52 عاماً مرت على النكبة الاولى. وهذه السنة ستسجل في تاريخ مخيم جنين النكبة الثانية. ومع كل ما حمل العام 1948 من بشاعة في حياة اهالي هذا المخيم ومصيرهم، وفقدانهم أغلى ما يملكون، الارض والبيت والوطن وكل شيء. الا ان نكبة هذه السنة ستسجل تاريخاً أبشع واقسى. فالأم تبحث عن ابنها بين الركام، والزوج لا يميز جثث اطفاله التي اصبحت في وضع انحلال، والعشرات وربما المئات سيبقون في عداد المفقودين، فهم من المؤكد لم يصلوا الى بلدان اخرى ومناطق بعيدة عن اهلهم، كما حدث آنذاك، انما سيكونون بين القتلى والمفقودين. ربما تحت الركام وربما في مقابر جماعية، قد يكشف عنها في ما بعد. وربما لن يستطيع احد معرفة شيء عن وجودهم، وان استطاعوا ذلك فسيكون من الصعب دفن كل جثة في ضريح يكتب عليه اسم الضحية. فجرافات الاحتلال التي حاولت اخفاء بشاعة الجريمة، لم تأخذ في حسبانها اي جانب انساني في هذا الموضوع. مشاهد وقصص وصور تقشعر لها الأبدان. وقد يعجز اي انسان عن وصفها. فحتى الحبر قد يتجمد في القلم عندما يخط احداثها. تلك الام التي تستصرخ انقاذ عائلتها، وذلك الطفل الذي يطوف المخيم ولا يعرف اين امه واخوته. والرجال، وهم قلائل جداً، باتوا عاجزين عن وصف ما حدث لهم، بل هم عاجزون حتى عن انتشال الجثث من تحت الدمار. مخيم جنين الصغير القائم على مساحة صغيرة اصبح اطلالاً لا تحمل حتى معالمه. لم يكن من السهل الدخول الى مخيم جنين، هذا المخيم الذي كان في مواجهة المحتل. وربما لانه صغير وبيوته مكتظة بشدة على بعضها البعض وزواريبه صغيرة وطرقه الفرعية ضيقة تكاد لا تتسع الا لسيارة واحدة، ربما كل ذلك ساعد قوات الاحتلال في القضاء عليه خلال ايام قليلة، فالاحتلال الاسرائيلي لا يتحمل اضاعة الوقت في المعارك، لذلك يحرق كل شيء. البيوت والشوارع وشبكات المياه وخطوط الكهرباء. اسبوع واحد كان كافيا لتحويل المخيم كله الى اكوام من تراب. وباستثناء قلة من البيوت المرتفعة في المخيم لم يبق منه اي شيء يذكر. اقيم مخيم جنين في العام 1948، عندما وصل اليه المئات من الفلسطينيين الذين تشردوا من مدنهم وقراهم الفلسطينية في تلك السنة. وصلوه من حيفا ومجد الكروم ويافا واللد وغيرها. جاؤوا الى المخيم خوفاً من القتل الاسرائيلي، ومنهم من رحل بشكل موقت على ان يعود بعد فترة قصيرة، لكن الفترة مرة وبعدها مرت فترة اخرى وجاء جيل بعد جيل، ولم يعد احد الى بلده. وعندما التقينا عددا منهم السنة الماضية، قالوا بكل صراحة: "لن نترك المخيم الا عائدين الى قرانا المهجرة. هذه مستندات الطابو نحتفظ بها منذ خمسين عاما. نخبئها ونعتبرها مستنداً لنا أمام العالم كله، من خلاله سنثبت حقنا في الارض والبيت الذي تركناه في العام 48". ولم يكن يدري هذا وذاك ان اياماً سوداء اكثر ستحلّ بهم لن تبقي لهم المستندات فحسب، بل ستقضي على كل واحد سيطالب بحقه في العودة. التجول في المخيم بات امراً صعباً للغاية. ليس لأن الجنود الاسرائيليين يمنعون ذلك ولا بسبب الحصار المفروض عليه بشكل مستمرفحسب، فالجثث المنتشرة في كل مكان حولته