السبت 27 نيسان ابريل الماضي، فاجأ الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون الصحافيين في ماكلين بتكساس بمبادرة لم يكن يتوقعونها: اول تصريحات سياسية له منذ مغادرته البيت الابيض. وكانت هذه تصريحات مثيرة بالفعل. إذ هي اقتصرت على بند واحد: الدعوة الى دعم كولن باول، وزير الخارجية الأميركي، في جهوده السلمية في الشرق الاوسط. قال كلينتون: "أعتقد بأن بعض التغطية إلاعلامية السلبية لجولة كولن باول الاخيرة في الشرق الاوسط كانت خاطئة". واضاف: "مهما طال أمد القتال ومهما سقط من ضحايا، فإنه كي يكون هناك سلام في النهاية يتعين ان يتحقق الامن والعلاقات الطبيعية لاسرائيل، والعدل والفرص الاقتصادية للفلسطينيين. وهذا ما اعتقد ان باول يحاول تحقيقه، وسأبذل قصارى جهدي لدعمه". لماذا قرر كلينتون اقتحام البيت السياسي الاميركي مجدداً عبر قفزه من النافذة "الباولية"؟ الجواب بسيط: لأن هذه هي الطريقة الوحيدة لإطلاق النار على السياسات الخارجية لادارة الرئيس بوش، من دون ان يبدو الامر وكأنه رفض لحرب هذه الاخيرة ضد الارهاب. وهذه مسألة دقيقة هذه الايام في واشنطن، حيث ان الشعب الاميركي لا يزال مشحوناً برغبة الانتقام من الاطراف المنفّذة لهجمات 11 أيلول سبتمبر، وبمواصلة الحرب ضد كل وأي "محور شر" يتحدث عنه سادة البيت الابيض. وهذا يترجم نفسه الآن في الارقام الفلكية التي لا تزال تسجلها شعبية الرئيس بوش في استطلاعات الرأي. وبالتالي، فإن أي إنتقادات مباشرة لبوش، ستسفر، لا محالة، عن مزيد من التفاف الاميركيين حوله، وستدفعهم الى جعل هؤلاء المنتقدين، مع انصارهم، يدفعون الاثمان الفادحة في الانتخابات التشريعية المقبلة أواخر هذا العام. بيد ان الصورة ستكون مغايرة اذا ما وجهت هذه الانتقادات نفسها، بصفتها جزءاً من الجدل الأوسط، أحبط كل العزائم في وزارة الخارجية أكثر من أي وقت مضى منذ وصول بوش الى البيت الابيض. ولم يوّفر هؤلاء المسؤولون بوش نفسه من حملاتهم، إذ انهم اتهموه بالامتناع عن دعم باول خلال جولته، خصوصاً حين تعّلق الامر بحمل ارييل شارون رئيس الوزراء الاسرائيلي على تنفيذ المطالب الاميركية له بالانسحاب من الاراضي الفلسطينية. والأهم من هذا وذاك ان أنصار باول شدّدوا على ان الوزارة لا تزال تواجه العراقيل والالغام، في خضم مساعيها لبلورة مبادرة ديبلوماسية هدفها اقامة دولة فلسطينية. وهم أشاروا على وجه الخصوص الى وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بصفته "قائد الحملة على باول". ومعروف ان وزير الدفاع بات معادلات الشرق الاوسط. الاطراف العربية تشك بان "صقورية" رامسفيلد الحادة، ناجمة عن وقوعها تحت سيطرة ثلاثة من أعتى "صقور" اليهود المتطرفين في وزارته: بول وولفوفيتز، نائب وزير الدفاع، ودوغلاس فيث، مساعد وزير الدفاع، وريتشارد بيرل الذي يوصف عادة بأنه "أمير الظلام" بسبب شدة تطرفه ضد العرب. بيد أن مجلة "ذي ايكونوميست" لها رأي آخر. إذ هي تحدد أسباب إنحياز رامسفيلد الى اسرائيل بالاسباب الآتية: ميل الاميركيين الممّيز لرؤية السياسة الخارجية عبر "مرآة أخلاقية"، بوصفها معركة الخير ضد الشر، أو معركة القيم الغربية ضد "البربرية". الاوروبيون قد يرون الشرق الاوسط بوصفه العديد من الاصوليين المسيحيين، خصوصاً في ولايات "حزام الكتاب المقدس"، مثل ألاباما وميسيسيبي، معادون