تخطو انتفاضة الأقصى الشريف بثبات نحو شهرها الثالث. عجزت الطلقات المطاطة والرصاص المحرّم دولياً عن وقفها، بل عجزت المروحيات المسلحة والدبابات والصواريخ عن تهدئتها. وهي مستمرة على رغم ان الفلسطينيين الذين يذودون بمهج أطفالهم ونسائهم عن المقدسات، ويدافعون عن ارض عربية عزيزة على كل العرب والمسلمين، لا يتلقون من المساعدات شيئاً يذكر سوى المعونات الطبية. كان يمكن ان تمر انتفاضة 2000 مثلما نسي المجتمع الدولي انتفاضة العام 1988. غير ان بضع لقطات للطفل الشهيد محمد جمال الدرة الذي استشهد برصاص قوات الاحتلال على خاصرة ابيه نبّهت العالم كله الى وحشية الاحتلال وقسوة المحتل وبشاعة اهدار دماء الفلسطينيين. لكن العالم لا يعرف شيئاً عن جوانب مهمة في النضال العربي الفلسطيني، في طليعتها التعاسة النفسية والضنك الذي تكابده الاسر التي فقدت أربابها وأبناءها واشقاءها برصاص جنود الاحتلال. انها معاناة نفسية لا يعلم أحد شيئاً عن مداها. ومؤكد انه ليس ثمة من يعلم مضاعفات تلك المعاناة في المستقبل. وان كان الظن - على الارجح - ان الناس يدركون ان كابوس أحداث الانتفاضة وظلم الاحتلال سيخلّف جيلاً غاضباً مفعماً بالاحباط والبؤس والنزعة الى الثأر والانتقام، حتى لو عمّ السلام المنطقة. وبسبب الفظائع التي يرتكبها المحتلون، وما تتسبب فيه من ردود فعل انتقامية من جانب الفلسطينيين، انتقلت التعاسة الى بيوت الاسر الاسرائيلية نفسها، خصوصاً في القدسالمحتلة والبلدات القريبة منها التي قضم الاحتلال معظمها لتتحول مستعمرات للمستوطنين اليهود. ولم يعد الانكماش الاقتصادي سجناً يرزح تحت بطشه الفلسطينيون وحدهم، فحتى الاسرائيليون بدأوا يذوقون مرارة مضاعفات العنف المجنون الذي تشنه حكومتهم على الفلسطينيين العُزَّل. ذهبت "الوسط" الى بيوت عدد من شهداء انتفاضة الاقصى، وكلفت الزميل جيفري ارونسون ان ينقل مشاهداته في شوارع القدس الغربية المحتلةوالمستعمرات المحيطة بها. جلست الطفلة عبير، التي لم تتعد عامها الثاني عشر، تنتظر والدها، الذي تربطها به علاقة خاصة ومميزة عن بقية افراد العائلة، لتقرأ عليه ما كتبته في موضوع الانشاء تحت عنوان "لا تقتلوني بالرصاص" فهي تعتزّ بما تفتق عنه ذهنها ومشاعرها في هذا الموضوع تحديداً، لأن في محوره جريمة قتل الطفل محمد الدرة الذي اصبح رمزاً للعناء الفلسطيني تحت الاحتلال. وراحت عبير تفكّر اذا كان الموضوع سينال اعجاب والدها الذي كان يواظب على مراقبة دراستها... وكررت قراءته مرات. ولكن، مرت ساعات من دون ان يعود والدها. فانتابها الخوف، كبقية افراد العائلة. لكنها خلدت للنوم. وحين اشرقت الشمس استيقظت على صراخ والدتها التي عثرت على جثة زوجها الشهيد عصام جودة بجوار البيت وقد شوّهت كلياً. ماذا جرى للطفلة عبير فهي التي عاشت بكل جوارحها مأساة عائلة الدرة؟ وهي التي تخيلت مثل كل اطفال فلسطين انها قد تكون محمد الدرة ويرى العالم كله والدها عاجزاً عن انقادها... فيصيح ويستغيث وينظر اليها تموت وهو لا يقوى على عمل اي شيء فيرافقه عذاب النفس طوال عمره. وهي التي كتبت عن تراكم الغضب الفلسطيني ضد الاحتلال اثر وفاة محمد الدرة بعيداً عنها، وها هي تجد نفسها الآن امام جثة والدها المشوهة! ماذا تفعل؟ وبماذا تفكر الآن؟ هل بقيت قيمة لموضوع الانشاء الذي كتبته؟ اجتهدت كثيراً وهي تكتب تصوراتها لأفكار والد محمد الدرة بعد استشهاد ابنه، والآن لا حاجة بها الى الاجتهاد. فهي نفسها، الطفلة الفلسطينية الصغيرة، تعيش الافكار والمشاعر نفسها! لقد تضاءل حلمها الصغير بأن يقرأ والدها موضوع الانشاء، ليتحول كابوساً حول المستقبل كله. لم يعد يهمها الآن ان يقرأ والدها ما تكتب، اصبح همّها كيف تعيش يتيمة؟ كيف تستيقظ لتجد البيت خالياً من سيده الاوحد؟ هل ستواصل تعليمها؟ ومن اين تصرف والدتها على دراستها بعد ان غاب المعيل الوحيد؟ هل سيشتري لها احد الحلوى بعد اليوم؟ هل ستنتظر العيد مثل بقية الاطفال ام انه سيتحول عندها الى زيارة للقبور؟ واذا كانت الحياة تنهار امام ناظريها هكذا، وهي الطفلة ، فماذا سيحدث لاشقائها الاطفال الذين يصغرونها في السن؟! "لم يقتلوها بالرصاص لكنهم بقتل والدها قتلوها ووأدوا حلمها هي وجميع افراد العائلة" راحت تولول والدتها شهناز قدادحة من قرية ام صفا، بجوار رام الله، وهي تنظر الى اطفالها الخمسة الذين باتوا محتاجين الى رعاية مضاعفة ليس فقط اقتصادياً بل اجتماعياً ونفسياً. والسيدة شهناز ام محمد احدى مئات الامهات الفلسطينيات اللواتي يعشن اليوم معاناة حقيقية نتيجة فقدان الزوج او الوالد او الشقيق، وبعضهن فقدن اكثر من عزيز، فالانتفاضة الفلسطينية التي انطلقت منذ حوالى شهرين من اجل حماية الاقصى تكلف العائلة الفلسطينية ثمناً باهظاً واكثر من يعاني من ذلك النساء والاطفال. تجلس ام محمد اليوم في بيتها وتفكر في مستقبلها الغامض، فهي الآن رب البيت، وعليها ان توفر اولاً الحنان الابوي قبل حنان الام وان توفر الحماية، ثم توفر المال لضمان العيش. طوال سنين زواجها لم تفكر يوماً بأن تبحث عن العمل لاعالة الاطفال، فزوجها عمل على مدار 15 عاماً في البناء في اسرائيل، بتصريح رسمي. تجول في مختلف المناطق الاسرائيلية من تل ابيب الى القدسالمحتلة، ووصل الى المستوطنات وعمل فيها، من دون ان يفكر يوماً ان بعض هؤلاء الذين يشيّد بيوتهم في المستوطنات هم الذين سيقتلونه. كان يعود مساء كل يوم الى بيته ليداعب اطفاله ويقف على دراستهم. وفي نهاية الشهر يجلب الراتب ليضمن حياة هادئة ومريحة نسبياً لعائلته. راتبه الذي وصل الى 4 الاف شيكل الف دولار يعتبر دخلاً جيداً للعائلة الفلسطينية. كانت ام محمد تشعر بسعادة واستقرار، مقارنة مع العائلات الفقيرة التي تعيش