طريقي على الدراجة في نيويورك يمتد خمسة أميال، ويتابع حدود منطقة مانهاتن، ماراً بالحديقة الكبرى ومماشيها المتداعية وتلك الغابة من دعامات الفولاذ تحت معبر "أف دي آر"، والمبنى القديم لحرس السواحل قرب ملتقى نهري ايست ريفر وهادسون. المناظر هناك تبدو وكأنها من بطاقة سياحية. لكن ينتابني دوما عندما أصل الى عبّارة ستاتن آيلاند في نهاية الجزيرة شعور غامض بأن شيئا ما قد غاب - عندما تنجذب النظرة في باتري بارك تلقائيا الى الغرب، عبر بحر من المرايا، نحو تمثال الحرية وجزيرة ايليس. تقول صديقة كان ترى البرجين كل يوم بأن موقعهما الخالي يصيبها ب"نوبة دوار"، وتضيف أن البعض، بعد الكارثة، "استسلم لرؤى قيامية، وان بعضا آخر قرر الزواج فورا فيما قرر آخرون الطلاق". هذا هو حال الكثيرين من السكان منذ 11 أيلول سبتمبر الماضي بعد انهيار البرجين اللذين كانا يسيطران على مشهد المدينة وخلّف زوالهما شرخا لا يندمل في الوعي. الدراجات تنساب بسهولة وحرية حتى في أشد الزحام. واصدقائي "فرسان" لا يعرفون الخوف - مثلي عندما كنت أسكن وسط المدينة. الدراجة المفضلة هي "شوينز"، وهي نسائية لكن يفضلها الرجال أيضا، أو الدراجات الثقيلة مثل النوع المستعمل لتوصيل الوجبات الصينية الى الزبائن، وكلها تكر وتفر وسط زحام المرور، قافزة على الأرصفة ومنطلقة عكس السير في الشوارع ذات الاتجاه الواحد. في محاذاة الطرف الغربي من مانهاتن يصبح درب الدراجات شبكة تمر بين الحدائق المترفة والأرصفة المعبدة. وهنا يلاحظ الراكب فورا عودة اليخوت الفخمة التي غادرت مرافئها بأسرع ما تستطيع عندما انهار البرجان، كما يرى حطام سقف القاعة الكبرى في حديقة الشتاء. ثم نتوقف قرب طرف شارعي فيستري ووست عند مدخل "الموقع صفر" مقابل بائعي التذكارات الرخيصة ورصيف المشاهدين الذي لم يعد قيد الاستعمال. ونرى تحتنا مباشرة مساحة الدمار الهائل في تناقضها الصارخ مع مباني وول ستريت المتشابكة التي تشق السحاب. وكانت السلطات أعلنت رسميا في 30 أيار مايو الماضي، أي بعد نحو تسعة شهور على الكارثة، الانتهاء من عملية البحث عن الجثث وازالة الركام. وشكلت العملية انجازا هندسيا قل مثيله. فقد تكوّن كل من البرجين من 110 طابق، وانهار كل منهما خلال عشر ثوان ليخلفا 150 مليون طن من الركام. وقالت الشائعات إن الاحذية المطاط التي استعلمها عناصر الانقاذ كانت تذوب خلال ساعات قليلة بفعل حرارة الموقع. وبدوره قال هيو ماكي، وهو صاحب عمل وأب لطفلين: "ما يجب ان ندركه هو أن نحو ثلاثة آلاف شخص قتلوا، وهذا يعني اصابة ثلاثة الاف عائلة نيويوركية، اضافة الى الأصدقاء والمعارف لكل من القتلى". وأجرت "المجلة الأميركية للوبائيات" فحوصاً طالت عيّنة من سكان المدينة، ووجدت لديهم ارتفاعا يقارب الثلث 28.8 في المئة في استهلاك الكحول والسجائر والحشيشة. وقالت لي أختي مارني التي تسكن في وسط المدينة: "كان مدى الصدمة يُرى خصوصا في قطارات المترو". ولا تزال تتذكر الى اليوم أن "الكل بدوا وكأنهم خرجوا لتوّهم من مأتم، وعاملوا بعضهم بعضا بكل ما امكن من اللطف". المترو نفسه لا يزال يعاني. ويمكن القول ان قطار برودواي المحلي رقم 1 مصاب بالشيزوفرينيا، بعدما كانت مواعيده موثوقة من قبل. فهو أحيانا يسير على الخط السريع الذي لا يتوقف في المحطات المحلية، فيما يسير قطار الخط السريع رقم 2 احيانا على الخط المحلي متوقفا عند كل المحطات. انه مؤشر واضح على اهتزاز أعصاب المدينة. ويقول مدير جائزة بوليتزر في جامعة كولومبيا باد كليمنت، مختارا كلماته بعناية: "التوتر لا يبعد كثيرا عن السطح. في السابق كنت لا الاحظ الطائرات تحلق فوقنا. لكنني الاحظها الآن، وكذلك صفارات سيارات الشرطة والاسعاف. لا أشعر بالعصبية أو الاضطراب، لكن الاحظ هذه الأشياء". أحيانا تنقلب اللامبالاة فجأة الى رعب. مثلا، في 20 تموز يوليو أكملت المغنية وكاتبة الأغاني الأميركية الأفريقية فيليس روسر تسوّقها لحاجيات البيت