منذ استلام جورج بوش الرئاسة الاميركية في كانون الثاني يناير من هذا العام والحديث يدور حول الدور الاميركي المرتقب في الأزمة الفلسطينية - الاسرائيلية. وزاد حدة الحديث العنف الذي يمارسه الاسرائيليون لقمع الانتفاضة الفلسطينية والتصريحات التي أدلى بها الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون واضعاً اللوم على الرئيس الفلسطيني لفشل المفاوضات بين الطرفين واندلاع الانتفاضة. ولم تساعد القيادات العربية التي زارت واشنطن خلال الربيع الماضي الموقف الفلسطيني اذ أنها ايدت ادعاء الرئيس كلينتون بالنسبة الى مصداقية الرئيس الفلسطيني. ولما لم تؤد سياسة العنف والهدم والاغتيال والمصادرة الاسرائيلية سوى الى ازدياد الانتقام والعنف والاستشهاد التفجيري الفلسطيني، قامت الدول الأوروبية والعربية بحث واشنطن على القيام بعمل ما من اجل توقيف دورة العنف هذه. لكن واشنطن لغاية اليوم لم تفرز سوى مواقف عامة تعتمد على تقرير السيناتور جورج ميتشل الذي بدأ تحضيره في عهد بيل كلينتون في خريف 2000. كل ذلك، لأن السياسة الخارجية الاميركية هي امتداد للسياسة الداخلية. ولذلك، مهما كان حجم الضغط الأوروبي والعربي على واشنطن، فإن قرار واشنطن وجهودها بالنسبة الى النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي يبقى أسير اللعبة الداخلية الاميركية. وأيضاً مهما كان شعور الرئيس جورج بوش الأب متعاطفاً مع الموقف العربي في هذا النزاع، فإن الإبن تعلم جيداً من اخطاء والده الذي تجاهل المشاكل الداخلية التي واجهته واعتبر في معركة انتخابات 1992 ان نجاحاً ملحوظاً في السياسة الخارجية كفيل بإعادة انتخابه لأربع سنوات أخرى. لقد خرج جورج بوش الأب منتصراً من حرب الخليج الثانية في شتاء 1991 واعطته الاستقصاءات في ربيع العام نفسه تأييداً "قياسياً" قارب ال85 في المئة من الناخبين الاميركيين ووضعته في منزلة كبار رؤساء القرن العشرين أمثال روزفلت وايزنهاور. وامتنع كبار الديموقراطيين من خوض معركة الرئاسة في عام 1992 "احتراماً" لنتائج الاستقصاءات. اذكر حديثاً مع زعيم الاكثرية الديموقراطية في مجلس الشيوخ، جورج ميتشل الذي علل امتناعه وقتذاك عن خوض معركة الرئاسة بسبب شعبية الرئيس بوش "الذي لا يمكن ان يقهر" في الانتخابات المقبلة. واضاف ميتشل بأن الساحة مفتوحة لصغار الديموقراطيين ليخوضوا معركة الرئاسة من أجل البروز الوطني ووضع الأسس لمعركة 1996. لم يكن يحلم بيل كلينتون حاكم ولاية اركنساس الريفية الصغيرة بأن يصبح المرشح الديموقراطي للرئاسة، ناهيك بأن يربح معركة الرئاسة في خريف 1992. لقد واجه الرئيس بوش الأب خلال انتخابات 1992 قضيتين داخليتين رئيسيتين: الركود الاقتصادي الذي بدأ في أواخر 1991 وخلافه مع اللوبي الاسرائيلي الذي وقع في ربيع العام نفسه. ويواجه الرئيس بوش الإبن اليوم المشكلتين نفسيهما. لقد ابتدأ عهد جورج بوش الإبن بركود اقتصادي ورثه من بيل كلينتون وعداء من الجالية اليهودية الاميركية ورثه من والده. باستثناء ولاية فلوريدا التي ربحها الرئيس بوش ب437 صوتاً، لقد ربح المرشح الديموقراطي آل غور جميع الولايات التي تسكنها كثافة يهودية. ولو كان حاكم ولاية فلوريدا غير جيب بوش، الإبن الثاني للرئيس جورج بوش الأب، لخسر جورج بوش الابن ولاية فلوريدا ومعها الرئاسة الاميركية. من هنا فإن الاهتمام الآني للرئيس بوش هو أولاً اعادة النمو الاقتصادي قبل انتخابات خريف 2002، ولذلك خاضت ادارته معارك عدة مع الكونغرس من اجل اقرار برنامجه ووعوده الانتخابية في الحقل الاقتصادي. اما الاهتمام الثاني للرئيس بوش فهو اعادة انتخاب أخيه جيب بوش حاكماً لولاية فلوريدا في خريف 2002 ايضاً. ان الفشل في تحقيق هذين الهدفين سينعكس على الرئيس بوش سلباً في محاولته عام 2004 لإعادة انتخابه لأربع سنوات اخرى. ويحتاج الرئيس بوش لتحقيق هذين الهدفين تحييد الجالية اليهودية الاميركية أو على الأقل تخفيف عدائها لعائلة بوش. بالإضافة الى الاقتراع اليهودي المكثف الى جانب بيل كلينتون وآل غور في معركتي 1992 و2000 الرئاسية، لقد وفرت هذه الجالية مبالغ هائلة من المال لكلا المرشحين في معركتها ضد بوش الأب عام 1992 والإبن عام 2000. على رغم انتماء