رغم أن الخريطة المهنية للإعلاميين العرب تضم بضعة آلاف يعملون في مختلف قطاعات الاتصال والإعلام المقروء والمرئي والمسموع، غير أن الصحافيين يشغلون عن جدارة موقع الصدارة بحكم عوامل عدة، لعل أبرزها انتماؤهم إلى أقدم المهن الإعلامية المعاصرة، وأعني بها الصحافة التي كان لها السبق في إرساء تراث ضخم يضم أصوليات وأخلاقيات ممارسة المهنة كما يضم حصاد النضال الطويل الذي خاضته أجيال عدة من الصحافيين في مختلف العصور من أجل الديموقراطية وحرية الصحافة ومن أجل حماية حقوقهم المهنية. وكشف التاريخ المهني الطويل للصحافيين أن المشاكل التي تواجههم بحكم طبيعة عملهم تجعلهم يتصدرون الخطوط الأمامية للدفاع عن الحرية بمعناها المجتمعي الواسع وعن الحرية المهنية التي تعد حجر الزاوية في المنظومة التي تعرف بحرية التعبير، إذ ينظر إلى الصحافيين باعتبارهم حراسها والقائمين على حمايتها. ومن الثابت علمياً وواقعياً أن الصحافيين في معظم دول العالم لا يتمتعون بالحرية ولا يمارسون حقوقهم الاتصالية إلا بصورة نسبية وفي حدود القوانين والتشريعات الإعلامية التي تحرص على محاصرة وتقييد الحقوق التي تنص عليها من خلال الصياغات القانونية المطاطة والإفراط في السلطات التقديرية التي تخولها للقائمين على الأمور الذين يملكون الحق في سحب امتياز أي صحيفة أو مصادرتها من دون إبداء الأسباب، فضلاً عما تفرضه قوانين المطبوعات من الاشكال الاخرى للتعطيل الاداري والرقابة السافرة والمقنعة على الصحف والصحافيين. وتشير التجارب التاريخية، المحلية والعالمية، الى أن هذه القوانين لم توجد إلا لحماية مصالح الهيئات الحاكمة في مواجهة الصحافة والصحافيين. ويواجه الصحافيون العديد من المخاطر النفسية والسياسية والاقتصادية والحياتية أثناء ممارسة المهنة تتمثل في حدها الأدنى في أشكال الرقابة السافرة والمقنعة التي تمارسها الحكومات وتتراوح ما بين المنع من الكتابة والفصل من العمل بصورة متعسفة والنقل إلى وظائف أخرى والمنع من السفر، وصولاً إلى الاعتقال والإحالة على المحاكمات العسكرية، وتصل في بعض الأحيان إلى الاغتيال، فضلاً عن المطاردة في الرزق والتشريد والنفي من الأوطان. وهناك صراع تاريخي بين الصحافيين من ناحية والحكومات وأصحاب النفوذ من الناحية الأخرى، يُعزى في الأساس إلى التناقض الجذري بين مصالح هؤلاء الحكام وبين جوهر مهنة الصحافة التي تستهدف تقصي وفضح أشكال وصور الفساد وسوء الإدارة والظلم الاجتماعي كافة، مما يصطدم غالباً مع مصالح القائمين على السلطة، سواء كانت اجتماعية أو دينية أو اقتصادية أو سياسية في مختلف المجتمعات والعصور. وتجمع الدراسات الإعلامية على تحديد الحقوق المهنية للصحافيين على النحو التالي: 1- حق تلقي الأنباء والمعلومات والآراء. 2- حرية الوصول إلى مصادر المعلومات. 3- حق نشر وتبليغ الأنباء والمعلومات والآراء. 4- حرية الحركة والتنقل. 5- المحافظة على سر المهنة. وتنص القوانين والتشريعات الصحافية في مختلف انحاء العالم المتقدم والنامي، على أن السرية المهنية هي حق والتزام في الوقت ذاته، كما تنص على إلزام الصحافي بالامتناع عن نشر معلومات زائفة، أو غير موثقة أو ذات طابع دعائي، كذلك تنص على حظر نشر أنباء عن جلسات المحاكم السرية والمعلومات التي تتعلق بالأمن القومي. وفي حين تسعى هذه القوانين الى تكريس تلك المسؤوليات بالنسبة إلى الصحافيين فإنها تنص في الوقت ذاته على عدم إعاقة الصحافي عن ممارسة المهنة باللجوء إلى أي ضغط أو ترويع يهدف إلى تقديم معلومات محرفة أو مغرضة، وتنص على ضرورة الالتزام بشرط الضمير عند التعاقد بين الصحافي والمؤسسات الصحافية ومراعاة تعويضه عن ترك الخدمة على أساس التمسك بمعتقداته الفكرية، والاخلاقية. وعلى رغم كل هذه النصوص القانونية المنظمة لحقوق الصحافيين وواجباتهم وعلى رغم تصاعد نبرة الخطاب السياسي العربي في تأكيد هذه الحقوق والحريات وكفالة ممارستها، غير أن الواقع يعكس صورة مخالفة إذ يشهد العديد من دول العالم، وفي قلبها العالم العربي، سلسلة من الممارسات المنافية لحرية الرأي والتعبير والنشر والإبداع والحق في تداول المعلومات، الدولية، وجميعها تؤكد تزايد أعداد الصحافيين الذين يتعرضون للإعتداءات الأمنية والمطاردات والاحتجاز في مخافر الشرطة والسجون لفترات تراوح ما بين 48 ساعة وسبعة أشهر، وتعرض العديد منهم للضرب والتعذيب. وتشير لجنة حماية الصحافيين التي تأسست العام 1980 في الولاياتالمتحدة