عندما قصفت الطائرات الحربية الأميركية والبريطانية قواعد الرادار قرب بغداد، كان هذا العمل العسكري اول قرار تتخذه ادارة الرئيس بوش الابن لتؤكد فيه حزمها في الشرق الأوسط. ولكن خلفيات هذا العمل العسكري وأسبابه ومبرراته كثيرة ومتنوعة وتدخل في سياق الاستراتيجية الأميركية ونظرتها الى قضايا المنطقة، وبالتحديد الى قضيتين: العراق من جانب والصراع العربي - الاسرائيلي من جانب آخر، وتقاطع هاتين القضيتين من حيث التأثير المتبادل على أميركا وعلى العراق وعلى اسرائيل وعلى العرب مما يضع الشرق الأوسط كله أمام أزمة كبرى ويستدعي طرح السؤال: هل يمكن احتواء الانفجار؟ أول ما يستدعي الاهتمام هو تحليل ما الذي حصل فعلاً. يمكن اختصار التحول الكبير في المنطقة بتحول في الخيارات الأساسية لقوتين فاعلتين: الولاياتالمتحدة واسرائيل. وهي تحولات استتبعت وصول قيادتين جديدتين الى السلطة في واشنطن وتل أبيب. ففي الجانب الأميركي أصبح القرار بيد أربعة: جورج بوش الابن الذي هو بالفعل "سر أبيه" وربما نسخة عنه وديك تشيني نائب الرئيس ووزير الدفاع ابان حرب الخليج 1991 وكولن باول ناظر الخارجية ورئيس أركان القوات الأميركية أثناء حرب تحرير الكويت، ودوم رامسفيلد وزير الدفاع الذي دعا الى ضرب أعمدة النظام العراقي وأقام علاقات مع المعارضة العراقية. هذا الرباعي الأميركي نقل اهتمام الادارة الأميركية من المفاوضات لإيجاد حل للقضية الفلسطينية بين الفلسطينيين واسرائيل الى اعتبار "القضية العراقية"، وبالتحديد قضية الرئيس صدام حسين، اولوية بالنسبة الى الولاياتالمتحدة واهتماماتها في المنطقة. هذا التحول عائد الى الأسباب الآتية: نوعية القيادة الأميركية الجديدة كما ذكرنا. تآكل سياسة الاحتواء التي اعتمدتها ادارة الرئيس بيل كلينتون حتى الآن مما يستدعي تعديلها. صعود شعبية الرئيس صدام حسين في العالم العربي، خصوصاً في غزة والضفة الغربية. حدوث تحول في الرأي العام العربي والعالمي الى جانب الشعب العراقي. وجود مبررات داخلية أميركية يقودها الراديكاليون لإيجاد "كبش محرقة". قيام العراق بمساعدة من قوى متقدمة تكنولوجياً لا سيما الصين وكوريا وحتى روسيا بتطوير قدراته الدفاعية وحتى الصاروخية واستعادة المبادرة لإنتاج أسلحة الدمار الشامل خارج الرقابة الدولية. تهديد الرئيس العراقي لإسرائيل "بضربها بالصواريخ لمدة ستة أشهر" ما أثار قلقاً في الدولة العبرية تبعه شراء كمامات واقية من الغازات السامة كما استدعى اصدار بيان من الحكومة الاسرائيلية بطمأنة الرأي العام بعد الغارات الجوية على ضواحي بغداد. تعميم الرئيس الأميركي وربما قراره بإكمال ما كان على أبيه ان يفعله في حرب الخليج الثانية، وهو العمل على اسقاط الرئيس صدام حسين لأن بقاءه في السلطة، من منظور البيت الأبيض، يعني فشل حرب الخليج الثانية في تحقيق أهدافها ألا وهي التحكم بالارادة العراقية وتطويعها. منع العراق من السعي للتحكم بأسعار النفط كما حصل في أواخر العام 2000. فسياسة بوش هي في جوهرها "سياسة نفطية". وأحد أهم أسباب "عاصفة الصحراء" منع صدام من التحكم ب22 في المئة من نفط العالم وفرض سعر معين على أوبك كما فعل عام 1990. وعلى الجانب الاسرائيلي، هناك قيادة جديدة راديكالية ايضاً يترأسها أرييل شارون الآتي الى السلطة بقوة صوت القلق الاقلوي اليهودي لتحقيق الأمن لإسرائيل والاسرائيليين كما يقول. وحوله ثلاثة منظرين استراتيجيين لرسم السياسة الاسرائيلية الجديدة، وهي استراتيجية تتفق مع سياسة واشنطن على عدم اعطاء الاولوية للمفاوضات العربية - الاسرائيلية بل اعطاء الاولوية للزمن. والاستراتيجيون الثلاثة هم: موشيه أرينز، سفير اسرائيل السابق في واشنطن ووزير دفاع سابق ومهندس طيران. ودور غولد، اختصاصي في الصواريخ وأسلحة الدمار الشامل. ودزلمان شوفال، السفير ورجل الفكر السياسي. من هنا سيكون مركز ايهود باراك فارغاً او مفرغاً من محتواه ضمن أية صيغة