معظم ابناء الجالية اليهودية الاميركية المنظمة والمنضبطة الى الجناح الليبرالي المؤيد للسلام بين اسرائيل والعرب، إلا ان تأييدهم المطلق والأعمى لاسرائيل حملهم دائماً ولو على مضض، لدعم رؤساء وزراء تكتل ليكود أمثال ارييل شارون. بالاضافة الى ان معظم هؤلاء يعتبرون ان الرئيس ياسر عرفات سبب انتكاسة السلام التي افرزت الانتفاضة الثانية و"مسيرة" القتل والدمار. ان استمرار شمعون بيريز بالتعاون مع ارييل شارون وحكومته اليمينية المتطرفة والدفاع عن سياسة شارون في المحافل الدولية، يعكس اقتناعاً لدى معظم الليبراليين اليهود في اميركا واسرائيل بأن السلام مع عرفات وسلطته الفلسطينية أصبح صعباً ان لم يكن مستحيلاً. ومن ثم بالنسبة لهؤلاء، ليس أمام اسرائيل سوى الاستمرار في محاولتها لقمع الانتفاضة. ونعود الى الرئيس بوش، فعلى رغم انتقاده لسياسة ارييل شارون القمعية واستعمال اسرائيل سلاحاً اميركياً الصنع لقمع الانتفاضة، إلا ان شيئاً ما على الأرض لم يحدث. فالعنف مستمر والعقاب مستبعد. كذلك فإن تبرير الادارة الاميركية للتصفيات والاغتيالات الاسرائيلية للقيادات الفلسطينية الأمنية يضع السياسة الاميركية الى جانب تكتل ليكود المتطرف. كل ذلك، لأن الرئيس بوش مصمم على وضع سياسة شرق أوسطية تبعده عن سياسة والده وتروض الجالية اليهودية الاميركية وتطمنها على ان الابن هو عكس والده عندما تتعلق الأمور باسرائيل وأزمة الشرق الأوسط. ان مخططي الانتخابات لعام 2002 في البيت الأبيض والحزب الجمهوري يعتبرون السياسة الترويضية للجالية اليهودية رابحة لأنها قد تخفف العداء اليهودي لعائلة بوش من دون ان تغضب العرب لدرجة مقاطعة اميركا. إضافة الى هذه السياسة التي تعتمد على تسخير المصلحة الوطنية العليا لمصلحة الحزب، ان الادارة الاميركية لا ترى بأن هناك حظاً للسلام بين الفلسطينيين واسرائيل في الوقت الراهن. ان ارييل شارون وحكومته لا يعملان لسلام مع السلطة الفلسطينية وليس هناك معسكر للسلام في اسرائيل يطالب حكومتها تغيير سياستها التي تتبع مبدأ "العين بالعين والسن بالسن" مكرراً. بالعكس، يبدو واضحاً للمراقبين والمسؤولين ان هدف حكومة شارون هو الغاء تدريجي لاتفاق اوسلو وتوابعه وحل السلطة الفلسطينية وطردها من قطاع غزة والضفة الغربية واستبدالها بنظام كانتونات يبنى حول المدن الفلسطينية. وعلى رغم اقتناع الادارة الاميركية بأن هذه السياسة الاسرائيلية لن تأت بالأمن والسكينة الى الجمهور الاسرائيلي وحتماً تلهب المشاعر والقناعات المتطرفة لدى العرب عامة والفلسطينيين خاصة، ان قرار ادارة بوش بعدم مجابهة ارييل شارون والجالية اليهودية الاميركية يبنى ايضاً على اقتناعها بعدم جدوى التعامل مع ياسر عرفات. ان ادارة بوش مقتنعة بأن الرئيس الفلسطيني ان لم يخطط بنفسه للعنف، فهو يتسامح معه كوسيلة لارهاق الاسرائيليين واشعال الغريزة العربية ضد اسرائيل وتوريط أوروبا والولاياتالمتحدة في مخططاته. كذلك، يبدو للمراقبين والمسؤولين في واشنطن ان الرئيس عرفات يعرف ان السلام غير ممكن مع حكومة ارييل شارون وهو يفضل ارهاقه واخراجه وانتظار مجيء حكومة اسرائيلية جديدة. كذلك، ان فشل بيل كلينتون بالوصول الى تقدم لحل أزمة الشرق الأوسط على رغم الجهود الهائلة التي صرفها مع أركان ادارته، لا يشجع ادارة بوش بأن تعمل مثل ادارة كلينتون لحل الأزمة. ان أقصى ما تطمح اليه هذه الادارة حالياً هو احتواء العنف والحؤول دون انتشاره الى خارج الحدود الاسرائيلية والفلسطينية. وبالنسبة الى من هو المسؤول في ادارة بوش عن ادارة واحتواء الأزمة، فإن بيل بيرنز، المساعد الجديد للوزير لشؤون منطقة الشرق الأوسط، لا يريد ان يكون المسؤول المباشر عن هذه القضية وان الوزير كولن باول يفضل ان يبقى المنسق الجديد لأزمة الشرق الأوسط في مكتب بيل بيرنز وليس في مكتبه. والى ان تجد الإدارة الشخص المناسب والمكتب المناسب لإدارة واحتواء الأزمة، يقوم أحد نواب بيل بيرنز، السفير السابق في لبنان دافيد ساترفيلد وآرون ميلر نائب المنسق السابق لمسيرة السلام بهذه المهمة بصورة وضيعة تعكس بالفعل التزام الادارة الضعيف لهذه الأزمة التي يصعب على واشنطن تجاهلها. * المستشار السياسي لنائب رئيس وزراء لبنان.