حتى فترة وجيزة كانت الصحافة تعكس باهتماماتها نسبة التوتر في أمر ما أو نسبة تأزم قضية ما أو خطورة حدث ما، فكانت المساحة المخصصة للأمر أو للقضية أو للحدث على صفحات الجرائد والمجلات أو الدقائق المحجوزة لها على هواء الوسائل المرئية والمسموعة ووسائط الإعلام المختلفة، تبين نسبة الخطورة أو تصف مدى التأزم أو تشير إلى درجة توتر القضايا التي تهم أو تؤثر على الرأي العام. وإذا ركنا إلى هذه المؤشرات واعتمدنا عليها لتبيان القضية الأولى التي تحتل مقدمة ما يدور حول العالم - القرية نجد بعض المواضيع التي باتت كلاسيكية إعلامياً. فإلى جانب "صحة" الولاياتالمتحدة المالية والاقتصادية التي تبدو الشغل الشاغل لكل صحافة مكتوبة أو مبثوثة أو مرقّمة مع أخبار البورصات الكبرى، نجد القضية الفلسطينية وقضية عودة مفتشي الأممالمتحدة إلى العراق وأخبار التحضيرات العسكرية الأميركية مع مواكب المواقف المؤيدة أو المعارضة، وبالطبع القليل مما يتواتر من أخبار الحملة الأفغانية. ونشير هنا بالطبع إلى الأخبار التي تشكل القاسم المشترك للصحافة العالمية والتي تتصدر صفحاتها ونشراتها إلى جانب الأخبار الخاصة والمميزة لكل دولة ومنطقة وتجمع. ومن حين لآخر يحتل خبر اكتشاف علمي كبير حيزاً في "القاسم المشترك" فتتناقله الصحافة في زوايا المعمورة قاطبة، أو يكون الخبر عالمي طلاقاً أو زواجاً أو موت نجم أو فضيحة تمسه من قريب أو بعيد، وفي مواسم الجوائز والاحتفالات تتشارك الصحافة العالمية في نقل أسماء المختارين والفائزين والقيمة المالية للجوائز العالمية، من نوبل إلى أوسكار مروراً بمهرجاني كان والبندقية. لكن منذ فترة قصيرة دخل قاسم مشترك جديد حقل أخبار العالم ألا وهو "أخبار الصحافة" التي تتعلق بشؤونها خصوصاً شجونها، والحملة التي تتعرض لها في ...العالم - القرية. ولم تعد تخلو صحيفة أو نشرة أخبار، إن كان على الصعيد الدولي أخبار دولية أو على الصعيد الإقليمي أخبار وطنية وإقليمية، من خبر سجن صحافي أو ملاحقة قضائية لصحيفة أو لمؤسسة إعلامية، ناهيك عن عمليات القتل "المتعمد أو غير المتعمد" لصحافيين في إسرائيل وجورجيا وتشيخيا أو السجن إسرائيل وكينيا ورواندا وكولومبيا وتركيا أو وضع الجسم الصحافي ككل تحت المراقبة وملاحقة الصحافيين احياناً مما يعرقل حرية العمل الصحافي. وفي الواقع فإن أي قارئ يستطيع عبر صحيفته المفضلة أو نشرة الأخبار التي تعود أن يشاهدها أن يلاحظ كل يوم تقريباً وجود خبر يتعلق بصحافي تعرض لمخاطر المهنة أو بصحيفة أو بمؤسسة إعلامية تلاحقها أجهزة قضائية أو إدارات رسمية أو هيئات عليا. وفي حال كان القارئ في دولة لا تسمح فيها الحريات الصحافية بمتابعة هذا النوع من الأخبار فسهل عليه الالتفات إلى شبكة الأنترنيت حيث توجد مواقع مخصصة ل"جرد" الحوادث والمضايقات التي يتعرض لها الجسم الصحافي في العالم. وعلى عكس ما يمكن أن يتصوره بعضهم فإن حركة المضايقات للصحافة لا تقتصر على الدول المصنفة في خانة الدول غير المتمتعة بفسح التعبير الحر ولا تنحصر في إطار الدول المنتمية إلى محور معين بل تتعداها إلى دول لا يكاد يصدق مواطنوها أن حكوماتهم أو الأجهزة المكلفة السهر على حرياتهم يمكنها أن تمارس تجاه صحافتهم الحرة التي تمارسها بصورة شبه يومية. ذلك أن محاصرة الصحافة ومحاولة قمعها لا تتمان فقط بواسطة المحاكم والإجراءات الإدارية في أفضل الحالات، أو بواسطة القتل والخطف أو الضرب أو التفجير في أبشع الحالات، بل يمكن أن تأخذ وجوهاً متعددة وتحفظ ماء وجه الديموقراطيات