الاميركية لكشف وفضح الانتهاكات التي يتعرض لها الصحافيون في مختلف أنحاء العالم الى وجود ما يزيد على ثلاثة آلاف حالة من الانتهاكات ضد الصحافة والصحافيين خلال حقبة التسعينات. وركزت اللجنة في تقريرها على بعض الحالات شديدة الفجاجة مثل السودان، حيث يوجد أكثر من ثلاثين صحافياً معتقلاً، وكولومبيا التي شهدت مقتل العشرات من الصحافيين بأيدي مافيا المخدرات. وتعد الصحافة مهنة المخاطر الحقيقية في معظم دول اميركا اللاتينية، حيث يواجه الصحافيون الخطر الثلاثي الذي تشكله الحكومات وتجار المخدرات والعصابات. أما في آسيا فإن احداث العنف العرقي تحمل الموت يومياً لعشرات الصحافيين خصوصاً في الهند وباكستان والفيليبين وأندونيسيا. وهناك سجل حافل يحوي العديد من الامثلة في لبنان وافغانستان والجزائر والعراق والكويت وبنما ونيكاراغوا والسلفادور وجنوب افريقيا وفلسطين المحتلة. وتسبب هذه الضغوط التي يتعرض لها الصحافيون بصورة دائمة الوفاة الفجائية لعدد كبير منهم نتيجة الأمراض التي تنتشر بينهم مثل أمراض القلب والاضطرابات العصبية، وذلك طبقاً لما ورد في المسوح الطبية والاجتماعية التي قامت بإجرائها اللجنة الاجتماعية لمنظمة الصحافيين العالمية. هذا عن الضغوط والمخاطر والامراض التي يواجهها الصحافيون أثناء ممارستهم للمهنة. أما الإغراءات فإنها تتخذ صوراً شتى لعل أشدها وضوحاً وشيوعاً أشكال المحاباة والامتيازات المادية والحياتية التي تقدمها الحكومات ودوائر المال والاقتصاد، لاجتذاب العديد من الصحافيين كي يكونوا أبواقاً لها. ولكن أشد هذه الإغراءات خطراً يتمثل في الإعلانات التي لعبت دوراً تاريخياً في ترويج المقولة الغربية الخاصة بحرية الصحافة. وتصاعدت سطوة الإعلانات في السنوات الاخيرة خصوصاً في ظل المحاولات الدؤوبة من جانب الحكومات وشبكات المصالح الدولية والمحلية لتحويل العالم الى سوق عالمية مشتركة تسودها القيم الاستهلاكية وتحكمها قوانين العرض والطلب ويتحول المواطن في إطارها الى كائن استهلاكي عالمي. وتخصص الشركات العملاقة المتعددة الجنسية موازنات ضخمة للإعلانات تفوق تلك التي تخصصها الحكومات الوطنية للتعليم والصحة. فالبرازيل مثلاً تبلغ موازنة الإعلانات فيها اكثر من ثلثي الموازنة المخصصة للتعليم. وهناك أكثر من وكالة دولية للإعلان منها 30 وكالة اميركية لها آلاف الفروع والتوكيلات في مختلف انحاء العالم تحاصر الصحافة والصحافيين بأطواق حريرية شديدة النعومة وتلعب دوراً خطيراً في إفساد الصحافيين وتحويلهم إلى أبواق لشركات الإعلان بتسخير المادة الصحافية لخدمة الأهداف التجارية لهذه الشركات، علاوة على ما تساهم به الرسائل الإعلانية في خلق انماط استهلاكية معادية لخطط التنمية الوطنية في الدول الفقيرة. وترجع أول مبادرة تستهدف خلق نوع من الحماية للصحافيين الى أكثر من نصف قرن، وقد جاءت من الاتحادات المهنية. هذا علاوة على الاتفاقات العديدة التي أبرمت لضمان حماية حقوق الصحافيين في السلم والحرب، ولعل أبرزها الاتفاقية التي اعدتها الأممالمتحدة الخاصة بحماية الصحافيين الذين يضطلعون بمهام خطرة والتي لا تزال مشروعاً منذ العام 1951، كما يتضمن البروتوكول الاضافي لاتفاقات جنيف آب - اغسطس 1949 مادة خاصة بحماية الصحافيين. كذلك تنص المادة الثانية في الإعلان الخاص بالإعلام الذي اصدرته اليونيسكو العام 1978 على ضرورة تمتع الصحافيين وغيرهم من العاملين في وسائل الإعلام الذين يمارسون أنشطتهم في بلادهم وخارجها بحماية تكفل لهم أفضل الظروف لممارسة مهنتهم. وعقدت لجنة "ماكبرايد" ندوتين خلال عامي 1978 ستوكهولم و1979 باريس لمناقشة هذه القضية، كما لا تكف لجنة المادة 19 في لندن ومنظمة العفو الدولية ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والعالمية عن إصدار التوصيات التي تنص على ضرورة حماية مهنة الصحافة من خلال ضمان حقوق وحريات الصحافيين في فترات السلم والحرب. وإلى جانب كل هذه الجهود الدولية تقع المسؤولية الأولى للتصدي للانتهاكات التي تتعرض لها مهنة الصحافة وممارسيها على عاتق التنظيمات المهنية للصحافيين والتي تتمثل في النقابات والروابط والاتحادات الصحافية باعتبارها أقدر الهيئات وأكثرها التزاماً في الدفاع عن حقوق الصحافيين والحفاظ على كرامة المهنة وحمايتها من الضغوط والإغراءات معاً، فهل نستطيع أن نقوم بهذا الدور بعيداً عن تدخلات الحكومات؟ هنا تكمن الأزمة. * أستاذة الصحافة في كلية الإعلام - جامعة القاهرة.