يرافق الزائر لدول ومجتمعات تعرضت لأحداث عنف وإرهاب مروعة فضول يتجاوز في معناه تلك الرغبة في رؤية بصرية لموقع الأفعال ولضحاياها، لينحو أكثر باتجاه إدراك معنى مرور الزمن على بنية هذه المجتمعات وعلى علاقتها بمحيطها بعدما تعرضت لهزّات قاسية. ففي المجتمعات المأزومة بفقرها وعنفها، كالجزائر مثلاً، وتحديداً كقرية بن طلحة التي شهدت أعنف المجازر منذ بدء الأزمة الجزائرية، يمكن بسهولة الشعور أن الأيام والأشهر بل وحتى السنوات لم تتمكن سوى أن تزيد من عزلة أهلها وانكفائهم إلى دواخلهم، خصوصاً أن الإحاطة بهم كضحايا ورعايتهم من قبل الدولة والمؤسسات وحتى الأهل والأقارب تضعف وتتلاشى مع مرور كلّ يوم. ولعل مقاربة العنف الذي عصف بتلك المجتمعات الصغيرة الهامشية بعنف آخر لا يقل ضراوة أصاب مجتمعات غربية حديثة قد يبدو أمراً غير منطقي، لكنه ليس خطأً بالضرورة. فما أصاب مدناً حديثة من ترويع له وقع آخر وانعكاس مختلف من دون أن يعني ذلك التقليل من الدراما الانسانية الخالصة التي تنطبع في وجدانات من عاش ونجا من تلك الأحداث أينما كانت. في نيويورك، وعقب أشهر على الهجمات الانتحارية تبدو المدينة العملاقة وكأنها في سباق محموم لإعادة إحياء ما تمكن الانتحاريون من النيل منه وتأكيد أن المدينة وأبناءها أقوى مما حدث. ويبدو أن لعلاقة نيويورك بأهلها بل ربما وبالعالم أبعاداً أكثر تعقيداً واختلافاً وتناقضاً من تلك التي يقيمها أبناء القرى والمدن الأخرى في العالم مع قراهم ومدنهم وهذا ما يجعل مصاب هذه المدينة مصاباً عاماً أما مصاب قرية بن طلحة ومثيلاتها فيبقى حصراً فيها من دون أن يطول حتى العاصمة الجزائرية التي لا تبعد عنها سوى بضعة كيلومترات. "لقد أحببت كثيراً مركز التجارة العالمي، فحين انتقلت للعيش في منزلي هذا لاحظت أنه مع المغيب كانت الشمس عندما تكسّر أشعتها على زجاج المبنيين تعكس ألواناً مختلفة بحيث تبدو كما لو أن عموداً من الضوء انكسر. وكان هذا الأمر في غاية الروعة بالنسبة إلي". تتذكر نانسي وولف كم كان يأسرها، حين تقف على الشرفة الخلفية لمنزلها، مشهد المباني الشاهقة التي كان أعلاها توأما مركز التجارة العالمي في حي "لور مانهاتن" المحاذي لموقع البرجين ، فالغرفة الملاصقة لهذه الشرفة هي محترفها الخاص حيث ترسم لوحاتها وحيث تتناثر رسومات وقصاصات وكتب تتناول المدن الحديثة والعمران فيها. وحين تتحدث نانسي عن البرجين اللذين عاشت بمحاذاتهما هي وزوجها لأكثر من خمسة وعشرين عاماً تبدو في غاية الحماسة بحيث لا تفارق الابتسامة شفتيها حتى حين تتذكر حال الصدمة والذهول الذي عاشته عقب انهيارهما فهي تتحدث مبتسمة لكنها تلك الابتسامة التي قد تعكس طيبة وهدوءاً بقدر ما تعكس حزناً وتجربةً ملازمين لتلك الخطوط العميقة في وجهها. لم تكن نانسي في نيويورك لحظة وقوع الهجمات على البرجين لكنها عادت عقب يومين فقط، "أعتقد بأنني بدأت أفكر في الأمر وأنا أعبر جسر بروكلين باتجاه مانهاتن فما أن فتحت زجاج نافذة السيارة حتى أمكننا شمّ الروائح فالمدينة كانت عابقة كلها برائحة الدخان والحرائق... كان الأمر محزناً للغاية، خصوصاً حين مررنا قرب محطة رجال الإطفاء المحاذية لمنزلنا والذين مات منهم كثيرون خلال عمليات الإنقاذ كان مشهداً لا ينسى". لكن نانسي وزوجها استاذ علم