زعلة: ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الانتماء وتجدد الولاء    غارة إسرائيلية على «الضاحية» تقتل 8 وتصيب 59.. وأنباء عن مقتل قيادي كبير في حزب الله    "الصندوق العالمي": انخفاض معدلات الوفيات الناجمة عن مرض الإيدز والسل والملاريا    حركة الشباب تستغل النزاعات المحلية الصومالية    "الملك سلمان للإغاثة" يوزع 25.000 ربطة خبز للأسر اللاجئة في شمال لبنان    الذهب يرتفع بعد خفض سعر الفائدة.. والنحاس ينتعش مع التحفيز الصيني    «الأرصاد»: ربط شتاء قارس بظاهرة «اللانينا» غير دقيق    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    حافظ :العديد من المنجزات والقفزات النوعية والتاريخية هذا العام    رئيس جمهورية جامبيا يصل إلى المدينة المنورة    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    "رفيعة محمد " تقنية الإنياغرام تستخدم كأداة فعالة لتحليل الشخصيات    تشكيل النصر المتوقع أمام الاتفاق    الجبير ل "الرياض": 18 مشروعا التي رصد لها 14 مليار ريال ستكون جاهزة في العام 2027    محافظ بيش يطلق برنامج "انتماء ونماء" الدعوي بالتزامن مع اليوم الوطني ال94    الأمم المتحدة تؤكد أنها نفذت خطط الاستجابة الإنسانية ل 245 مليون شخص    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    الأخدود يتعادل سلبياً مع القادسية في دوري روشن للمحترفين    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    «المجنون» و«الحكومة» .. مين قدها    5 محاذير عند استخدام العلم السعودي    «الجيولوجيا»: 2,300 رخصة تعدينية.. ومضاعفة الإنفاق على الاستكشاف    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    قصيدة بعصيدة    حروب بلا ضربة قاضية!    دراسات على تأثير غطاء الوجه على صحة الإناث..!    شرطة الرياض: القبض على مواطن لمساسه بالقيم الإسلامية    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    قراءة في الخطاب الملكي    سوق المجلس التراثي بشقراء يواصل استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني 94    ديفيد رايا ينقذ أرسنال من الخسارة أمام أتلانتا    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    هدف متأخر من خيمينيز يمنح أتليتيكو مدريد على لايبزيغ    جوشوا ودوبوا يطلقان تصريحات التحدي    مصادرة صوت المدرجات    النصر وسكّة التائهين!    التزامات المقاولين    ماكرون: الحرب في لبنان «ليست حتمية».. وفرنسا تقف إلى جانب اللبنانيين    جازان: إحباط تهريب (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    أمانة الطائف تكمل استعداداتها للإحتفاء باليوم الوطني 94    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    سَقَوْهُ حبًّا فألبسهم عزًّا    نائب أمير جازان يطلق البرنامج الدعوي "انتماء ونماء" المصاحب لليوم الوطني ال 94    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    نائب أمير منطقة جازان ينوه بمضامين الخطاب الملكي في افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى    أمطار متوسطة إلى غزيرة مصحوبة بالبرد وتؤدي لجريان السيول على 5 مناطق    المواطن عماد رؤية 2030    تعزيز التحول الرقمي وتجربة المسافرين في مطارات دول "التعاون"    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 7,922 رجل أمن من مدن التدريب بمناطق المملكة    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الضباط الروس يتاجرون بالنفط والمقاتلون العرب لا يلقون الاجماع . الشيشان : الأصولية ما دام الروس !
نشر في الحياة يوم 12 - 02 - 2001

لا تستغرق الرحلة طويلاً لاكتشاف طبيعة المأزق، فهناك العديد من الأخطار الكامنة التي يمكن الشعور بها في أميال قليلة خلال عبور الجبال المؤدية الى شمال القوقاز.
