشيشان المعروفون بمرواغتهم وسرعة هجماتهم العدو الداخلي الأشرس لروسيا على مدى ما يقارب القرنين، ولطالما حاول الروس ومنذ عهد القياصرة تطويع النزعات الاستقلالية لدى هذه المجموعة. ويصف الجنرال الروسي ميخائيل يرميلوف الذي قاد القوات الروسية في حرب دامية على مدى ثلاثين عاماً خلال القرن التاسع عشر الشيشان بأنهم "ثوار بالفطرة". أما الروائي ميخائيل ليرمونتوف الذي شارك في الصراع في تلك الفترة فقد كان أكثر اعجاباً بالشيشان إذ كتب عام 1832 عنهم، "الحرية إلههم والحرب قانونهم".
وحكم يرميلوف الشيشان من خلال حرق غاباتها لمنع الغطاء عن المقاتلين الشيشان، كما حكمها من خلال قتل عشرات الأسرى منهم في مقابل كل جندي روسي مفقود. ولاحقاً أتت حقبة مواجهة الثوار الشيشان للقياصرة ثم ضد الحكم السوفياتي.
عام 1944 اتهم جوزيف ستالين الشيشان بالتآمر مع النازيين الألمان خلال الحرب العالمية الثانية فعمد إلى ترحيل الأمة بأكملها، إذ أجبر نصف مليون شيشاني على الرحيل إلى آسيا وسيبيريا ومات حوالى 150 ألف منهم على الطرقات خلال هذه المسيرة الإجبارية في الشتاء.
أما روسيا ما بعد الحقبة السوفياتية فقد قاتلت الشيشان مرتين، الأولى عام 1994 حين أرسل الرئيس بوريس يلتسن قواته لسحق المطالبين بالاستقلال، لكن الروس هزموا خلال حرب العشرين شهراً التي ذهب ضحيتها حوالى 80 ألف شخص معظمهم من المدنيين.
أما عام 1999 وبعد تفجيرات في مدن روسية اتهم بها المقاتلون الشيشان اجتاحت القوات الروسية الشيشان ثانية في عملية لا تزال مستمرة وقتل خلالها ألوف الجنود الروس. لكن ليست هناك أرقام واضحة لعدد الضحايا من المدنيين أو المقاتلين الشيشان، غير أن المنظمات الانسانية الدولية تقدر أن الآلاف من غير المقاتلين ماتوا خلال هذا النزاع المستمر. ويرى كثيرون أن الشيشانيين خسروا مطالبهم الأخلاقية بعدما أغرقوا البلاد في أنظمة زعماء الحروب والمرتزقة من دون أن يعني ذلك تبرير حرب روسيا التي هجَّرت وعذبت وقتلت الآلاف.
يقول فلاديمير ديمتريف وهو خبير في شؤون القوقاز في جامعة بيترسبيرغ في روسيا: "نحن اليوم نجني محصول الأمس، فالشيشانيون هم الأقلية الوطنية الروسية الوحيدة التي لم تتم تسوية وضعها كجزء من الفيديرالية الروسية".
أما فيكتور بوتيلوف وهو ضابط روسي سابق فيقول: "إن أول ما يتلقاه الوليد الشيشاني الذكر هو السلاح ويكبر وهو يؤمن أن قدر الإنسان هو أن يقاتل. أما قوة الشيشان العظمى في المعركة فهي في أنهم لا يفكرون في حياتهم أو حياة أحد آخر".
وهناك ممن يقرون بأن التاريخ الدموي الحافل بالهزائم والقمع الجماعي والمنفى المرّ والثقافة العسكرية التي يصبح فيها الذكور جنوداً متفرغين في عمر الثانية عشرة قد يكون أنتج أعداداً مهمة من المقاتلين الشيشان الصغار الذين انضموا إلى تنظيم "القاعدة" للانتقام، ليس فقط من روسيا بل من كل العالم غير الإسلامي. "لا يمكن للشيشان أن ينسوا أو يسامحوا المعاناة الجماعية التي عانوها والتي يواصلون معاناتها" تقول سفيتلانا عمروف وهي خبيرة في مؤسسة الشعوب المقموعة في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق: "هذا ليس لتقديم أعذار لكن على الشخص أن يفهم كم تشعر هذه الأمة بالإهانة. إن هؤلاء الناس معتادون على القتال في سبيل قضايا خاسرة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.