الاجتماع تشارلي وولف يحرصان على أن لا يتركا الانفعال والغضب أن يسيطران على مشاعرهما فهما يعتبران أن الحياة عادت إلى طبيعتها بعد أشهر على الهجمات، على رغم أنها ليست الطبيعة التي عرفاها قبلاً وهي لن تكون كذلك أبداً. يقول تشارلي: "ما أدركناه اليوم هو أننا لسنا بأمان وأن العالم ليس آمناً فنحن في أميركا تعاملنا في السابق مع أمننا على أنه ضمانة قائمة بحدّ ذاتها وتمتعنا بمزايا هذا الأمن من دون قلق كاف من الظروف التي خلقت هذه المجزرة فقد تمتع الأميركيون برفاهية أن يكونوا كثيري التطلع نحو الداخل وكثيري الانشغال بشؤونهم، اما الآن فنحن لم نعد كذلك وأعتقد بأن هذا أحد أهم التغيرات التي حدثت لنا". إنها فجوة في القلب. هكذا يصف النيويوركيون مشهد منطقة لور مانهاتن بعد غياب البرجين. وتقول جوديث ميللر الكاتبة في صحيفة "نيويورك تايمز": "في دول مثل دول الشرق الأوسط قد يبدو صعباً فهم أن لدى الأميركيين شعوراً بعدم التعرض للخطر واحساساً حقيقياً بالأمن في الوطن، وأعتقد الآن بأن هذا انتهى بالنسبة إلينا. إننا نواصل التفكير بهذا الحدث كل يوم. وكيف لا نفعل ونحن ننظر إلى تلك المساحة الخالية من مدينتنا. إنها حقاً فجوة في القلب". التفاحة الكبيرة لكن الفجوة هذه هي اليوم العلامة المرئية الوحيدة ربما على أن شيئاً جللاً أصاب نيويورك. فالمدينة تشهد منذ مرحلة ما بعد الهجمات حملة تسويق هائلة ومستمرة والجهود التي بذلت لإعادة الحياة إلى طبيعتها تبدو مبالغ بها أحياناً ف"التفاحة الكبيرة" تعيش صخبها وحيويتها كما كانت قبل الهجمات بل ربما يمارس أهلها ذلك بعناد أكبر من السابق بغية إشعار الزائر وربما إشعار أنفسهم قبلاً أن المدينة تجاوزت صدمتها. والتجول في شوارع ساحة التايمز والجادة الخامسة لا يبدو مختلفاً اليوم سوى لجهة كثرة الأعلام والشعارات التي تدلل على الارتباط بالوطن والوحدة وفق المفهوم الأميركي لها، وحدها "المنطقة صفر" تبدو مختلفة. تم تطويق محيط الموقع وبعد الانتهاء من جرفه الذي استمر ثمانية أشهر لا يزال أهالي الضحايا يأتون يومياً للوقوف على ما بات بالنسبة إلى كثيرين منهم مقبرة أبنائهم، فثلثا الضحايا الثلاثة آلاف لم يتم العثور على أشلائهم. ويبدي أهالي المدينة حساسية مع ذوي الضحايا الذين يقفون في منصة مخصصة لهم للنظر إلى حيث هوت أجساد أحبائهم وبعضهم يهيم من دون وجهة أحياناً يبحث عبثاً عن أثر أو دلالة ما. في المنطقة صفر وحدها يبدو النيويوركيون أسرى ذلك العجز المطلق عن استيعاب ما حدث، وهناك فقط يشعر الزائر بأن المخيلة لن تبرأ من صور تلك الأجساد الهاوية في الفراغ. ستيفن بوش يأتي من حين إلى آخر إلى المنطقة صفر مع بعض أهالي ضحايا الهجمات، وستيفن نفسه فقد زوجته في الطائرة التي اصطدمت بمبنى البنتاغون في واشنطن. في صباح الحادي عشر من أيلول سبتمبر تبادلا التحية قبل أن تتوجه الزوجة إلى رحلتها وتواعدا على العشاء كعادتهما حين تعود. وعرف ستيفن بنبأ الاصطدام عبر التليفزيون، لكنه بقي يأمل أن تكون زوجته لا زالت على قيد الحياة، لكنها لم تكن. ويعيش ستيفن اليوم وحيداً مع كلبه بعد رحيل زوجته فهو استقال من عمله كمحام على رغم أنه لم يتجاوز الخمسين وتفرغ للعمل في جمعيات عائلات ضحايا 11 سبتمبر التي تسعى للاهتمام بذوي الضحايا والعمل على خفض مخاطر