المقاربة السريعة ولو شكلياً بين الحال في تلك المنطقة وبما هي عليه في موسكو تبدو ضرباً من العبث، فالعاصمة الروسية غيرت من أسلوب حياتها وباتت تجاري في مظهرها العواصم الحديثة ومتطلبات التحول نحو العولمة، لكن ما ان يسلك المرء طريقه جنوباً باتجاه الجمهوريات القوقازية والى اي مكان محيط بجمهورية الشيشان تتحول الصورة تماماً، اذ تختفي ملامح الدولة الحديثة ويطغى وجه سوفياتي قديم وبالٍ متمسك بعناد ببيروقراطيته وسطوته محاولاً ابقاء هذه المنطقة معزولة وتحت قبضة عسكرية قاسية. القوات الروسية تحكم سيطرتها على مداخل جمهورية الشيشان. الجبال والتلال المحيطة مخبأ محتمل للمقاتلين والمواجهة قد تقع في أي لحظة.
دخول الصحافيين الى المنطقة محدود ويندر منذ اعلان القوات الروسية انها انتصرت في اجتياحها الثاني للشيشان. الزيارات تتم فقط عبر رحلات قليلة ينظمها الجيش الروسي. قد يمنح صحافيون أذونات رسمية من موسكو لزيارة الشيشان لكن غالباً ما يرفض الجيش مثل هذا الأمر.
على رغم تأكيد الكرملين ان روسيا ربحت الحرب، لا تظهر دلائل على انتهاء التورط العسكري. فخلال ساعات النهار تسيطر القوات الروسية على المراكز السكانية عبر تحصينات ونقاط تفتيش لكن من دون قدرة حقيقية على وقف المقاتلين في الأرياف حيث يتنقلون بحرية في السهول والجبال. العمليات يومية والخسائر تتضاعف والمأزق يتفاقم. فخلف واجهة الانتصار الذي أعلنته روسيا في حربها ضد الانفصاليين الشيشان يبرز وجه آخر: الروس يحتلون كل المنطقة لكنهم يسيطرون على القليل منها ويبدون احياناً انهم هم المحاصرون. انها حرب عصابات شرسة يموت الجنود الروس بمعدل 10 جنود كل أسبوع وأعداد القتلى والمفقودين الشيشان تضطرد باستمرار.
وخلف واجهة الانتصار الذي أعلنته روسيا في الشيشان تبدو الأمور في مسار آخر.
الحواجز والمراكز الأمنية الروسية تنتشر على مسافات متقاربة وعلى طول الحدود من مختلف الجمهوريات المحيطة من داغستان الى جورجيا وانغوشيا وأوستيا.
على هذه النقاط العسكرية ينتشر جنود روس لم يتجاوز معظمهم العشرين من عمره. بزاتهم العسكرية بالية في الغالب ويطغى على وجوههم الحمراء والمتشققة من البرد ملامح الضجر والحنق.
الاحتجاجات اليائسة للعابرين والمنتظرين لساعات من المدنيين الشيشان لا تغير من جمود ملامح الجنود. وبينما تتكدس صفوف المدنيين، المنتظرين أوامر الجيش بالتحرك بعد تفتيشهم لساعات، يكثر مرور العربات التابعة للقوات الروسية على خط مواز. من بين هذه العربات شاحنات عسكرية بلا أرقام تمر بإشارة سريعة من شرطة الحاجز. يهمس الواقفون تحت المطر بانتظار العبور: "هذه عربات نفط يشرف عليها الجنرالات الروس".
في مدينة نزران عاصمة أنغوشيا يعيش تامرلان مع زوجته وأبنائه في منزل متآكل تمكن من السكن فيه مقابل أجر متواضع. هربت العائلة الى هذا المنزل بعد اندلاع حرب الشيشان الثانية. يعمل تامرلان سائق تاكسي وهو يذهب أسبوعياً الى غروزني لتفقد أهله ويعود من كل رحلة يغمره الاحباط والشعور بأن العودة الى هناك لا تزال أمراً بعيد التحقق. العبور على النقاط العسكرية معاناة كبرى بالنسبة اليه، ويقول "على كل نقطة عسكرية روسية أشعر انني مهان. الحرب اليوم ليست ضد المقاتلين بل هي ضد الناس المسالمين في الشيشان فحتى من هم دون الرابعة عشرة يؤخذون بجريرة المقاتلين ونحن نعامل بشكل سيء. ليست لدينا حرية. اننا نهان ونذل. اذا أردت ان أذهب الى أهلي او ان أتفقد منزلي في الشيشان يفتشوني ويفتشون ملابسي عشرات المرات وأضطر للوقوف ساعات طويلة على الحواجز الروسية. اذا لم أستطع الذهاب الى منزلي فما معنى الحرية؟ لا يمكنني ان أصف الطريقة التي يتحدث بها الروس معنا. انهم لا يريدون الذهاب من هنا ولن يرحلوا. أنا سعيد أنكم لم تذهبوا الى هناك وتضطرون لعبور الحواجز الروسية العسكرية لأن عليكم ان تدفعوا الكثير من المال للعبور. لدعم وجودهم يكسبون المال بهذه الطريقة. عملاؤهم يدمرون بعض المراكز في الجبال ليزعموا ان هناك ثواراً لكن في الحقيقة لا شيء هناك. انهم يفعلون ذلك ليبقوا في الشيشان ويجنوا المال".