الى مكرهة بيئية، اقل ما يمكن ان تسببه أوبئة صحية خطيرة. ولم يكن من السهل الوصول الى كل الجثث المطمورة تحت الردم. وسائل كثيرة اتبعت لذلك من دون جدوى، وبعضها كان الذباب الكثيف السبيل الوحيد لمعرفة وجودها. جثث محروقة تماماً من المستحيل التعرف عليها اذا كانت في الشارع، اما اذا تواجدت داخل بيت فيسهل على العائلة التعرف عليها. احدى هذه الجثث وجدت داخل بيت عائلة ابو الهيجا في حي الجورة في المخيم. صاروخ اسرائيلي أصاب البيت ودمره تماماً. العائلة هربت عند اصابة البيت، لكن احد افرادها ويدعى اشرف وهو في السادسة والعشرين، لم يتمكن من الهرب. مات حرقاً. والعائلة اضطرت الى ترك البيت ولما عاد احد افرادها بعد عشرة ايام كشف هول الجريمة. الجثة محروقة تماماً والرجلان ممتدتان عند فتحة الباب: "يبدو انه حاول الهرب ولم يتمكن، انظروا كيف ان رجليه قريبتان من باب الغرفة". قال احد الجيران الذي راح يبكي بمرارة وعجز عن اي حديث اضافي. ولم يكن الوحيد في المخيم الذي فضل عدم الحديث عما حدث له. فما يشاهده من وضع للجثث والبيوت، او آثار البيوت، كان كافياً لأن يدخل كل واحد في حالة عجز كاملة. "نحن اليوم بحاجة ماسة لأن ننتشل الجثث. لا يمكن ان تبقى على هذه الحال. فوجودها سيؤدي الى امراض قد تقضي على حياة من تبقى"، اضاف ابو بشير الذي بقي في المخيم ولا يعرف مصير عائلته. هذه هي حال اهل مخيم جنين، فقدوا كل شيء ويحاربون اليوم في سبيل حياة من تبقى، سواء داخل المخيم او الذين طُردوا منه تحت تهديد دبابات ورصاص جنود الاحتلال. بين هؤلاء المشردين في رمانة وبرقين وزبوبا عاشت "الوسط" بضع ساعات، وكأننا نشاهد فيلماً وثائقياً عن نكبة الشعب الفلسطيني الاولى قبل 54 عاماً، التي يحيي ذكراها الفلسطينيون في هذه الايام. لم يعد يدري ابو محمد من مخيم جنين ما يمكن ان يفعله عندما اهتز بيته من الصواريخ التي اصابت الطابق العلوي واشعلت حريقاً فيه. 12 نفراً، الوالدان وعشرة اولاد ارتعبوا خوفاً ولم يكن امامهم الا الهروب من البيت، ولم يتوقعوا ان يكون الجنود الاسرائيليون ينتظرونهم في الخارج. - ادخلوا الى البيت والا اطلق الرصاص. أمر الجندي بلغة عربية ركيكة، وهو يصوب بندقيته. ادخلوا الى البيت، صرخ، وازداد خوف الاطفال من الحريق ومن صراخ الجندي، وارتعب الوالدان خوفا على موت اولادهم المحتم في هذه الحالة. وفجأة دخل الجندي وصرخ بهم ان يخرجوا. - تريدون الخروج .اخرجوا. قال وهو يبتسم واذا بالرصاص يتطاير فوق رؤوسهم فانبطحوا ارضاً. الا ان الجندي استمر بأوامره وهو يصرخ، وهذه المرة متوجهاً الى الرجل وابنه: -أنتما. الأيدي الى اعلى. أمر وبدأ بتنفيذ مهمته، فعصب عيونهما وراح يطوف بهما في زقاقات شوارع المخيم التي كانت مليئة بالمقاتلين الذين أرعبوا الجندي. وضع بندقيته على كتف ابو محمد ليحوله الى درع بشري واق له. واستمرت المعاناة ساعات طويلة. الأيدي مكبلة. السير ساعات بشكل مهين ومذل. ثم اصطحابهما الى خارج المخيم وطردهما الى اي مكان غير جنين، فما كان منهما الا السير ساعات طويلة حتى وصلا الى برقين ومن هناك الى قرية اخرى للاختباء فيها. اربعة ايام مرت ولم يعرف ابو محمد اي شيء عن زوجته واولاده: "لا ادري اين هم، هل طردوا مع بقية اهالي المخيم ام يختبئون في البيت ام ان صاروخاً آخر وصل الى البيت وحرقه على من فيه؟ لا ادري... لا انام الليل... لا استطيع استيعاب ما يجري بعد...لا أدري ان كنت سأتمكن من رؤيتهم مرة اخرى... لا أدري". حدثنا ابو محمد، الذي رفض ان يفصح عن اسمه الكامل او التقاط الصور على امل ان تكون عائلته على قيد الحياة فلا ينتقمون منها. ومثل ابو محمد هناك حوالي الف فلسطيني من مخيم جنين طردوا من بيوتهم وشردوا ووراء كل واحد مأساة وقصص تشريد. مآسٍ تعيد الى الذاكرة تماماً ما حصل في العام 1948 للفلسطينيين الذين عانوا قساوة النكبة، بالطرد والتهجير والتشريد. فأهالي مخيم جنين وبشكل خاص هؤلاء الذين طردوا من بيوتهم الى مناطق بعيدة عن بيوتهم عانوا كثيراً. فقد اضطروا للمشي مسافات طويلة حتى وصلوا الى اقرب المناطق الفلسطينية. اطفال لا يعرفون اين اهلهم. أمهات لا يعرفن أين أولادهن وأزواجهن. أشقاء لا يعرفون اذا كان أشقاؤهم على قيد الحياة أم بين الموتى. يتامى اضطروا الى ترك جثث امهاتهم وآبائهم تحت الانقاض. قصص مرعبة ومثيرة تقض مضاجع لاجئي مخيم جنين، الذين كما قالوا لنا يتوقعون الكشف عن جرائم بشعة اكثر بعد الانسحاب الكلي لجنود الاحتلال الاسرائيلي. حوالي الف فلسطيني من نساء واطفال وشباب ومسنين طردوا من بيوتهم. عبدالله وشاحي الذي توجه وحيداً الى قرية رمانة الفلسطينية اضطر الى ترك جثتي والدته وشقيقه اللذين ماتا قتلاً امام ناظريه: "كنا، أنا واشقائي الثلاثة وأمي في البيت وفجأة اخترق الرصاص الشباك ودخل الى البيت، فأصابت إحدى الرصاصات شقيقي منير في كتفه وكانت الساعة الثانية ظهراً، فصرخ ألماً وحاولنا استدعاء سيارة اسعاف فلم نتمكن، وبقي ساعات ينزف ويتألم حتى شعرنا في ساعات المساء انه لم يعد قادرا على التنفس ومن ثم أُغمي عليه، بعد ذلك أدركنا انه مات. وبقينا نبكيه طول الليل حتى الصباح، فقررت امي ان تفتح باب البيت وتطلب من جندي ان يسمح لها بالذهاب لاستدعاء سيارة الاسعاف، وما ان فتحته حتى أطلق الجندي رصاصة اخترقت رأسها وأردتها قتيلة. لم نعد ندري ما يمكن ان نفعله أنا وشقيقاي. جلسنا نبكي وننتظر، الا ان الجنود اقتحموا البيت بشكل فظ وأمرونا بالخروج الفوري. فقبّلنا أمي وأخي، أقصد قبّلنا جثتيهما وودعناهما. لا ندري ان كان أحد تمكن من دفنهما ولا ندري اذا كان البيت هدم ودفنا تحت الردم، ام اننا سنعود ونجدهما لا يزالان داخل البيت". يحدثنا عبدالله، والدموع تنحبس في عينيه وتخنق صوته. ولكن ما بدأ يسمعه من آخرين يتحدثون عن معاناتهم ومآسيهم، خفف القليل عنه: "كلنا في مأساة واحدة" قال . والمشكلة الأقسى بين هؤلاء كانت اولئك الاطفال الذين يتجولون في رمانة وبرقين يسألون بأصوات حزينة تقطع القلب، عن مصير آبائهم وأمهاتهم وأشقائهم. مظفرالزبيدي لم يتعد العاشرة، خرج من بيته خوفاً بعد ان أمر الجنود جميع افراد البيت