للسامية، لكنهم يدعمون يهود دولة اسرائيل لأن قيام هذه الاخيرة سيمهّد، برأيهم، لعودة المسيح المنتظر. وأخيراً، وهنا الاهم، الادارة الجمهورية الراهنة، مثلها مثل كل الادارات الجمهورية السابقة، أقل تعاطفاً مع اليهود الذي قال عنهم جيمس بيكر وزير خارجية ادارة بوش الاب مرة: "تباً لهم. انهم لا يصوّتون لنا في أي حال". بيد ان هذه الادارة، أو بعض قطاعاتها على الاقل، تجد ان أهدافها الراهنة في الحرب ضد الارهاب، تتقاطع مع اهداف اسرائيل، خصوصاً في ما يتعلق بضرب البنية التحتية للمنظمات الاسلامية في فلسطين التي يرى الاميركيون في عملياتها الانتحارية، نسخة غير منقحة عن عمليات أسامة بن لادن وبالحرب ضد صدام حسين. وهذا ما يسهّل الان وقوع رامسفيلد، ومعه نائب الرئيس ديك تشيني وغيرهما، تحت تأثير صقور اليهود والجمهوريين الاميركيين المتطرفين. ألعاب بوش مهمة باول السلمية في الشرق الأوسط، اذاً، لم تكن سهلة البتة. وهي تعرضت الى النسف في كل حين على يد القوى المتطرفة في الادارة الاميركية التي تريد مواصلة الحرب الشاملة في أنحاء الشرق الاوسط، من دون إبداء أي اهتمام بتحذيرات وزير الخارجية من خسارة واشنطن لكل او معظم حلفائها العرب والاوروبيين وغيرهم. وثمة انطباع الان لدى المحليين العرب والغربيين على حد سواء، أن الامر الوحيد الذي يبقي مبادرات باول الديبلوماسية على قيد الحياة، هو محاولة الرئيس بوش وعلى رغم ميله الغريزي الى رامسفيلد الوقوف على مسافة معقولة في الصراع بين وزارتي الخارجية والدفاع. ولعبة الموازنة البوشية هذه برزت مرتين حتى الآن: الاولى حين وافق سيد البيت الابيض على التراجع عن سياسة "الايدي المرفوعة" التي كان يمارسها ازاء الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي، من خلال ايفاد باول الرئيس الاميركي على شارون لحمله على قبول "صفقة رام الله" التي يتّعين بموجبها فك الحصار عن الرئيس الفلسطيني. وعلى رغم ان المداولات السرية التي ادت الى هذه الصفقة لا تزال مجهولة، الا ان الارجح ان العامل الرئيس فيها كان التقارير التي رفعها باول عن مخاطر استمرار رفض اسرائيل استقبال لجنة التحقيق الدولية حول ما جرى في رام الله، ليس فقط على سمعة اسرائيل ومصالحها، بل أولاً وأساساً على مواقع ومصالح الولاياتالمتحدة. ويقال هنا ان قضية مخيم جنين كانت ورقة الضغط التي استخدمها بوش على شارون خلال ثلاث محادثات هاتفية معه لحمله على قبول الصفقة. لكن، ومرة أخرى، لا يستبعد ان يتعاون اليمين المتطرف الاميركي والاسرائيلي على نسف هذه التسوية الجديدة، كما فعل في السابق مع مهمة باول. وهذا يمكن ان يتم اما باستغلال حدوث عملية استشهادية جديدة لمواصلة التصعيد، أو باستفزاز الفلسطينيين كما حدث حين واكبت اسرائيل احاديث الانسحاب من رام الله باجتياح مدينة الخليل. أي مصير؟ ماذا يمكن أن يعني كل ذلك بالنسبة الى باول ومستقبله السياسي؟ التاريخ هنا قد يساعد في محاولة الاجابة على هذا السؤال، ولكن بعد قراءته بالمعكوس. ففي العام 1982، تورط ألكسندر هيغ وزير الخارجية الاميركي حينذاك حتى أذنيه مع شارون في غزوه للبنان، وحاول حتى اللحظة الاخيرة تغطية تخطي هذا الاخير للحدود التي وضعتها واشنطن لهذا الغزو 40 كيلومتراً وصولا الى صيدا. بيد أن رأس هيغ تدحرج من وزارة الخارجية، ممهداً الطريق بعد ذلك امام تدحرج رأس شارون من وزارة الدفاع إثر تعثر الاجتياح ووقوع مجازر صبرا وشاتيلا. والآن، ومع بدء تعثر مشروع شارون في الضفة وغزة ووقوع مذابح جنين، يفترض ان يدفع الوزير الاميركي الاكثر دعماً لشارون وهو هنا رامسفيلد الثمن. لكن الامور لا يبدو انها تسير على هذا النحو لسببين: الاول، أن الولاياتالمتحدة لم تكن في العام 1982 متورطة مباشرة في حروب الشرق الاوسط. فيما هي الآن غارقة حتى أذنيها فيها أفغانستان اليوم، وغدا العراق وربما غير العراق. والثاني أن واشنطن، وبسبب الاولوية القصوى التي تضعها لمسألة الحرب ضد الارهاب، تبدو الاشارة الى ان الحلف الجديد "سيكون مسؤولاً عن اقامة نظام اقليمي أمني جديد في الشرق الاوسط". ظروف 2002، اذاً، تختلف بشكل جذري عن معطيات 1982، وهنا يجب ان يُقرأ التاريخ معكوساً. إذ لا يستبعد ان يتدرج رأس باول بدلاً من رامسفيلد، على رغم تعثرات مشروع شارون الراهنة، اذا ما بدا وزير الخارجية وكأنه بدأ يتحّول الى عقبة تكتيكية في وجه المشروع الاستراتيجي الاميركي العام. والحال ان قوى الضغط اليهودية الاميركية والاسرائيلية، بدأت تتحرك بالفعل في هذا الاتجاه. فالكاتب الاسرائيلي في صحيفة "هآرتس" والعديد من الكتاب اليهود والاميركيين المتطرفين في "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست"، شنوا حملة بدت منسقة ضد باول تركزت على الآتي: أولاً، باول بتركيزه الشديد على العملية السلمية في الشرق علاقات وثيقة مع "الزنجي" كوفي انان الذي تدفعه افريقيته ورؤيته للعالم باللونين الاسود والابيض، الى اعتبار الفلسطينيين ممثلي القوى المقهورة في العالم الثالث. ثالثاً، باول يجد صعوبة في السباحة ضد التيارات القوية في الادراة الاميركية. وهو يخاطر بالغرق، او بخسارة موقعه الوزاري، لأن الرئيس بوش يستطيع دوماً استبداله بكوندوليزا رايس، من دون ان يتهم بالتمييز العنصري. الحرب والسلام رسائل واضحة؟ بالتأكيد. فرأس باول مطلوب في الداخل الاميركي كما في الخارج الاسرائيلي. واذا لم يحدث هذا اليوم، فلا بأس من الانتظار حتى يوم غد الذي قد يحمل مفاجآت تصعيدية غير سارة لوزير الخارجية. ورهان المتطرفين هنا هو دفع الاستراتيجي اللامع، يطمح الى أن يكون أول رئيس خلاسي للولايات المتحدة. وهو بالتالي غير قادر على تلقي المزيد من الهزائم واللطمات لتوجهاته في الشرق الاوسط. ولذا من الضرورة توجيه هذه اللطمات له سريعاً لحفزه على القفز من نافذة الاستقالة. وبالطبع، يدرك باول تماماً ما يخطط له، وهو لا يواجه ذلك بخوض مواجهات مكشوفة مع وزير الدفاع أو نائب الرئيس، بل بمحاولة جذب الرئيس نحو مواقعه. فهل ينجح؟ في الاجابة عل هذا السؤال، تكمن الاجابة ايضا على مصير الحرب والسلام، وأيضاً مصير الكثير من الرؤوس في البيت الابيض كما في الشرق الاوسط. هذا بالطبع اضافة الى كل ما له علاقة بسياسات بوش الخارجية. كلينتون، بذكائه الفطري الحاد، وهو يوصف بأنه أبرز "حيوان سياسي" اميركي في القرن العشرين ربما أدرك ان عربة سياسات الجمهوريين الخارجية سائرة نحو هاوية ما، فقرر أن يسّرع انحدارها بدفعة من يديه الديموقراطيتين. وأي دفعة في هذا الاتجاه أفضل من دعم "المنشق" باول، الذي يتصرف الآن كفارس عقلاني وحيد، يحاول بمفرده محاصرة قلعة التطرف الاميركي المحّصنة باول الى الاستقالة، أكثر من رهانهم على إقالته. فهم يعلمون ان