يخاف تامرلان ابن الستين عاماً على أبنائه بلال ومحمد فلا يدعهما يغادران نزران لأنه "اذا لم يعجب الروس اي مراهق يأخذونه الى السجن وسلامته واطلاقه يعتمدان على المال. علينا ان ندفع لإطلاق من يتم ايقافه وكذلك على الحواجز ندفع رشاوى للعبور".
يروي تامرلان ما يراه هو وآخرون عن النفط الذي تتم المتاجرة به في الشيشان. "بعض الجنرلات يستخدمون طائرات الهيلكوبتر لينقلوا النفط ويتاجروا به. الشيشان هي أرض تجارة لروسيا وبشكل مجاني للجنود. انها تجارة كبرى للروس، ففي الشيشان الظروف جيدة لمثل هذه التجارة. أي حفرة نفط هي اليوم تجارة للروس. هناك كميات كبيرة من النفط. نحن مبتدئون ولا قدرة لنا على الافادة جيداً من هذا النفط. اذا اكتشف أحدنا بئر نفط عليه ان يتقاسمه مع جنرال روسي والجنرال يقدم الرشاوى ويتاجر بالنفط. يمكن ان تراهم عند الحواجز فهناك قوافل للنفط تعبر الحدود وخبراء النفط يملأون البلاد".
يغلب على الشيشانيين شعور عام باليأس من الوضع القائم اليوم وبأن الحرب لا تعدو أن تكون حرباً وهمية على الارهاب لتكون غطاء لصفقات النفط الشيشاني ونفط بحر قزوين. ولا يخفى اليوم ان الوضع في الشيشان هو محور خلاف بين القيادتين السياسية والعسكرية في موسكو.
مريم وحيدفا صحافية شيشانية تعمل في العاصمة الروسية وكانت في مطلع التسعينات من ضمن الفريق العامل مع الرئيس الشيشاني الراحل جوهر دودايف، وهي منذ اندلاع الحرب الأولى نقلت اقامتها الى موسكو واستمرت في متابعة مجريات الأحداث. تقول مريم: "ان الوضع الحالي في الشيشان يتسم بالمأزق فمن دون اخراج الجيش الروسي من هناك لا يمكن للكرملين الحديث عن استقرار او تسوية. ان المستفيد الأساسي من الوضع الحالي هو الجيش الروسي الذي لا يتسلم أفراده رواتبهم فيقومون بأعمال سرقة كبرى. لقد قسم الجيش الشيشان الى مناطق وسيطر على مصانع النفط الخاصة التي بناها كبار الجنرالات مع بعض زعماء الشيشان للاستفادة منها وهذا النفط بدأ يتسرب الى الارض. هم الآن يعمدون الى تعبئته ثم وضعه في العربات لتوزيعه ثم بيعه ويعود ريعه اليهم. لقد سيطروا بشكل أساسي على مصانع النفط الصغرى وأحرقوا المصانع التي كان يستفيد منها الشيشان وبنوا مناطق خاصة، لذلك فرضوا هذا السياج او الحصار كي لا يدخل أحد ويرى ما يجري هناك من عمليات بيع للنفط وتجارة غير شرعية".