المعلنة والمشهود لها! لنأخذ مثلاً الولاياتالمتحدة "المهووسة" حالياً بتداعيات هجمات 11 أيلول سبتمبر، والتي تجد في وصفة الحد من الحريات الفردية ترياقاً لهاجسها، وتعتبر تآكل حرية الصحافة والتعبير والاطلاع على عمل السلطات، كما يكفله الدستور، جرعة لا مفر منها للنجاح في سبيل ربح الحرب على الإرهاب. فهي حولت الحملة على الإرهاب إلى إرهاب نفسي منظم لكل أعضاء الجسم الأميركي بشكل باتت معارضة الحكومة وتجاوزها لقوانين الحريات تشكل نوعاً من الخيانة العظمى تمنع المؤسسات الصحافية بطريقة شبه "رد فعلية" على التأقلم والتكيف مع أجواء السلطة. وتشير أعداد المراجعات والقضايا المرفوعة أمام المحاكم الفيديرالية للمطالبة بإجبار الحكومة الأميركية على تطبيق القوانين المتعلقة بحرية الاطلاع وحق الصحافة بالوصول إلى المعلومات ونشرها، إلى الحالة التي وصلت إليها الديموقراطية الأميركية فيما يتعلق بالحرية الصحافية. وفي بريطانيا أيضاً تحدثت صحيفة "صاندي تايمز" عن "اختراق" أجهزة التجسس التابعة لرئاسة الوزراء لأجهزة الكومبيوتر في مراكز هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية "بي.بي.سي." ما يمكن أن يشكل، في حال ثبوته، فضيحة الفضائح في مجال كبح الحريات والسيطرة عليها في دولة عريقة في مجال حماية الحريات الصحافية. وعلى رغم من عدم العثور على أدلة قاطعة، ونفي ناطق باسم مقر رئاسة الوزراء الأمر، فإن مجرد ولادة شكوك لدى بعض كبار الصحافيين العاملين في الهيئة الإعلامية يدل على جو "الإرهاب" الذي تعيشه الأوساط الصحافية. وتشهد أوروبا كما هو الحال في العديد من الدول المتقدمة صناعياً محاولات إن لم تكن ناجحة بنسبة مئة في المئة، فهي محاولات متكررة ودائمة من قبل التجمعات الاقتصادية الكبرى المدعومة إيطاليا أو غير المدعومة من السلطات فرنسا وألمانيا للسيطرة "المالية" على وسائل الإعلام وبالتالي محاولة التضييق والإمساك بالصحافة الحرة بشكل عام وبوسائل الإعلام المتعددة والمؤثرة بشكل خاص. وقد انتقلت حرب العصابات هذه إلى مناطق أخرى في سياق تيار العولمة الاقتصادية وفي خطى التوسع والانتشار الاقتصادي لتجمعات الشركات الكبرى والمصالح المالية العالمية. ولعل أفضل مثال على ذلك اليد التي وضعتها الشركات الغربية الكبرى على الصحافة ووسائل الإعلام في أوروبا الشرقية والدول التي كانت تنتمي إلى حلف وارسو العتيد. فقد أدرك القيمون على التوسع شرقاً أن الصحافة الحرة في دول خارجة من عزلة حديدية شيوعية كان يمكن أن تشكل عائقاً أمام عملية وضع يدها على المرافق الصناعية المهدمة لإعادة نهضتها وضمها إلى شبكة الصناعة المعولمة التي تسيطر عليها، وأبرز النجاحات في "تدجين" الصحافة ورفعها إلى المستوى الغربي كانت في بولونيا وتشيخيا وسلوفينيا وهنغاريا وبالتالي فليس غريباً أن تكون هذه الدول في طليعة الدول المؤهلة للانتساب الى الاتحاد الأوروبي. ان عمليات تدجين الصحافة لمصالح إقليمية سياسية أو اقتصادية موضة قديمة" في العالم العربي أيضاً. وكان من أبطالها الزعيم المصري الراحل جمال عبدالناصر الذي ترك العديد من الورثة في هذا المضمار. ويشهد العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط حالياً معركة تواصل لا مثيل لها منذ نصف قرن على مستويين إقليمي - عربي وإقليمي - داخلي ويجمعها إطار شرق أوسطي نظراً الى انعكاسات الصراع العربي - الإسرائيلي على الدول العربية قاطبة وعلى كل دولة بشكل منفرد، وتداخل نفوذ القوى العالمية في أطراف هذا النزاع على