بجوارها، فلا مشاكل في البيت، ولقمة العيش مضمونة وزوجها عامل كادح لا اعداء له، ولا يشغله سوى اولاده ومستقبلهم. ولكن فجأة انقلبت هذه الحياة رأساً على عقب. حصل ذلك في التاسع من تشرين الاول اكتوبر الماضي، في اليوم السابق لم يذهب ابو محمد الى عمله. وذهب بعد الظهر الى المدرسة ليرافق اطفاله الى البيت. وكان قد عمل قبل ذلك في دهن بوابة مقبرة البلدة. وتقول ام محمد: "عند عودته جهزت له الطعام، لكنه قال انه لم ينه العمل في المقبرة وتبقى له عمل بسيط، فرفض الطعام. وذهب على عجل حتى يعود مبكراً لاولاده. لكنه لم يعد ابداً". كانت العائلة قد افتقدت ابا محمد حين طال غيابه وشرعت بالبحث عنه بمساعدة بعض اهالي البلدة. ولما حلّ الظلام عاد كل الى بيته من دون ان يُعرف مصير ابي محمد، حتى صباح اليوم التالي… "استيقظت مبكراً وكنت قلقة جداً. وقفت على شرفة البيت انظر الى المستوطنات المقابلة لبيتنا، وافكر في مصير زوجي، واذا بسيارته مدحرجة تحت الشارع. عندها هرولت مسرعة الى هناك، اذا بجثته ملقاة على الشارع المحاذي للبيت. لم اصدق…" وخنقتها العبرة ولم تعد قادرة على الحديث. ويواصل سائق تاكسي وصل الى المكان اسمه عبدالحليم: "كانت الجثة على الارض ووجهه الى الاسفل، جلست الزوجة بقربها تبكي وتصرخ وتلطم وجهها وتشد شعرها، فنزلت وبعض الركاب وابعدناها عن الجثة التي لم نستطع ان ننظر اليها. فقد كانت محروقة ومشوهة والاصابات وعلامات العنف تظهر بشكل بارز على معظم اعضاء الجسم". ومنذ ذلك اليوم انقلبت حياة جميع افراد العائلة، الاطفال الخمسة، اكبرهم في الرابعة عشرة واصغرهم محمد ابن السنوات الثلاث لم يستوعبوا ما حدث، لكنهم يدركون ان والدهم استشهد وقتل على ايدي المستوطنين اليهود. الطفل محمد الذي رزقت به العائلة بعد اربع بنات كان صديق والده، لم يفهم ما جرى وكل ما يفعله انه يستنجد بوالده كلما اغضبه احد او بكى من اي سبب فيروح ينادي "بدّي بابا… بدّي بابا" وهنا لا يقتصر البكاء علىه وحده، بل ان كلماته هذه تُبكي العائلة كلها. "ماذا أقول لهم؟" تقول ام محمد. "يسألونني الكثير من الاسئلة واحياناً كثيرة اشعر انني محتاجة لمن يساعدني ويدعمني فلا اعرف. وعندما يبكون احاول تهدئتهم والحقيقة انني احياناً اعجز عن ذلك فأبكي اكثر منهم". أم محمد التي اعتادت تحضير وجبة الفطور لزوجها في الخامسة صباحاً واحتساء القهوة معه، لم تعد تميز بين النهار والليل. "لا أنام حتى لا اشعر بأني استيقظت" اطفالي الصغار كل واحد منهم بات يعاني من مشكلة، فقط قبل يومين ذهبوا الى المدرسة، حتى ان ابنتي الصغيرة 7 سنوات عادت في اليوم الاول، تلهث منهكة بالكاد تأخذ نفسها، ولما سألتها عن السبب لم تجبني. لكن شقيقتها قالت: "انها خافت عند عودتنا وراحت تركض بسرعة وتطلب منا ان نسرع مثلها خوفاً من ان يحضر اي مستوطن ويخطفها". وتتابع: "اعتاد