من متجر في الجانب الشرقي، ووقفت برهة أمام المدخل مع أكياسها. هناك سمعت انفجارا مدوّيا وصفيرا غريبا تبعته سحب من الدخان الأسود تدفقت من محطة كونسوليديتد ايدسون للطاقة على أفنيو دي. وسارعت الى شقتها حيث أخذت ابنها سيث الذي يبلغ عشر سنوات وتركا المكان فورا. وفي الطريق اتصلت بأمها في ديترويت وقالت انها لا تعرف ما حصل لكنها تغادر مع ابنها بأسرع ما يمكن. وفي لحظاتٍ، حلقت المقاتلات في سماء المدينة فيما تعالت في ارجائها صافرات سيارات الانقاذ، وبدا ان المدينة تشهد هجمات 9/11 من جديد. واكد سكان المنطقة ان ما لا يقل عن 150 مخبرا من "أف بي آي" أرسلوا فورا الى مكان الحادث. ثم علمت روسر ان ما حصل كان انفجار واحد من المحولات في المحطة. وأكد عمدة نيويورك مايكل بلومبرغ مرارا وتكرارا: "انه ليس هجوما ارهابيا". قالت روسر عن ابنها سيث: "انه يفكر دوما بالارهاب"، وانه يكرر السؤال عن أشياء مثل مشارط فتح الصناديق التي استخدمها المهاجمون في 9/11. لكن القلق لا يقتصر على الأطفال. وفي احدى الأمسيات اتصل والد سيث ليقول انه سيتأخر في العودة مساء. السبب كان أن رجلا قفز من جسر جورج واشنطن تاركا وراءه حقيبة. وتم استدعاء خبراء المتفجرات وتوقف السير في كل المنطقة. المفارقة ان كل هذا لم يؤثر على سوق العقارات في مانهاتن. وجاء في تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" أن غالبية الشقق المطلة على موقع مركز التجارة العالمي مؤجرة أو مباعة. والحال ان النقطة الرئيسية في النظام العالمي الجديد ليست نفوذ أميركا بل عجزها، على ما يدل النظر الى جوانب كثيرة. وكان من بين المتغيرات منذ 9/11 موقف الرأي العام من شرطة المدينة بما عُرف عنها من وحشية. وكانت القضية الأبرز الاعتداء البشع على المهاجر الهايتي أبنر لويما الذي قام به أربعة من رجال الشرطة وشمل الاعتداء الجنسي من قبل واحد منهم. لكن العموم ينظر الآن الى الشرطة كأبطال، ولم تعد الصحف تهتم باستمرار الوحشية والفساد في صفوفهم. كانت نيويورك في السابق تقبع على حافة الولاياتالمتحدة، باعتبارها آخر مدينة "أوروبية" في أميركا، بعدما انتشرت في كل مكان المدن البيوريتانية الجديدة بسطحيتها ولا تاريخيتها. ولم تُبد بقية اميركا الكثير من الاعجاب بالنيويوركيين، واصفة اياهم عادة بالنزق والعدوانية والعجلة. لكن كل هذا تغير بعد 9/11. ذلك أن المشاهد المأسوية وقتها وضعت المدينة موضع الضحية وبينت انكشافها أمام الاعتداء. واذا كان هناك قتلى في اماكن اخرى ذلك اليوم في واشنطن وبنسلفانيا فان الحدث كان نيويوركيا بامتياز في نظر العموم. وعبرت مندوبة "الجمعية الأميركية للموسيقيين والكتّاب والناشرين" مارغريت سبوديغ عن قدر من الضيق من الوضع الجديد بالقول: "كلما سافرت يصر الناس هناك على السؤال عن تلك المأساة. الا يمكننا الكلام عن شيء آخر؟". انه شعور شائع لدى اسرتي واصدقائي الأقربين. انهم بالتأكيد لا يمثلون نيويورك المال والنفوذ - التي لا يمثلها سوى بعض ناطحات السحاب الحديثة وليس أي من السكان الذين اعرف. فهؤلاء يشكلون مجتمعا خلاقا يثابر على العمل ويؤمن بقيم مشتركة، ويجد نفسه الآن غارقا في هذا الوضع العجائبي، اذ لم يكن 9/11 المستقبل الذي تصوروه لأنفسهم أو للعالم. أثناء وجودي في وسط المدينة أخيرا سمعت بواباً هسبانياً شاباً في وسط المدينة يقول: No tiene corazon - أي "انت بلا قلب!"، وهو ما يعبر عن الوضع الحالي عموما.ً وعلى بعد لا يزيد عن شارعين، في "باتري بارك سيتي"، لا تزال الدراجات تجول حول مبانٍ تذكارية مثل متحف المحرقة والكوخ الذي اقيم تذكارا لضحايا المجاعة في ايرلندا في القرن التاسع عشر. وسيكون هناك ممشى تذكاري في "الموقع صفر"، ولوحة تحمل اسماء الضحايا في تشرتش ستريت، ثم مراسيم الذكرى الأولى. كانت منطقة مانهاتن في الماضي القديم مقبرة لسكان أميركا الأصليين، وها هي تعود اليوم الى مقبرة. * كاتبة أميركية من أصل أردني.