تعتبر وحيدفا ان الجيش الروسي "يشل حالياً اي قدرة تحرك للسلطات المحلية فروسيا تقول للمجتمع ان كل شيء يتم عبر القانون لكن عمليات الملاحقة تتم بشكل يومي واذا كان سبق لبعض القادة الشيشان ان ابتزوا الناس سابقاً فإن الروس الآن يعملون مع مثل هؤلاء ويقومون بعمليات السرقة وابتزاز الاموال لإعادة المخطوفين الى أهلهم". تضيف وحيدفا انه "من غير المستبعد ان تقع الحرب الثالثة، فالمهمة الأساسية للشعب هي البحث عن المفقودين من الأبناء والأقرباء لكن تطور الموضوع بالشكل القائم حالياً سيوصل الأمور الى طريق تصبح الحرب فيه حتمية".
بؤس اللجوء
قلة هم من عادوا من اللاجئين الشيشان الى قراهم ومدنهم على رغم محاولات الجيش الروسي تشجيعهم على العودة. الآلاف آثروا التسلل عبر الحدود الى بلاد مجاورة والعدد الأكبر لجأ الى الجمهورية المجاورة أنغوشيا حيث يعيش اليوم أكثر من مئتي ألف لاجئ شيشاني.
هذه الجمهورية هي الأقرب عرقياً للشيشانيين وكانت جزءاً منها قبل الانفصال رسمياً العام 1992 وهي اليوم وجهة الهاربين الشيشان من الحرب.
طوال حقبة التسعينات تكررت موجات التهجير باتجاه انغوشيا وفيها قرابة 200 ألف لاجئ شيشاني وهو معدل يضطرد مع استمرار توتر الوضع الأمني وانهيار مقومات الحياة في الشيشان.
بؤس اللاجئين هنا هو ما دفعهم الى البحث عن اي مسكن مهما كان وضيعاً عله يؤويهم من بؤس الحرب وفظاعتها. عربات القطار المتوقفة منذ زمن كانت ملاذاً لآلاف من الهاربين الذين يتكدسون في المقصورات. وعلى رغم ان الجيش الروسي يحث السكان على العودة مع وعود بأنهم سيكونون في أمان الا ان معظم حركة السير هي باتجاه المغادرة. بعض اللاجئين يعيش في منازل خاصة فيما يعيش الآخرون في خيم او عربات السكك الحديد بل وحتى في حظائر الماشية.
وفيما يتجول الرجال خارج المخيمات يحاولون استقاء آخر الأخبار او يمضون الوقت في التسالي تتحلق النساء حول المواقد التي نصبت قرب عربات القطار وقرب المخيمات لتحضير الطعام وللغسيل.
زينة وهي سيدة في الخمسين لجأت الى قطار على أطراف مدينة نزران العاصمة الأنغوشية مع بدء الحرب الثانية في الشيشان. تقول: "في الحرب الأولى عام 1994 غادرنا قريتنا بعدما دمر منزلنا فذهبنا الى غروزني. اما في الحرب الثانية فنزحنا الى عربات القطار هذه. كنا خائفين قبل المجيء لأننا سمعنا ان الروس سينقلوننا الى شمال روسيا. لم يجلب لنا الروس سوى المصاعب والموت. الحكومة تقول اننا مواطنون تابعون لها لكنهم لا يبالون بنا. حين خرجنا من البيت لم نستطع أخذ سوى ملابس أولادنا. بسبب هذه الحرب لم نعد نملك المال، والمساعدات المرسلة لنا لا تصلنا فالضباط الروس وموظفو الحكومة يتقاسمونها ويتاجرون بها. حياتنا مريعة ولا تحتاج الى شرح. ليس لدينا أي شيء وعلينا ان نعيش هكذا ونحن نعيش فعلاً. اذا خرج الروس من الشيشان سنعود لكن الآن لا يمكن، فهناك يمكن ان يعتقل رجالنا وأولادنا ويتم نفيهم الى السجن وقد لا نستعيدهم ابداً. نريد ان يخرج الروس وعندها سنعود الى الشيشان".