بالخروج. وكان العشرات من اهالي المخيم يغادرون ولا يعرف كيف وجد نفسه وحيداً، فلحق بقوافل النساء والشباب وقطع مسافات طويلة حتى وصل الى حاجز برقين. "ما بعرف شو أعمل. مشيت ومشيت وفتشت عن امي وأبوي وما لقيتهم". كان يحيطه شباب رمانة الذين يحاولون الاتصال ببقية الشباب في القرى الاخرى التي وصلها اهالي المخيم على أمل ان يجدوا احداً من عائلته. ولم تنحسر المعاناة في الوصول الى القرى الفلسطينية والبحث عن العائلة. فمن داخل المخيم، عانى هؤلاء معاناة حقيقية. عذراء حسين نجم 42 عاماً أم لثلاثة اولاد، لا تعرف مصير بكرها البالغ من العمر 16 عاماً وزوجها. معاناتها بدأت من اليوم الاول لاجتياح الجنود الاسرائيليين جنين: "بداية فرضوا منع التجول. ثم بدأوا بإطلاق الصواريخ والرصاص، وطلبوا من الشباب تسليم انفسهم. لم يكن امامنا إلا ان نخرج مستسلمين . النساء خلعن مناديلهن ورفعن الراية البيضاء. والرجال خرجوا رافعي الايدي. كنا بالعشرات، فاقتادونا وكلنا نرفع الايدي الى أعلى حتى الاطفال، الى ان وصلنا الى بيت احد سكان المخيم وفيه حانوت بقالة. كنا حوالي مئة شخص داخل البيت بيننا اطفال في الاشهر الاولى من اعمارهم. تركونا ثلاثة ايام من دون طعام وماء وكهرباء. الاطفال كانوا يبكون بشكل متواصل، وأحدهم لم يتعد الشهرين مرض وشعرنا ان وضعه اصبح خطيراً. توجهنا الى الجندي نرجوه الرحمة وتقديم الطعام للطفل او احضار دواء مسكن للألم على الاقل. لكنه كان يصرخ بوجهنا ويشتمنا ويأمرنا بالدخول"، قالت عذراء، واضافت وابتسامة ساخرة تفترش وجهها: "أتعرفين متى كانوا بشراً؟ فقط عندما وصلت كاميرا التلفزيون الاسرائيلي. فقد أحضروا البسكوت والشوكولاتة من حانوت البيت وتحدثوا معنا بلطف وابتسموا للكاميرا، وما ان غادر طاقم التصوير حتى راحوا يصرخون بوجهنا ورفضوا تقديم اي طعام". بعد ثلاثة ايام أمرهم الجنود بمغادرة البيت والتوجه الى أي مكان آخر عدا المخيم، ووجدوا برقين هي القرية الأقرب: "مشينا اربع ساعات. الاطفال يبكون والنساء متعبات وقليل من الشباب معنا بعد ان اعتقلوا معظمهم. ولما وصلنا مشارف برقين كان هناك حاجز جنود راحوا يصرخون علينا وأمرونا بالعودة بقولهم ممنوع الدخول الى برقين. وكنا في تلك الساعة منهكين ولم نستطع التحرك من مكاننا. جلسنا على الارض ونحن نحمل الاطفال الذين كانوا يبكون بسبب التعب والجوع، وفقط بعد ثلاث ساعات من الانتظار سمحوا بدخول النساء والاطفال واعتقلوا جميع الشباب والرجال". والرجال والشباب الذين اعتقلوا، كانوا اكثر من عانى من اساليب التعذيب والإذلال. فمنهم من قتل بدم بارد ومنهم من اعتقل وعذب ومنهم من أصيب ومنع عنه العلاج. خولة شلبي كانت في البيت مع اولادها، ولأن زوجها هارب من وجه الجنود جاء شقيقها ووالدها لحمايتها ومعهم ثلاثة شباب من العائلة. دخل الجنود اليهم وراح احدهم يهزأ من والدها مما أثار غضب ابنه، فما ان طلب من الجندي التوقف عن التهكم حتى اطلق باتجاه صدره رصاصة قاتلة ثم استمر باطلاق الرصاص، وقتل على الفور الوالد والثلاثة الآخرين. خولة عاجزة