الهجمات الإرهابية المستقبلية من خلال إجراءات أمنية أكبر، كما أن عدداً من هذه الجمعيات بدأ برفع دعاوى ضد المتسببين بالهجمات والجهات التي تقف خلفها. ويقول ستيفن: "في اليوم الأول من الهجمات شعرت أن لا سبب لدي لأعيش، وأعتقد بأن ما دفعني للنهوض مرة ثانية والاستمرار هو شعوري أنني لن أسمح للإرهابيين بأن يدمروا حياتين، زوجتي أولا ًوأنا ثانياً. حالياً لدي هدف هو الاهتمام بذوي الضحايا والعمل على تقليل مخاطر الهجمات الإرهابية". يرفض ستيفن فكرة العودة إلى عمله ويشعر أنه يتماثل أكثر في عزلته هذه مع أولئك الذين فقدوا عزيزاً خلال الهجمات فمعهم يشعر أن لاحاجة ليوضح كيف يشعر لأن هؤلاء يبادلونه الأحاسيس نفسها على رغم التعاطف الذي يبديه الآخرون. ولا يخفي ستيفن قلقه الأولي من العرب حيث ثبت أن منفذي الهجمات هم منهم. "في البداية كنت أشعر بالقلق وعدم الراحة حين كنت أرى أناساً يبدو عليهم أنهم مهاجرون من الشرق الأوسط. كان هذا ردّ فعل انفعالياً وعاطفياً وأدركت لاحقاً أن احتمال أن يكون أحد هؤلاء متورطاً بالإرهاب ليس باحتمال أكبر من أي أحد آخر في الشارع". من يتجول في شوارع نيويورك لن يجد الوجوه نفسها التي قد يراها في ولايات أميركية أخرى بل ربما لن يسمع اللغة نفسها التي اعتاد عليها في مدينة أميركية أخرى، فهنا يطغى ذلك الخليط الكبير في الأعراق والجنسيات الذي اشتهرت به أحياء المدينة وشوارعها وأحياناً بالكاد يسمع المرء اللغة الانكليزية، فاللغات التي تخترق الأذن خلال السير تجمع ثقافات من مشارق الأرض ومغاربها وليست الأحياء الشهيرة مثل الحي الصينيوحي "ايطاليا المصغرة" سوى نماذج لتجمعات باتت في صلب نسيج المدينة العملاقة. وحين ترى العلم الأميركي منتصباً فوق الكثير من الأعمدة والبنايات تشعر أنه هو ما يجمع هذه الاختلافات، أو هذا على الأقل ما يحاول واضعوه الإيحاء به، إنه تأكيد على هوية أميركية قد تحميهم اجتماعياً من شبهة ما قد تطول ماضيهم وربما حمية أميركية جديدة برزت عقب هجمات سبتمبر. مزيج اعراق وترى نانسي أنها باتت عقب الهجمات تدافع عن مفاهيم كثيرة في الحياة الأميركية، لكنها ترفض أن تكون جزءاً من تيار الوطنية الضارب في الأميركيين اليوم، "لم تؤثر في الوطنية بهذه الطريقة وهي ليست طريقتي في التفكير فأنا لا أفكر كثيراً بمفهوم بلد واحد بل أجد نفسي مرتبطة بأماكن كثيرة ومعظم أصدقائي هم من دول أخرى يقيمون هنا في نيويورك وهذا ما أحبه في هذه المدينة. أنا أعرف أصدقاء من الهند واوروبا الشرقية وبوروندي ونيجيريا وهذا ما هو عظيم في هذه المدينة وما أحبه فيها". هذا المزيج الهائل من الأعراق والجنسيات هو ما جذب نانسي وزوجها تشارلي للانتقال إلى نيويورك وهو ما يعتقدان بأنه حماهما من نزعات وطنية متطرفة ينزع إليها اليوم كثير من الأميركيين. بالنسبة إلى تشارلي فإن نيويورك مدينة عالمية وهذا ما استهدف بالضبط في الهجمات الانتحارية ، "إنها مدينة عالمية. نحن العالم. نحن مدينة دولية وننتمي إلى العالم وأناسنا هم كل الناس، وبهذا المعنى لعبت نيويورك دوراً في أن تكون عاصمة العالم ليس لأنها مدينة اتصالات ومال ولكن لأننا بطريقة ما نمثل الانسانية. في مركز التجارة العالمي قتل أناس من ثمانين بلداً وهذا لا يحمل معنى رمزياً فقط ، إنه أمر نلمسه في نيويورك