قرب مواقد الطعام التي تنهمك فيها النساء يتحلق الأطفال والرجال الذين يمضون وقتهم في لعب الورق او في سماع الاخبار عبر الراديو. يعقوب لا يعتبر نفسه كسولاً كونه ينظر الى زوجته وهي تقوم بطهي الطعام والغسيل في وقت واحد بل يقول انه مضطر الى لعب الورق لأن لا عمل لديه. ويقول "هنا في أنغوشيا لا نستطيع ان نعمل الا ان الوضع هنا لا يقارن بما هو عليه في غروزني. الجنود الروس يأخذون الابرياء من الرجال والشباب ويطلبون رشوة. للشخص الواحد يطلبون 1000 دولار لإطلاق سراحه".
ويضيف "اذا تعرضت للخطف لا يمكن ان يعيدونني ابداً. ربما يعيدون جثتي الى عائلتي. انهم يأخذون بشكل خاص الصغار والفتيان لأنهم يعلمون ان الأهل سيبيعون اي شيء ليعيدوا ابناءهم، وحتى حين يعود يكون قد تعرض للضرب والتعذيب بقسوة".
زينة التي لا تكفيها ساعات النهار لتأمين معيشة أبنائها تهرول مسرعة في الصباح وتقف لساعات للحصول على المساعدات. انها تسيّر شؤون حياتها بشكل آلي وبدون الكثير من الأمل. "أنا اليوم لا أشعر بأي شيء، لم يعد لدي احساس. أفكر فقط كيف أربي أولادي. أنا كبرت ولم يعد مصيري مهماً. المهم ما الذي سيحصل لأبنائي. لقد بعنا الذهب وحصلنا على مساعدات من المواطنين هنا. نذهب كل يوم الى حيث يباع الطعام فنشتري ما يباع بروبل مثلاً ثم نحاول ان نبيعه باثنين وهكذا..". وتضيف "هنا في القطار نجبر ان نساكن عائلات كثيرة أخرى. علينا ان نعيش بسلام معاً فنحن لدينا المشاكل ذاتها وينبغي ان نواجه الواقع".
تتابع شؤون اللاجئين حكومة أنغوشيا ومنظمات دولية متعددة ولكن كما هي حال اللاجئين دائماً فإن المساعدات عرضة للتلاعب والسرقة من بعض الموظفين. فتقول زينة: "تأتي الحكومات والمنظمات التي تشرف على شؤون اللاجئين الينا كل صباح ليعدوننا كما يعدّون البقر... نشعر اننا بقر هنا لا أكثر. انهم يتاجرون بقوتنا ويعتاشون على حسابنا. من المستحيل وصف ما عاناه الشيشانيون هنا. من المستحيل وصف ذلك. لماذا لا يتحرك المسلمون للضغط على روسيا لوقف الحرب؟ روسيا تقتلنا هنا في الشيشان. منذ سنة لم يذهب أولادي الى المدرسة وهم لا يعرفون سوى السلاح. يعرفون تماماً ما يعنيه القصف وما هي المدفعية. يعرفون كل شيء له علاقة بالسلاح. وحين يرسمون يرسمون فقط جبالاً وهيلكوبتر ومنازل مدمرة. لا نريد أي مساعدة نريد فقط ان يخرج الروس. نريد ان يساعدنا المسلمون ليخرج الروس من هنا وأن نعود الى منازلنا".
مقاتلون قيد الانتظار
المقاتلون الشيشانيون، وعلى رغم استمرار جزء كبير منهم في عملياته العسكرية انطلاقاً من الجبال او من بعض القرى، يعتبر كثيرون منهم انهم الآن في فترة انتظار واستراحة ريثما يعيدون تجميع قواهم من جديد لشن عمليات شاملة جديدة ضد القوات الروسية. فهم اما مختبئون في قرى داخل الشيشان وإما في الجمهوريات المجاورة وبعضهم يسافر باتجاه جورجيا او تركيا ودول أخرى. نواة هؤلاء المقاتلين ضربت بشكل كبير لكنها لم تنته.
عيسى شاب لم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره. بدأ القتال ضد الروس عام 1994 خلال الاجتياح الأول للشيشان. كان يقاتل مع مجموعة القائد الشيشاني شاميل باسييف الذي يشكل هو والعربي "الأمير خطاب" كما يسميه أنصاره الشيشانيون القيادة الأبرز للمقاتلين.