عن الحديث مع احد فلم تستوعب الجريمة بعد. والشباب الذين لم يعدموا او يقتلوا بدم بارد زجوا في السجون، بعد سلسلة تعذيب. عبدالرحمن وهدان، لا يزال يعاني من آثار الضرب ومن سلاسل القيود: "بداية ضربوا صاروخاً على البيت ثم أمرونا بالخروج". قال واضاف وهو يجلس مع مجموعة من شبان المخيم وقرية رمانة يحاولون الاطلاع على اسماء اهالي المخيم المتواجدين في القرى الاخرى لعلهم يساعدون في جمع شمل العائلات الممزقة، تماما كما كان الفلسطينيون يفعلون سنة 1948: "عندما خرجنا الى الشارع - قال - كنا نحن والنساء والاطفال نسير وأيدينا الى اعلى. فأمروا الرجال بالوقوف جانبا وامام الجميع أمرونا بخلع ملابسنا ثم أدخلونا الى مدرعات بعد تكبيل الايدي، واقتادونا الى مخيم حرش السعادة بالقرب من سالم، وبدأوا بالتحقيق مع الجميع. سألونا حتى عن سبب قصف بيتنا: "هل تعرف لماذا الجيش الاسرائيلي القوي أغار بالصواريخ والقذائف على بيتكم؟" وكان ذلك بشكل استفزازي ومهين. ولم يرحموا مسناً او مصاباً، فهناك من كان مصاباً ورفضوا ان يقدموا له العلاج، وعلمنا ان احد المصابين تركه الاسرائيليون تحت اشعة الشمس لساعات وكان يتألم ويئن وعند المساء سكبوا عليه الماء البارد". مصاب آخر التقيناه وكان في وضع نفسي سيء جداً فرفض الحديث وكان يلف الحطّة غطاء الرأس على وجهه بعدما شوهه الجنود من الضرب وقطعوا وتراً عصبياً أدى الى شلل يمنعه من الحديث بسهولة وبكلمات واضحة: "لقد ضربوه على رأسه بكل قوة ووحشية، بالكرسي والبندقية بكل ما طالته أيديهم، حتى أُغمي عليه. فهو لم يقاوم ولم يكن يحمل السلاح لقد كان مسالماً، اعتقل خلال فترة قصيرة واطلق سراحه فاسمه لم يدرج في القائمة التي تريدها اسرائيل ولا يوجد له اي نشاط سياسي"، كما يقول زميله. قصص كثيرة. مآسٍٍ مرعبة. واهالي رمانة وزبوبة وبرقين وكل قرية وصل اليها هؤلاء يحاولون تقديم المساعدة بامكاناتهم المحدودة. وقرية رمانة تحولت مركز استعلامات لجميع العائلات، وتحول جامع القرية مقراً لهذا المركز ولتجميع الشباب الذين افترشوا أرضه للنوم. القلق والخوف من المستقبل ينتاب كل واحد منهم . ويتساءلون هل سنعود الى المخيم ام سنتحول لاجئين مرة اخرى. فأهالي مخيم جنين الذين يبلغ عددهم 14 الف نسمة وصلوا في العام 1948 من القرى العربية التي احتلتها اسرائيل، من حيفا ويافا والرملة ومختلف القرى. في حينه وصل اهالي هذا الجيل هرباً من القصف والقتل لكن مع امل العودة بعد تهدئة الاوضاع، وها قد مرت 52 عاماً والاوضاع لم تتغير فحسب بل تزداد سوءاً والتاريخ يعيد نفسه. وعلى رغم هول الجريمة ووصول الاحتلال الى أوج ارهابه للفلسطينيين، كانت هناك روح معنوية غير عادية بل غريبة وربما تنطوي على شيء من العبث. فقد ظلوا يتحدثون عن الامل بالعودة القريبة، ليس فقط الى المخيم، بل الى فلسطين: "سنعود ولو زحفاً. شارون الذي حسب انه سيقضي على جميع المنظمات الفلسطينية والابطال المستعدين للانتحار سيعلم كيف سيجد بعد ما فعله كل طفل وشاب وكل شابة منتحرين من اجل فلسطين". قال شاب سكت