بشكل شخصي فقد كان هذا الأمر رمزاً للعالم وليس فقط لنا". بالنسبة إلى كثيرين ممن اختاروا العيش في نيويورك فإن انحيازهم بعد سبتمبر هو للمدينة وليس لأميركا ككل وكأن نيويورك خلقت جنسية ووحدة خاصة بها ميزتها عن باقي المدن الأميركية وربما بحسب رأي بعضهم عن العالم. آن مهندسة فرنسية وصديقها ديفيد موسيقي انكليزي يعيشان معاً في نيويورك منذ عشرين عاماً، ولم تدفعهما الهجمات إلى خيار الرحيل عن المدينة التي يؤكدان الانتماء إليها. تقول آن: "طبعاً نشعر أننا نيويوركيون، فحين ترين البرجين قد ذهبا فإن جزءاً منك قد رحل، وإذا عشت عشرين عاما في نيويورك فأنت جزء منها وهي مدينتك ومكانك. أعتقد بأن الناس يتماثلون مع نيويورك اكثر وهم إذا لم يكونوا قد فعلوا ذلك قبلاً فهم بالتأكيد وبعد 11 سبتمبر شعروا أن المدينة أصبحت وحدة وهذا مذهل حقاً". وآن التي تبدو مرتاحة في عيشها وتنقلها في المدينة لم تنل منها هواجس الخوف والحذر من الغرباء أو بعض الأجانب، "نحن من مكان آخر، لذا لا أعتقد بأنني شخصياً أنظر إلى أحد بارتياب لأن الجميع هنا هو من مكان آخر لكنه مكان هنا في نيويورك. أعتقد بأنني بت أكثر وعياً أن الأمور السيئة يمكن أن تحدث هنا وقبلاً كان يغلبني الشعور أنني محمية وهذا فقط ما تغير في شعوري". ماذا بعد البرجين احترفت نانسي الرسم منذ خمسة وعشرين عاماً أي منذ انتقالها للعيش في مانهاتن ورسمت خلال تلك السنوات لوحات وأقامت معارض عبّرت خلالها عن نظرتها الخاصة إلى المدن فحاولت أن تعكس عدم انسانية العمارة المعاصرة، وكانت ناطحات السحاب ومحيطها في صلب رسوماتها، فهي غالباً ما ركزت على مشاعر الوحدة والارتباك اللذين يعيشهما أولئك العاملون والمقيمون في أبنية عالية فحاولت من خلال رسومها أن تجعل المعماريين يرون ما يعنيه العيش في الأبنية الشاهقة التي صمموها. "كان معظم عملي نوعاً من الانتقاد الاجتماعي بحيث تناولت عدم انسانية العمارة الحديثة ومدى البرودة فيها وجمود هذه المباني الاسمنتية وهو ما لا يسمح بتفاعل انساني، لذا فقد كان عملي مبنياً على أفكار متشائمة عن شكل المدن الحديثة وتفاعل الناس معها". أمضت نانسي الأشهر الأولى التي أعقبت الهجمات في رسم لوحة تعكس فيها رؤيتها لموقعة مركز التجارة العالمي، فبدت لوحتها تلك الصورة الشهيرة للمبنى المتهالك وسط الرماد، لكن نانسي أضافت من خلال خطوطها الخاصة صور أناس يتهاوون وهياكل عظمية مبعثرة وشياطين متناثرة. وتروي نانسي أنها باشرت رسم الجزء العلوي من اللوحة، أي السماء، وكانت في حال جيدة حينها لكن ما أن وصلت إلى مرحلة رسم الهياكل العظمية أو الضحايا حتى بدأ يتغير الأمر بالنسبة إليها ليصبح الرسم حالة غاية في الصعوبة. والشياطين التي رسمتها نانسي في لوحتها تعبير يختصر نظرة كثيرين من الأميركيين الذين تمثل الحدث بالنسبة إليهم بفعلة شيطان، ولم يتوان بعضهم، صراحة، عن ربط ذلك العمل "الشيطاني" بالعرب والمسلمين كمجموعات، لكن نانسي رأت في هذه "الشياطين" بعداً آخر: "أعتقد بأنني من خلال الشياطين هذه إنما عنيت سوء الفهم، فأنا حقاً لا أنظر بالضرورة إلى مجموعة أو حركة معينة لأقول إنهم هم من فعلوا بنا هذا الأمر المريع. أنا أرى الأمر كنوع من سوء الفهم وأعتقد بأننا في أميركا نمثل أموراً ما ولدينا الكثير مما نملكه