حكومية. ولذا كان من الطبيعي ان يفضل الانسحاب، ذلك ان شارون يفضل التعاون مع باراك شرط ان يلتزم بخيارات شارون الاستراتيجية التي أخذ على أساسها تفويض ثلثي الاسرائيليين، فمن مصلحة شارون تأليف حكومة وحدة وطنية تطلق يده أكثر في العمل السياسي - العسكري ولكنه يعمل مع طاقمه الاستراتيجي على الزام هذه الحكومة بخيارات مختلفة، منها: - على اسرائيل ان تتخلى عن الأولوية في التفاوض للسلام مع العرب وتعطي الاولوية لاحتفاظها بالتفوق التكنولوجي في الصراع مع جيرانها العرب والعجم. - ان التهديد الحقيقي لإسرائيل لا يأتي من بنادق الفلسطينيين وحجارتهم بل من الصواريخ البالستية المنتشرة في الشرق الأوسط. وهذا ما أكدته حرب الخليج الثانية. ويصبح الأمر خطراً جداً اذا ازدوجت هذه الصواريخ بأسلحة الدمار الشامل، الكيماوية او الجرثومية او النووية! - بناء عليه، فإن الدولة العبرية تواجه في الذهن الاسرائيلي الليكودي نوعين من التحالفات التي تشكل تهديداً مباشراً لأمنها: التحالف الإيراني - العراقي - السوري الذي بدأت ترتسم بعض معالمه بين الدول الثلاث سراً وعلانية، وهو ما سعت وستسعى أميركا واسرائيل لمنعه كونه يشكل تهديداً للسياسة الأميركية ولمصالح أميركا في المنطقة كما يشكل تهديداً جدياً لأمن اسرائيل. وتحالف القوى الاسلامية الراديكالية التي شكلت بنية تنظيمية لمختلف الحركات الاسلامية في فلسطين والدول العربية وإيران والتي أعلن الأميركيون انها عقدت مؤتمرها أخيراً في بيروت. - ان سياسة شارون لا ترهن العلاقات الاسرائيلية - الأميركية بمسألة المفاوضات مع الفلسطينيين، بل بمدى مساهمة أميركا ومساعدتها لإسرائيل لتأمين درع دفاعي مضاد للصواريخ يؤمن لإسرائيل الحد اللازم من الحماية. وانطلاقاً من هذه الاوضاع والاعتبارات الجديدة يمكن الخروج بالاستنتاجات والملاحظات الآتية: أولاً: ان هناك توافقاً بين الادارتين الجديدتين في واشنطن وتل أبيب على تقديم الملف العراقي على الملف الفلسطيني. ثانياً: ان العودة الى نقطة الصفر في المفاوضات وانسداد أفقها المنظور على الاقل سيولّد احتقاناً حقيقياً على الجبهات كافة وسيؤدي الى أزمة كبرى في المنطقة بحيث يبقى السؤال الوحيد بصددها هو: متى ستنفجر؟! ثالثاً: ان مهمة وزير الخارجية الأميركي كولن باول في المنطقة ستكون من ضمن هذه التوجهات الجديدة، إذ سيعمل على احياء التحالف ضد صدام حسين وتحذير الدول العربية من خطره عليها. رابعاً: ان تعديل زيارته لتشمل سورية تم بعد تدخل على قاعدة ان سورية لن تدخل تحالفاً عراقياً - ايرانياً. خامساً: بالنسبة الى سياسة شارون ومستشاريه، لا معنى لتقديم التنازلات للفلسطينيين لأنهم سيطلبون المزيد، المهم شل القوى التي تغذي الحركات الفلسطينية بالدعم المعنوي والمال والسلاح والتغطية السياسية. ومن هنا سيكون التوجه السياسي / العسكري لشارون نحو الدول والأنظمة وليس نحو المنظمات: بدءاً من لبنان وصولاً الى إيران! سادساً: هذا يعني اننا سنشهد باكراً انذارات متبادلة بين أميركا والمنطقة: دولاً وأنظمة ومنظمات. ولكن يبقى السؤال: الى أي مدى، وأية حدود يمكن ان تذهب أميركا واسرائيل في خياراتهما الجديدة؟ سابعاً: ان قصف ضواحي بغداد يعني، أميركياً، تحديد الهدف الجديد العسكري لسياسة واشنطن، وان إقامة مناورات عسكرية مشتركة حول صواريخ باتريوت المضادة للصواريخ، يعني، أميركياً - اسرائيلياً، تحديد الحليف الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة في المنطقة، وعلى العرب ان يأخذوا الأمرين في الاعتبار. والخلاصة ان لدى شارون ورقة خارجية يلعبها بديلاً لورقة داخلية خسرها، أي حزب العمل الا وهي الدعم الأميركي لكونغرس برو - اسرائيلي يحاول عبره جورج بوش الابن ان يستلحق وينقذ سياسة جورج بوش الأب بتسديد حسابات ومتأخرات عراقية على حساب المفاوضات الفلسطينية. وهكذا يكون شهر العسل العربي مع ادارة بوش الابن انتهى قبل ان يبدأ!