طويلاً وهو يراقبنا نجري المقابلات وكأننا به يقول: "لماذا نتعب ونتحدث. فهل ذلك سيحرك ضمير أحد" أريد ان أستشهد حسام، طفل فلسطيني من مخيم جنين لم يتعد التاسعة من عمره، عاش رعب الحصار الاسرائيلي للمخيم لأكثر من اسبوع. لم ينس للحظة واحدة كل تفاصيل الاجتياح الاسرائيلي للمخيم. فبيته الذي تواجد فيه هو ووالدته وشقيقته، في غياب والده وشقيقه الاكبر مجهولي المصير، كان محاصراً كبقية بيوت المخيم. ممنوع الخروج من البيت. ممنوع النظر من الشباك. ممنوع احداث اي ضجيج. ممنوعات كثيرة فرضها جنود الاحتلال الاسرائيلي، جعلت هذا الطفل يكبر اكثر من جيله بكثير. التقيناه في قرية برقين قرب جنين بعد ان مشى وعشرات اهالي مخيمه ساعات طويلة بعد ترحيلهم عن بيوتهم. الغضب يشع من عينيه، ويرفض الحديث. وقف الى جانبنا امام مجموعة من اهالي مخيمه الذين راحوا يروون القصص عن الجرائم التي ارتكبها جنود الاحتلال مع اهالي المخيم. لم يعلق بكلمة واحدة ولم يفكر بالذهاب للعب مع أترابه الذين كانوا يبعدون عنا امتاراً قليلة. اهتم بسماع المزيد من التفاصيل، وبعد ان اقنعناه بالتحدث الينا بكلمات قليلة، قال بغضب: "أرغب ان أستشهد، أريد ان أفجّر الاسرائيليين. لقد ذبحونا". حاولنا ان نخفف من غضبه، ان نزرع الأمل بمستقبل افضل، لكن شيئاً لم يقنعه. أراد ان يتكلم. فجملة واحدة كانت كافية لأن تفجر من داخله هذا الغضب المكنوز. "اسمعي"، قال يخاطبني، وتنهيدة عميقة تخرج من حنجرته: "إن لم أجد أبي وأخي، يعني الاسرائيليين قتلوهما. ماذا سأفعل؟ لا أدري. لقد شاهدنا الجرافات الاسرائيلية وهي تجرف الشهداء فإن كانا من بينهم فكيف سأجدهما؟ لا اعرف. انا اقول انهما ميتان. انا سأقتل الاسرائيليين سأقتل الجنود. امي وأختي طوال الوقت تبكيان. اريد ان تبكي ايضاً ام وأخت الجندي". وجاء حديث حسام ليؤكد ما قاله كثيرون، بأن ما يفعله شارون سيولد جيلاً آخر مقاوماً. لم يتردد حسام في ما بعد ان يحدثنا، فانطلق يروي ما حصل له ولعائلته وللجيران، قال: "لقد طردونا من البيت، لم يسمحوا لنا ان نأخذ الملابس ولا الماء ولا الطعام. أمرونا ان نرفع ايدينا وان نسير من دون الالتفات الى اية جهة. لقد كان أحد الجنود يضحك ويستهزئ وكلنا نمشي ونخاف من اطلاق الرصاص علينا، حتى أدخلونا الى مكان واسع ورمونا هناك. وراح الجندي يصرخ: لا صوت . لا حديث. لا بكاء. لا نريد ان نسمع صوتكم. أبقونا على هذه الحال ثلاثة ايام. اذكر انني في احدى الليالي بكيت لأنني كنت جائعاً. وبعد ذلك أمرونا ان نغادر المكان فمشينا كثيراً، وعندما وصلنا الى الحاجز بالقرب من برقين رفض الجنود إدخالنا فبكينا وتضايقت لأن النساء طلبن منه مرات عدة ان يسمحوا لنا بالدخول. لقد صرخوا على النساء كثيراً. وشاهدت من بعيد كيف أمروا الرجال بخلع ملابسهم وبالإنبطاح على الارض ثم ربطوا أيديهم الى الخلف. لقد عذبونا كثيراً". حدثنا حسام، ثم طلبنا منه ان يرافقنا قليلاً في جولتنا بين الاهالي، فمشى بضعة امتار ثم انحبس الدمع في عينيه، فنظر الينا وقال: "لا أريد. أريد ان استشهد".