مستويات متعددة أيضاً. فعلى الصعيد الإقليمي لا يمر يوم إلا وتأتينا أخبار الصحافة التي تتعرض على صعيد إقليمي لمضايقة أو لتضييق فسحات عملها: فبعد اليمن والملاحقة التي تعرض لها عدد من الصحافيين بسبب نشر معلومات عن تواجد عسكري أميركي مزعوم ها هي العلاقات الديبلوماسية بين دولتين عربيتين الأردنوقطر تتأزم بسبب برنامج تلفزيوني بثته قناة "الجزيرة"، ما أدى إلى استدعاء الأردن سفيره في الدوحة، وإقفال مكتب القناة القطرية في عمان. وهذه ليست المرة الأولى التي تتسبب فيها "سي.إن.إن. العرب" وهو اللقب الذي تطلقه الصحافة الأجنبية على قناة "الجزيرة"، بأزمة بين قطر ودولة عربية أو أجنبية وبالتحديد الولاياتالمتحدة قبل الحملة الأفغانية حين كان مراسلها الصحافي الوحيد الموجود في محيط النظام الطالباني قبل أن ينهار نتيجة ضربات القوات الأميركية. وكالعادة كان برنامج "الاتجاه المعاكس" وراء ما سيوصف بعد مرحلة قد تدوم أو تطول بسوء تفاهم بين الحكومتين! وكما هو معروف فإن البرنامج الذي يجمع ضيوفاً ذوي مواقف متناقضة ومتباينة حول موضوع ما، ويشارك فيه المشاهدون مباشرة عبر الهاتف، تطرق إلى الأردن وسياسته العامة. وقد انتقد المشاركون معاهدة السلام الموقعة بين الأردن وإسرائيل ووجهوا انتقادات شديدة للحكم، ما سبب استياء شديداً لدى السلطات الأردنية وأوصل الأمر إلى حد القطيعة بين عمانوالدوحة بعد إغلاق مكاتب "الجزيرة" في العاصمة الأردنية. وبغض النظر عما يفرّق أو يقرّب في ما يتعلق بموضوع المناقشة ومحور اللقاء - المشكلة وهو ما يبينه عنوان البرنامج، ومن دون ركوب موجة الدفاع المطلق عن مؤسسة إعلامية، لا يمكن إلا أن تشكل هذه الأزمة مثالاً لسوء التفاهم حول دور الإعلام والمؤسسات الإعلامية كوسيط نزيه بين الأراء وموصل لهذه الآراء إلى الرأي العام. فالعتب على المؤسسة الإعلامية، أكانت قناة فضائية أم صحيفة يستهدف دائما المضمون، وفي هذه الحالة فإن اللوم يوجه إلى القناة التلفزيونية على أساس قبولها ببث رأي اعتبره القيمون على "سمعة" الدولة المقصودة مسيئاً ما سبب استياء غضب الحكومة. قد يكون ذلك صحيحاً، ومن الطبيعي أن تسبب مواقف متباينة استياء لدى كل الجهات، كل حسب موقفه المختلف، لكن هل منع البث، أي إيقاف عمل أداة الوصل الميديا يمكن أن يلغي وجود الأفكار والأراء المزعجة؟ إن دور الميديا الأول هو توصيل الأفكار والأراء مهما تباينت ومهما كانت لا تشنف آذان سامعيها، ودورها الذي تطور بتطور تكنولوجيا نقل المعلومة، هو تكبير صدى المعلومة لتصل إلى أكبر عدد ممكن من المتلقين توسيعاً للنقاش الموضوعي وإفساحاً للأراء المتعددة. ويبدو أن الجهات الأردنية أدركت ذلك وأدركت عقم محاولة وقف عمل وسيلة إعلامية في عصر الأنترنت والتقنية المتقدمة، ويبرز ذلك من التبريرات التي عادت وقدمتها، والقائلة "أن كثيرين من الأردنيين لم يتمكنوا من التعبير عن آرائهم... لأن اتصالاتهم كانت تجمد". قد يكون ذلك صحيحاً أو غير صحيح لكنه يشير قبل كل شيء إلى إدراك السلطات عدم جدوى التقوقع وراء المنع البحت لتجوال المعلومة حاملة الآراء. وقد شهدت دول عدة عمليات إعادة رسم المنظر الإعلامي لمناسبة إطلاق العمل بالمؤسسات الإعلامية الفضائية وضرورة توزيع امتيازات لها. وعملية إعادة هيكلة الجسم الإعلامي في حقل المرئي والمسموع عملية أسهل من محاولة التدخل في الإعلام المكتوب، بسبب الامتيازات التي تمنحها الحكومات للأقنية الفضائية أو الأرضية والقابلة للاسترداد، على عكس امتيازات الصحافة المكتوبة. وتكون الأزمات السياسية عادة مناسبة لإعادة خلط الأوراق الإعلامية بين الأقطاب، إما بسبب تغير موازين القوى وإما بهدف تصفية حسابات. وتقدم الصحافة اليومية مثالاً من لبنان حيث تعلو قرقعة معركة إعلامية بين الأقطاب تنعكس ملاحقات لمؤسسات إعلامية في حقل البث التلفزيوني. فالقضاء يلاحق قناة "إل.