يروي عيسى: "حين دخل الروس الى الشيشان عام 1994 انضممت الى المقاتلين لأنني أردت ان أكون مجاهداً. عام 1995 فقدت 6 من إخوتي حين قصفت قريتنا. بعد يوم قال الروس انهم قصفوا قاعدة ارهاب لكنهم كانوا عائلتي. لا أستطيع وصف شعوري بأنني فقدت عائلتي. هذا الأمر يجب ان يعاش وان يحس. أفضل الأعداء بالنسبة لي الطيارون الروس لأنهم هم الذين قصفوا منزلنا وقد قتلت الكثير منهم. الروس يقولون اننا عصابات وانفصاليون. نحن نريد حماية عائلاتنا وأرضنا".
عيسى يعيش اليوم مع عشرات آخرين مختبئين في مخيمات اللاجئين ويتنقلون في الخفاء. يستفيد من كونه مقاتلاً غير معروف فلا يضطر لإخفاء وجهه طوال الوقت. يستعد مع مقاتلين شيشان آخرين سراً الى حين تسنح الفرصة لعمليات جديدة ضد الجيش الروسي. "أنا مختبئ هنا ولا أستطيع ان أخرج كما أريد او ان أذهب الى اي مكان أريده. الحرب لم تتوقف. والقادة يقاتلون ويغيرون الاستراتيجية. من جُرح ومن مرض يحتاج الى وقت للعلاج".
خطاب وباسييف وأتباعهما ينادون بدولة اسلامية مستقلة هي الشيشان الى جانب داغستان وأنغوشيا. أكثر من ألف مقاتل بقيادة خطاب وباسييف نادوا بالاستقلال في آب أغسطس عام 1999 من داغستان وأعلنوا الجهاد ضد الروس. والمقاتلون في معظمهم ينادون بإرساء الشريعة الاسلامية. في عملهم العسكري استفادوا من الجبال العالية التي تمرسوا على العيش فيها لشن القتال ولمواصلة هدفهم وهو تأسيس دولة مستقلة في شمال القوقاز لها مدخل على بحر قزوين، وقد أثبت الشيشانيون أنهم أصعب مما توقعه الروس.
لا يرى عيسى مشقة كبيرة في العيش في الجبال وشن هجمات من هناك: "كيف نستطيع العيش في الجبال؟ انه الإيمان لأننا نعرف أننا نجاهد في سبيل الله وحين ننام في حفر في الجبال وسط الثلوج نشعر اننا في غرف دافئة لأننا مؤمنون".
بعد الاجتياح الروسي الاول كانت شعبية المقاتلين واسعة لكن السنوات الأربع من الحكم الذاتي ودخول المقاتلين الى داغستان في الحرب الثانية قلصت كثيراً من هذه الشعبية.
كثيرون من الشيشانيين الذين قاتلوا في الحرب الأولى ظلوا على الحياد في الحرب الثانية. الأمن والنظام اختل في ظل القيادة الشيشانية والخطف والقتل أصبحا أمراً روتينياً في البلاد. لقد فقد الشيشان الثقة بالروس وبقيادتهم وبات كثيرون منهم على استعداد للتنازل عن حلم الاستقلال.
زينة كانت في السابق تدعم المقاتلين الشيشان لكن نظرتها اليهم اليوم تغيرت. "حين بدأت الحرب الأولى دعمت المجاهدين والذين حاربوا لأنهم كانوا يحمون الأرض، لكن في الحرب الثانية جاء الى الشيشان مجاهدون من أنواع أخرى وتبعهم بعض الشيشان واستفادوا. المسلمون الشيشان العاديون يختلفون عن هؤلاء المقاتلين الذين يريدون فقط المال ولديهم منه الكثير وهم يرغبون في القتال. لا يريدون السلام عبر الحوار وأنا لا أدعمهم. هم يستثمرون في الحرب وبعض الشيشانيين يتبعونهم. انهم يدفعون لنا المال اذا عشنا كما يريدون لنا ان نعيش. انهم دائماً غاضبون ويفعلون أشياء مختلفة لسنا معتادين عليها وهي ضد قناعاتنا وأنا لدي دين ورثته عن أجدادي وأهلي وهذه هي الطريقة الصحيحة".