بوش لا يستطيع ببساطة ان يطيح الرجل الذي يشكل الان جسر التواصل الوحيد بين هذه الادارة الاميركية المتطرفة وبين عالم بأسره وليس فقط العالم العربي خائف منها. لكنهم يعلمون، في المقابل، أن هذا العسكري الاوسط، بدأ يعّرضللخطر الحرب العالمية ضد الارهاب ويحرفها عن مسارها. وهذا رأي يدعمه بقوة نائب الرئيس ديك تشيني. ثانياً، الوزير الاميركي، ولأنه خلاسي، يقيم حريصة لاسباب استراتيجية على عدم "ازعاج" اسرائيل كثيراً او الضغط عليها من اجل تحقيق تسوية سياسية. فأولوية ادارة بوش كانت ولا تزال، الحرب ضد العراق وليس للسلام في فلسطين. وعلى رغم ان "نيويورك تايمز" أشارت الاثنين الماضي الى ان موعد الهجوم العسكري الاميركي على العراق والذي سيتضمن، كما قالت، غزواً برياً يشارك فيه ما بين 80 الى 250 ألف جندي اميركي تأجّل الى العام المقبل، الا ان مسؤولين أميركيين كانوا يؤكدون في الوقت ذاته ان الضربة للعراق "آتية لا ريب فيها"، بغض النظر عن التوقيت. ودور اسرائيل الاستراتيجي حاسم هنا. إذ أن المخططين الاميركيين يتصورون ان يسفر اسقاط نظام صدام حسين عن نشوء "حلف بغداد" جديد قوامه تركيا واسرائيل وعراق ما بعد صدام، اضافة الى الولاياتالمتحدة. وسبق لنائب وزير الخارجية الاميركي السابق جيمس روبن الى الشرق الاوسط الشهر الماضي. فآنذاك، خرجت "نيويورك تايمز" بعنوان رئيس يقول: "ربح المعتدلون وزارة الخارجية وخسر المتطرفون وزارة الدفاع. وهي اضافت ان بوش حزم أمره بعد تلقيه تقارير من الاستخبارات والسفارات في الشرق الاوسط تحّذر من وصول الشارع العربي الى "لحظة الانفجار". بيد أن المتطرفين، الذين رضخوا لهذه الهزيمة، عمدوا لاحقاً الى نسفها عبر تشجيع شارون على رفض كل طلبات باول. وكان مثيراً هنا أن يعلن بنيامين نتانياهو خلال زيارته التسويقية الشهر الماضي للولايات المتحدة ان احد كبار المسؤولين في وزارة الدفاع سأله: "لماذا لا تستكملون حملتكم العسكرية، ولماذا لا تجهزون على ياسر عرفات؟". اما المرة الثانية التي ولدت فيها الموازنة البوشية فتمت الاسبوع الماضي، حين ضغط مسألة تتعلق بإدارة المصالح المتنافسة وتخفيف شعور اوروبا بالذنب من تاريخها الاستعماري، فيما الاميركيون يميلون الى رؤيته بوصفه قضية الدفاع عن جزيرة الحرية والديموقراطية الاسرائيلية، في مواجهة أعداء مشتركين هم الارهابيون الدوليون. له بعد 11 ايلول الصوت الاقوى في مداولات الادارة الاميركية حول السياسات التي يجب انتهاجها في الشرق الاوسط. وهو يؤيد عمليات شارون العسكرية في الضفة وغزة بصفتها جزءاً من الحرب ضد الارهاب. كما انه يؤّيد أيضاً جهود هذا الاخير لشطب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات من داخل ادارة بوش نفسها. وهنا يطل باول برأسه. كيف؟ انفجار الفقاعة خلال الاسبوع الماضي، برزت الخلافات الى العلن للمرة الاولى بين كل من وزارة الخارجية الاميركية ووزارة الدفاع. فقد سرّب مسؤولون في الخارجية لصحيفة "واشنطن بوست" معلومات بأن باول يتعرض الى ما يشبه "المؤامرة" من جانب صّناع قرار آخرين، بهدف نسف جهوده لكسر الطريق المسدود في الشرق الاوسط. وحذّر المسؤولون من أن ذلك قد يؤدي الى "شل الديبلوماسية الاميركية في تلك المنطقة الملتهبة، في لحظة حرجة للغاية". وأضاف المسؤولون أن عودة باول خالي الوفاض تقريباً من جولته الاخيرة في الشرق