بي.سي." بسبب نوعية تغطيتها لمذبحة كان بطلها موظف في صندوق تعويضات معلمي المدارس الخاصة وذهب ضحيتها ثمانية من زملائه. والتهمة الموجهة الى "إل.بي.سي." هي "بث مقاطع من شأنها تعكير صلات لبنان بدولة شقيقة والمس بكرامة رئيس البلاد والذم والقدح بالأجهزة الأمنية وتعكير السلام". وعلى رغم العديد من تصريحات المسؤولين اللبنانيين المتخوفين من المس بالحريات العامة وحرية التعبير الذي رافق إجراءات الإحالة على القضاء إلا أنه يبدو أن عملية الهيكلة الإعلامية التي جاءت في أعقاب مسلسل طويل من الإجراءات التي طالت صحافيين كان آخرها الحكم على الزميلة سعدى علوة بغرامة مالية كبيرة بجرم تحقير القضاء وذمه هي جزء من تصفية حسابات سياسية بين الجسم السياسي يدفع ثمنها الجسم الصحافي والحريات الصحافية التي تبنى عليها حرية الرأي والتعبير. ولا تتوقف جولة شجون الصحافة في العالم على بلد أو آخر. ففي إيطاليا لم يجف الحبر عن القوانين الجديدة التي وضعها رئيس الحكومة سيلفيو برلسكوني الملياردير ورجل الإعلام للسيطرة شبه الكاملة على الإعلام الإيطالي المرئي والمسموع. وفي إيران تم أخيراً إقفال صحيفتين ليصبح عدد الوسائل الإعلامية المقفلة في الفترة الأخيرة 52 مجلة وصحيفة. وفي كوبا لا يزال الصحافي المخضرم بابلو بولانكو محاصراً في منزله منذ ستة أشهر، بينما في الصين تم القبض على 11 صحافياً بحجة النشر على الأنترنت. وفي بيلاروسيا تعيد الحكومة تنظيم قوانينها للتمكن من ضبط الصحافة المحلية. أما في قبرص فتم سجن صحافيين بانتظار محاكمة مقبلة، وفي كينيا أفرج عن الصحافي نجهو كاتاباكي بعد ستة أشهر قضاها في السجن من دون محاكمة. وفي كولومبيا لا يعرف عدد الصحافيين المختطفين. أما في إسرائيل فحدث ولا حرج، فالبيانات التي تنتقد تصرف الحكومة الاسرائيلية تجاه الصحافة الأجنبية والمحلية خصوصاً عندما تكون ممثلة بمهنيين فلسطينيين باتت لا تعد ولا تحصى: فمنظمة "مراسلون بلا حدود" تطالب بالإفراج عن خمسة صحافيين فلسطينيين يعملون لمؤسسات إعلامية عالمية قبض عليهم منذ أشهر وما زالوا قابعين في معسكرات الاعتقال من دون محاكمة. والكل يذكر الصحافي الشهيد عماد أبو زهرة الذي قضى نتيجة قذيفة دبابة وجهت مباشرة لسيارته ومنع الاسعافات من الوصول إليه، كما كان الحال مع الصحافي الإيطالي رفائيل كيريللو الذي كان من أوائل "شهداء الصحافة" خلال الانتفاضة الثانية. وفي حين تستعد إسرائيل لمنع "سي.إن.إن." من الوصول إلى المشاهدين في إسرائيل بسبب تضايق شارون من تحقيقاتها وتغطيتها للانتفاضة، فإن محاكمها حكمت على رقيب بالسجن 21 يوماً مع وقف التنفيذ لأنه أطلق الرصاص على سيارة صحافيين إسرائيليين. هذا بعض من كثير مما تعيشه الصحافة في العالم من نزاع مع السلطات، مالية كانت أم سياسية أم عسكرية. والغريب ان هذا الصراع تريده السلطات دائماً صراعاً صامتاً، فهي على عكس الصحافة التي تبحث عن الضوء والصوت والضجة لإيصال صوتها والدفاع عن حريتها، اذ هي تسعى للعمل في الظل، وعلى عدم التشديد على الخلاف مع المؤسسات الإعلامية، فإن كل ضجة ترافق عمليات القمع التي تقوم بها تخدم الصحافة وتؤدي الى نتيجة تعاكس أهدافها