تعتبر وحيدفا ان التيار الأصولي في الشيشان خطر غير فعلي ومقياس جديته متوقف على سياسة الكرملين، "اذا استمر وجود الجيش الروسي في الشيشان ستقوى الأصولية وإذا بقي الجيش والكرملين يدعم من يدعمهم الآن ستقوى ايضاً. لكن اذا غير الكرملين سياسته تنتهي الأصولية في الشيشان".
الدور العربي
يتفاوت الموقف من التدخل العربي في الشيشان. فهناك عدد كبير من المقاتلين العرب الذين شاركوا في حرب أفغانستان وأدخلوا مع دعم بعض الدول العربية عناصر جديدة على الصراع في الشيشان.
عيسى يعرف العديد من المقاتلين العرب وهم بالنسبة اليه "ثوار" مثله، "أعرف العديد من الثوار العرب معنا وهم أخوتنا ويجاهدون، و"خطاب" رجل مسلم وجيد. وبعضهم يقول انه ينال أموالاً للقتال لكن هذا غير معقول. من الصعب على أي كان ان يعيش في الجبال. المال لا يدفع بالانسان الى العيش عيشة كهذه".
وحيدفا ترى ان الدعم العربي للمقاتلين فاقم قضيتهم، وتؤكد ان "الدعم العربي للمقاتلين الشيشان أثر سلباً على حالنا بشكل كبير والأموال التي أتت من الدول العربية ساهمت في تقوية مواقع هؤلاء الناس وتدهور الأوضاع. هم لا يلاقون دعماً من المواطنين.والشيشان بوعيهم الفطري لديهم مطالب الحرية والاستقلال وهم يعلمون ان هذه المجموعات لن تحقق الاستقلال والحرية وعندما تصل الأمور الى نهايتها سيتم ابعاد هؤلاء بشكل تلقائي".
مع الحصار القوي الذي تفرضه القوات الروسية على الشيشان يغلب الرعب على كل تحرك. الجميع مشتبه به حتى تثبت براءته. والمسؤولون المحليون الذين عينتهم موسكو يعيشون في خطر دائم. العديد منهم قتل من قبل الانفصاليين الذين يتهمونهم بالخيانة.
أما القوات الروسية فهي في معرض اتهام وإدانة دائمين من جراء الممارسات القاسية ضد المدنيين والتي زاد التعتيم عليها في الأشهر الأخيرة. أرقام المعتقلين والمفقودين الشيشان بالآلاف.
محمد شقيق عيسى أيضاً ينتمي الى المقاتلين. لم يتجاوز السادسة عشرة. هدفه قتال الروس بعدما قتلوا عائلته وبعدما سجن وعذب في معتقل تشيرناكوزوفا، أحد مراكز الاعتقال والتعذيب الشهيرة في حرب الشيشان الثانية. ويقول: "كنت مع عائلتي حين أوقفوني وأخذوني الى معتقل تشيرناكوزوفا. كانوا يأخذوننا الى هناك ويعذبوننا. الجميع يعرف ذلك لكن الروس يكذبون حين يقولون انهم لا يفعلون. أعتقد بأنني يجب ان أكون ميتاً بعد الذي رأيته في السجن. فقدت 6 أشقاء ودفنتهم جميعاً بيدي. أكره الروس وسأقاتل حتى النهاية".
لقد انقضت حوالي سنة على حرب الشيشان الثانية والوقت لا يزيد الوضع الا تعقيداً ومأسوية. الجميع مدان والمتورطون كثر والتعتيم المفروض على تلك المنطقة وما يجري فيها يجعلها أرضاً خصباً لصفقات قذرة وحروب يائسة لا تفضي الى أي حل. وحيدفا لا تسقط من احتمالات المستقبل نزاعاً جديداً، "الحرب الثانية لم تنته بعد والوضع معرض في أي لحظة جديدة طالما انه ليست هناك معاهدة تحدد طبيعة العلاقة بين روسيا والشيشان. اذا استمر الوضع هكذا من دون حل فالحرب يمكن ان تقع في اي لحظة"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.