ونعيشه بشكل محسوس، وفي المقابل هناك الكثير من الغضب والاحباط تجاه ذلك وهذا ما ولّد سوء الفهم وهذا ما يجعلني حزينة ومحبطة". كانت إقامة نانسي في مبنى مجاور لمركز التجارة العالمي أمراً مألوفاً يمارسه العديد من الفنانين والرسامين والنحاتين الذين سكنوا في مناطق "سوهو" و"تريبيكا" الشهيرة والقريبة من موقع البرجين التوأمين. وبالنسبة إلى هؤلاء الفنانين لطالما أثار مبنيا مركز التجارة الكثير من الجدل حول قيمتهما المعمارية والمادية، فهما باتا جزءاً من شكل المدينة وتمركز حولهما الكثير من الأعمال الفنية. وكما شكل البرجان محور العديد من الأعمال فإن غيابهما كذلك كان له الأثر نفسه، فمنذ انهيار البرجين أقيمت معارض كثيرة تعكس ما كانه البرجان مثلما عرضت استيحاءات عن غيابهما. وتقول جيل وهي واحدة من الفنانين الذين تأثروا بالبرجين ورسمت الكثير من اللوحات عنهما: "إن العديد من الفنانين عاشوا على مقربة من البرجين وانعكس البرجان بطريقة أو بأخرى في أعمالهم وكذلك في العديد من الأعمال الفنية، ويتساوى بذلك من كان مفتوناً بهذين البرجين أم لا". ومما أنتجته جيل إلى جانب لوحاتها منحوتةً للبرجين تمثلهما محاطين بأخطبوط وكان ذلك طبعاً قبل سبتمبر الماضي، وتبرر جيل ذلك بأن البرجين مثّلا للعديد من الناس معاني بشعة كالجشع والاقتصاد المتضخم ونظام مالي يطوقهما كأخطبوط، وهذا ما كان يهيمن على أميركا، أما اليوم وبعد انهيار مركز التجارة العالمي فتغيرت الانطباعات، "لقد تغيّر الموقف الآن ، فبعد المأساة فإن العديد ممن كان لهم موقف سلبي حيال ما يرمز إليه البرجان بل وحتى العديد ممن قالوا إنهما بشعان إلا أن هناك اليوم من يقول، إنهما بشعان، ولطالما رأيناهما كذلك لكننا نفتقدهما الآن. لقد خلق البرجان حضوراً بصرياً للجزء السفلي من منطقة مانهاتن أما الآن فإن هذه الديناميكية رحلت". ما أن انقشع رماد انهيار المبنيين حتى انطلق النقاش حول ما يمكن أن يتم بناؤه، إذ يعدّ التفكير في شكل المنطقة ومستقبلها جزءاً من مسيرة شفاء المدينة وعلاجها. وأثار هذا النقاش الكثير من الآراء، ومعها انتشرت المعارض التي حاولت خلق تصورات لما ستكونه المنطقة مستقبلاً، وشهدت مثل هذه المعارض اقبالاً كبيراً من النيويوركيين الذين بدوا خائفين من الفراغ الذي خلفه غياب المبنيين وكيف سيتم ملؤه. ويقول ستيوارت أحد منظمي مثل هذه المعارض: "يبدو الناس حين يأتون إلى مثل هذه المعارض متعطشين لرؤية أي شيء، فهناك تجاوب عاطفي وحاجة لإشباع المخيلة بصور أخرى مختلفة عن تلك التي رأوها يوم 11 أيلول سبتمبر". في إطار النقاشات الدائرة حول علاقة المدن بالتاريخ هناك من يتحدث عن قدرة المدن الكبرى على خلق نفسها بعد الاعتداء عليها ويريد هؤلاء أن تقود مدينة نيويورك هذا الأمر. يقول تشارلي: "كنا دائماً نرى نيويورك بوصفها مدينة تحديث وبوصفها مدينة غير واعية، أما اليوم فأعتقد أنها عادت إلى وعيها. منذ 11 أيلول وأنا أفكر بأثر ما حدث علينا جميعاً وما زلت أفكر وسأبقى أفكر، فما جرى يعدّ تغييراً ليس لنا فقط بل للعالم. إنه يتلازم مع روح المكان وطبيعته، ومفاده أن نيويورك مدينة معولمة ولطالما كانت كذلك منذ أن أصبحت مدينة. إن جوهر مدينة نيويورك هو التغيير فنيويورك هي مدينة الناجين... كلنا هنا في نيويورك ناجون"