محمد ان يرافق والده كلما غادر البيت، مصادفة فقط لم يذهب معه عند وقوع الحادث مع ان محمد أصرّ وبكى لكن والده رفض. فمشكلتي اليوم مع جميع اولادي، احدى البنات الصغيرات لم تكن تتبوّل في نومها، وهي تعاني اليوم من هذه المشكلة. واحياناً كثيرة تستيقظ في الليل لتصرخ وتبكي، ولما أسألها عن السبب، لا تجيب، وتعود الى نومها. ماذا اقول لك حتى كلمة جحيم لا تعكس طبيعة المعاناة التي نعيشها". ولم تقتصر مأساة العائلة عند هذا الحد، اذ ان المخاوف تراود ام محمد لكون بيت العائلة محاذياً لمستوطنة "حلميش" مما قد يعرّض احد ابناء الاسرة لاعتداء. فكيف ستتدبر امورها وترعى اطفالها؟ هل ستستطيع حمايتهم؟ ومن سيعوضها عن معاش زوجها الشهري؟ المقاول اليهودي، ويُدعى شلومو، اتصل بالزوجة عند الاعلان عن قتل زوجها، لكنها اجابته بغضب شديد وشتمته. لكنه عاد واتصل بأشقاء زوجها، وابلغهم بأنه سيدفع للعائلة كل مستحقات ابو محمد من تعويضات. "ولكن ماذا سيفعل هذا المبلغ؟ ولا ادري الى اي حد سيكون المقاول صادقاً. لقد علمت انه وزوجته تألما كثيراً لمقتل زوجي، فعلاقته بالشهيد كانت ممتازة… انا لا اؤمن باخلاص اليهود ومقتنعة بأنه من الصعب التوصل الى سلام وحياة هادئة معهم" تقول ام محمد والدموع تملأ عينيها. حياة قاسية عائلة الطفل محمد الدرة، الذي استشهد في حضن والده وهزّت حادثة اغتياله العالم تعيش اليوم، وبعد حوالي الشهرين من استشهاده حياة قاسية، يعجز القلم عن وصفها. فالوالد جمال الدرة ابو أياد لا يزال يرقد في مستشفى المدينة الطبية في الاردن، الوالدة لا تفارقها صورة ابنها الذي قتل بوحشية. فإن غابت عن ذهنها للحظات تأتي شاشات التلفزة لتكررها مع كل اغنية وصورة فتذكّرها بمأساتها. تعيش اليوم حياة تشرّد فهي تنتقل بين اطفالها الستة في فلسطين وزوجها المريض في الاردن، حتى قررت هذا الاسبوع ان تخفف من معاناتها فاضطرت الى نقل اطفالها الى الاردن لدى اقارب زوجها. وقال ابو اياد ل"الوسط": "منذ ان اصبت لم أر اولادي. اشتقت اليهم كثيراً" وام اياد تعيش حياة عذاب وتعب ما بين الاولاد وبيني ووجدنا الافضل ان ينتقلوا الى الاردن". وراح يحدثنا عن آلامه واصابته برصاص الجنود الاسرائيليين لكن ألمه لمقتل طفله يفوق كل معاناة. والدته ام اياد التي كانت تجلس الى جانبه عندما تحدثت اليه "الوسط" لم تستطع هي الاخرى الحديث بسهولة. "ماذا تتوقعين منها؟" تساءل ابو اياد، "صورة محمد لا تغيب عنها وصرخاته عند اطلاق الرصاص ترنّ في اذنيها ليل نهار. انه ضناها. اتعرفين ما غلاوة الضنى؟ كيف يمكن وصف مقتل طفل في احضان والده؟". يوم وقوع الحادث خرج ابو اياد بنيّة شراء سيارة: "أصر محمد على مرافقتي. هكذا هو كان يشعر دائماً بانه شاب كبير، اراد ان يرى السيارة قبل ان اشتريها ليعطيني رأيه فيها! وعندما لاحظنا تصاعد المواجهات هربنا الى مكان خال من الناس خوفاً من الاصابة لكنهم لاحقونا". وقتل الطفل محمد الدرة، لكن الملاحقة لم تتوقف. فالموت يطاردهم في التشرد ايضاً. وحياتهم باتت مشوهة. فهم الآن بعيدون عن الوطن، بسبب معالجة الوالد من جراحه الخطيرة. والعالم الذي اهتز لمشاهدة مأساتهم، يتعامل معهم من خلال ذلك الشريط التلفزيوني فقط، وهم يعيشون وحدة قاتلة، الطفل المغدور محمد أفرغ بغيابه حياتهم من معناها. بقية الاولاد يحظون برعاية الاقارب، لكن صورة شقيقهم المقتول تسيطر على كل شيء في حياتهم. والوالدان في المستشفى لا يستطيع احدهما مواساة الآخر، فيتحول يومهم بكاء مشتركاً. والغموض يكتنف مستقبلهما، فكيف يعودان الى الوطن؟ ومتى؟ وكيف سيستقبلهما الاهل بعد ما جرى؟ واي حياة ستكون من دون ولدهما محمد؟ ونجد الوالد وقد بدأ يستعد لتعزية نفسه… "نحن نعيش في جحيم، ولكن ماذا نفعل؟ نحن لسنا اول عائلة فلسطينية منكوبة، ولن نكون آخر عائلة منكوبة. محمد ليس الوحيد الذي قتل واستشهد، فهناك عشرات الاطفال وربما غيره قتل ببشاعة وهمجية اكثر من محمد، لكن الكاميرا لم تلتقط صورته واهله لا يعرفون ما حصل له، وربما يكون قد دفن ودفنت معه الصورة القاسية لقتله". ابو اياد الذي اصيب برصاص الاسرائيليين عمل سنوات طويلة في مهنة البناء في مختلف المناطق الاسرائيلية، والمصدر المالي الذي كان يوفّر له معاشاً لم يعد متوافراً. وحتى اليوم لا يعرف كيف سيتدبّر امور اولاده وعائلته. "لا ادري اي مستقبل ينتظرنا. فأنا اليوم اعاني من اصابة صعبة في يدي وفي الحوض ستمنعني من العمل، لا ادري ماذا نفعل؟ ولا ادري ماذا ستفعل ام اياد التي اشعر بمعاناتها كل ساعة ولحظة؟ اشعر كم هي حزينة وخائفة من المستقبل". ويرى ابو اياد أن سقوط ابنه شهيداً واجب مقدس على كل فلسطيني. "لن امنعه المشاركة مع الآخرين في الانتفاضة" رد عندما سألناه اذا ما كان سيعارض احد ابنائه اذا اراد ان يشارك في الانتفاضة. وقال ان ادعاء الاسرائيليين بأن الامهات الفلسطينيات لا يحرصن على اطفالهن ويرسلنهم الى ساحة الحرب ما هي الا دعاية صهيونية، والدليل، كما يقول: "اصابة واستشهاد اطفال وهم عائدون من المدارس، فقد شاهدنا كيف اطلق الجنود عليهم الرصاص والغاز. الاسرائيليون معنيون بقتل اطفالنا فهم يعتقدون بأنهم بذلك ينفذون سياستهم الرامية الى ابادة الشعب الفلسطيني، لكنهم لا يعرفون ان المرأة الفلسطينية ستبقى ترضع اطفالها حليب العشق لهذا الوطن، فالاسرائيلي لن يقتل حلمنا". كفاية تصيح: كفى! الطفل عبدالله الذي لم يتعد سنواته الثلاث بعد مدلل عائلته. الجميع يحبونه ويداعبونه، كيف لا وقد رزق به والداه بعد عشر سنوات من العلاج ليأتي ليضيء البيت. هذا المدلل يحب لعبة الهاتف ويفضلها على كل شي، وبالطبع لا يعرف بعد ما جرى لوالده. ولا يدري ما معنى ان والده استشهد، لكن كل ما يعرف عن لعبته اليوم انه يحمل سماعة الهاتف الدمية يضعها على اذنه وامام الجميع يروح ويتحدث مع نفسه": "بابا... الو بابا... وين أنت؟ تعال بابا". يقول وبراءة الطفولة تترسم على وجهه والدموع تنهمر من عيون النساء اللواتي وصلن لتعزية امه وجدته. ويكمل غير عابئ "الو بابا. خلص. بابا مات. طخ يهود. نزل دم. تعال بابا". الاب هو هاني عبدالله مرزة 37 عاماً من جنين، استشهد في 10 تشرين الثاني نوفمبر عند شارع الناصرة جنين في مواجهات قاسية مع جنود الاحتلال. زملاء هاني يقولون انه قبل استشهاده غضب غضباً شديداً لمقتل الفتى اسامة غزوقة الذي اصيب في صدره برصاصة قتلته على الفور، عندها لم يعد هاني يفكر بشيء، لا بزوجته التي فقدت شقيقيها الشهيدين قبل اسبوع فقط، ولا بوالدته المريضة، ولا بطفله عبدالله حلم حياته، فراح يواجه الجنود. واذا برصاصة من طراز "دمدم" المحرمة دولياً تصيب عنقه لتفجّر الاوعية الدموية وتخترق شظاياها دماغه. "زوجك اصيب برصاصة" جاء الخبر لزوجته كفاية التي كانت تجلس في بيت والديها، اذ ما زال بيت العزاء مفتوحاً امام جمهور المعزّين. فقد فقدت شقيقيها التوأمين هلال وبلال ابو صلاح 20 عاماً في يوم واحد. ولم تعد تدري ما تفعله، وكل ما كان يقلقها وتخافه بات حقيقة. "هاني مات؟" سألت. فصمت شقيقه مهند. تقول كفاية: "تركت ابني عبدالله واسرعت الى مستشفى نابلس. وكان وضع عبدالله مرعباً. لم اصدق. لكنها حقيقة. فقد اخرج من غرفة العمليات وبدا انه فارق الحياة". استسلمت كفاية لارادة الله مقتل شقيقها وزوجها. اما ابنها، فهي تتضرع الى الله ان يحفظه من الأذى. وتقول: "من حقي على الاقل ان ارى طفلي شاباً كبيراً. هذا هو املي الوحيد في الحياة". كفاية التي كانت تعيش حياة قاسية بسبب ظروفها الاقتصادية كانت تحلم طوال الوقت بتحسين وضعها. فساعدت زوجها على ذلك، كانت تستيقظ صباحاً تجهز عجينة القطايف لزوجها فيذهب لبيعها، وكل يوم كان يعود مع حفنة من النقود تكاد تكفي للطعام، اربعون او خمسون شكيلاً 10 دولارات. "بذلنا كل جهدنا لتوفير النقود، حتى نعيش حياة افضل. فبيتنا هو عبارة عن غرفة واحدة هي غرفة نوم وغرفة استقبال ضيوف ومطبخ وغرفة لعب لابني، هي كل شيء في حياتنا. انها حياة مقيتة. لكن املنا كان كبيراً بتحسين الوضع، تفاءلنا عندما انجبنا عبدالله وقلنا ان حياتنا بدأت من جديد. ولكن اين هي هذه الحياة اليوم؟ وراحت تتكلم بأسى، وابنها عبدالله يبكي الى جانبها، فبماذا ستعتني؟ وماذا ستتحمل؟ طفلها كلما شاهدته وسمعته يلفظ كلمة "بابا" تنهار من البكاء، او لفقدانها شقيقيها الغاليين عليها، وفقدان زوجها من بعدهما، ام امها التي اصيبت بعد استشهاد زوجها بنوبة قلبية لعدم تحملها المصائب: استشهاد ابنيها ثم زوج ابنتها. "كنا نعيش على ما يحضره زوجي من نقود، اليوم لا يوجد لدينا اي مصدر دخل. صحيح ان عائلتي وعائلة زوجي تقفان الى جانبي ولكن الى متى؟ وهل يمكن ان يستمر هذا للابد؟". لكن كفاية تصمت وتروح تؤنب نفسها. كيف تتكلم عن المال والدخل. ان اكثر ما يقلقها هو طفلها عبدالله "اكذب عليك ان قلت لك انني لا اخاف عليه، انام وانا احلم به واستيقظ وكل تفكيري فيه، لا اريد ان يصاب بأي أذى، لا اريده ان يمرض. لا اريد حتى ان يقع ارضاً، او يصاب. وطبعاً لا اريده ان يقتل. اخاف جداً ان يصاب، سأتحمل العيش بلا نقود وبلا طعام، بالبكاء والالم على فقدان شقيقي وزوجي. سأتحمل واصبر، لكنني لن اتحمل ان يُمسّ ابني عبدالله بسوء . انه خوف يرافقنا طوال ساعات اليوم ويبدو انه سيرافقني طول عمري". أطفال بلا طفولة ... ويبقى السؤال ما مستقبل الام الفلسطينية وهي تزفّ كل يوم شهيداً، وتفقد زوجها وشقيقها وابنها، وتشاهد بأم عينها نزيف الدم وبشاعة القتل؟ هذا السؤال وجهناه الى الاخصائية النفسية نيلي ابو زينة من جمعية المرأة العاملة الفلسطينية التي رافقت خلال الانتفاضة عائلات فقدت شهيداً او اكثر فقالت ان المرأة الفلسطينية والطفل الفلسطيني هما الاكثر ضرراً مما يحدث. واضافت ابو زينة: "الحادث وظرف الاستشهاد قاسيان جداً، مما يضع العائلة الفلسطينية في وضع قاس، فهناك حالات انهيار صعبة لامهات شهداء، الحقيقة لم نشهد مثلها من قبل. الاصابات تأتي مباشرة على الرأس والعنق. وهناك الكثير من حالات التنكيل والتعذيب، وهذه المرة شاشات التلفزة نقلت الكثير من الصور التي تقشعر لها الابدان، وهذا بحد ذاته اثّر بشكل كبير على العائلات المنكوبة خصوصاً النساء والاطفال. وذكرت ابو زينة من خلال زياراتها للعائلات المنكوبة ان الظروف الاجتماعية والاقتصادية لتلك الاسر صعبة للغاية، اطفالها يعانون من مشاكل نفسية وتوترات كثيرة وينعكس ذلك في الغياب المتواصل عن الدراسة والتراجع في التحصيل العلمي، والقلق والعصبية والتبول اللاارادي والخوف، الى حد ان جميع الاطفال في البيت ينامون في غرفة واحدة مع الوالدة تاركين اسرّتهم فارغة خوفاً مما يسيطر على تفكيرهم. وكذلك فان الانتفاضة جعلت الطفل الفلسطيني يبتعد عن طفولته وعن الالعاب الخاصة به ولم يعد امامه الا الحجارة والمقاليع كما انه لم يعد يبالي بدراسته. ويرغب طوال الوقت الحديث عن الانتفاضة داخل المدرسة وهذا بالطبع يؤثر سلباً على مستقبل الاطفال". اما المرأة الفلسطينية، تقول ابو زينة، فانها ستضطر الى البحث عن عمل لتعيل الاسرة بدلاً من الزوج، وطبعاً في الظروف الحالية العمل غير متوفر بشكل كاف ويقتصر احياناً على اعمال التطريز في النوادي النسائية والجمعيات. هذا الامر يزيد من العبء على الزوجة، فهي ستتحمل مسؤولية العمل خارج البيت وتربية الاطفال وهذه مسؤولية كبيرة والكثير من النساء بل معظمهن لم يعتدن العمل، وقد يكون من الصعب عليهن التوفيق بين العمل والبيت، مما قد يدخلهن في وضع عصبي متوتر