تؤكد شهادات الناجين من "العملية العسكرية" التي نفذها الجيش الاسرائيلي ضد اهالي مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين ان ممارسات هذا الجيش فاقت في اشكالها كل "جرائم الحرب" التي تشملها وثيقة جنيف الرابعة لحقوق الانسان. وتوجهت امس الى المخيم وفود المؤسسات الانسانية للمرة الاولى منذ بدء حرب الجيش الاسرائيلي عليه بعد ثلاثة عشر يوما من بدايتها وسط توجس من ان واقع بعض الاحياء في المخيم اشد فظاعة وهولا مما نقله مئات الفلسطينيين الذي فروا من نيران وبطش الجنود في افاداتهم المشفوعة بالقسم. وفي الوقت الذي حولت فيه اسرائيل ما جرى في أزقة المخيم وبيوته الى "حرب دفن جثث" الشهداء الفلسطينيين، يتجسد بعض "جرائم الحرب" التي ابتكرها الجنود الاسرائيليون وقادتهم أمام اعين الاطفال والنساء والرجال من خلال روايات بعض الذين تحدثت اليهم "الحياة". تؤكد احدى الشهادات ان جنود الاحتلال عمدوا في اول ايام الهجوم على المخيم في الثالث من الشهر الجاري الى جعل اكتاف اطفال ركائز لبنادقهم. وقال احد اللاجئين ل"الحياة" وهو ما زال يرتعد من قسوة ما عايشه ان الجنود الاسرائيليين اقتادوه وولده الذي لم يتجاوز الثالثة عشرة من العمر معهم بعدما اجبروه على ترك اطفاله ال داخل منزله الذي كان يتعرض للقصف واجبروهما على خلع ملابسهما باستثناء الداخلية والقوا بهما في غرفة مليئة بالزجاج المكسور. واوضح ان الجنود ادخلوهما بعد ثلاث ساعات بهذا الوضع المؤلم الى بيت موثقي الايدي، واوقف احد الجنود ولده امام نافذة احدى الغرف فيما اوقفه جندي اخر امام نافذة مقابلة. ووضع الجنديان بندقيتيهما على كتفي الاب والابن وشرعا باطلاق النار. واضاف ان هذا الوضع استمر نحو ساعة ونصف ساعة رفض خلالها الجنود توسلاته لهم بترك ابنه والاكتفاء به. وفي النهاية، اقتيد الاب بعدما فقد حاسة السمع في أذنه اليمنى الى معسكر "سالم" الاعتقالي لاستكمال تعذيبه والتحقيق معه. ولا يعرف الاب مصير ولده ولا بقية اطفاله. ورفض اللاجئ الفلسطيني الكشف عن اسمه، مشيرا الى ان الجنود الاسرائيليين قتلوا اربعة من افراد عائلته واعتقلوا ثلاثة آخرين وهو يخشى على حياتهم. وفي يوم الاربعاء ذاته، اكد مجاهد قريني 20 عاما ان اطلاق النار الكثيف من الرشاشات الثقيلة الذي بدأ به الجنود هجومهم على المخيم بعد محاصرته كان عشوائيا ومن دون انذارات مسبقة في حارة "جرة الذهب"، مشيرا الى ان الرصاص كان يتساقط على منازل المواطنين من دون استثناء. وكان الطابق العلوي من المنزل المكون من طابقين قد احرق بالكامل جراء قصفه بصاروخين. وحاولت عائلة مجاهد الخروج من المنزل هربا من الرصاص، غير ان الرصاص كان لهم بالمرصاد على عتبة منزلهم ايضا فاصيب مجاهد بشظايا في ظهره وقدمه، ووقع على الارض ولم يتمكن افراد عائلته من مساعدته وفروا هاربين من شدة القصف. وبعد نحو ثلث ساعة، انتشله شابان فلسطينيان ونقلوه الى منزل مجاور كان يؤوي ما لا يقل عن 100 انسان كما قال ل"الحياة". واضاف ان الشابين صعدا الى الطابق العلوي من البيت وسمعا اطلاق نار كثيف اعقبه قصف بالصواريخ. زحف مجاهد ليستطلع ما الذي حدث بعد ساعات. فشاهد خمس جثث كانت اثنتان منها متفحمتين وثلاث تحولت الى اشلاء متناثرة. خرج مجاهد من المنزل باحثا عن من يسعفه ويخرج الشظايا من جسده ووصل صباح الجمعة الى "حارة الحواشين" حيث شاهد 20 من الجرحى والشهداء، ولم يحدد عدد الجرحى منهم. وقال انه شاهد سلاحا بالقرب من جثتين فقط وان بقية الضحايا لم يكونوا مسلحين. ودخل الى منزل "ابو محمود" الذي كان ايضا مكتظا بالاهالي الفارين من القصف. وهناك شاهد اربعة جرحى: احدهم بترت ساقه، وامرأة اصيبت بشظايا في رأسها وحرق وجهها. وانتقل الى منزل "ابو سامي الحواشين" ومكث فيه حتى صباح السبت. وشاهد جرافة اسرائيلية كبيرة تسبق دبابة و"تفتح" لها الطريق من خلال تجريف منازل لا زال اصحابها بداخلها خرجوا "وكأنه يوم القيامة" يحملون اطفالهم على اكفهم ويصرخون فزعا… والجرافة مستمرة في عملها وكأن سائقها لا يرى البشر الذين يركضون ويتعثرون بالركام. وفي الجهة المقابلة، انهار بيت على من فيه او من كان فيه قبل ساعة على الاقل بعد ان امطرته المروحيات الاسرائيلية بالصواريخ. وعلى اطراف المخيم، تمكن مجاهد من الوصول الى سيارة اسعاف تابعة للهلال الاحمر، ولكن الجنود الاسرائيليين اوقفوها ونزعوا كمامة الاوكسجين والاسلاك الطبية التي وضعها احد افراد طاقم الاسعاف على جسده، واحتجزوه نحو ساعة. وما ان تحركت السيارة حتى اوقفها جنود آخرون اعتقلوا مجاهد واوثقوا يديه باسلاك معدنية ونقلوه بالمدرعة الى "حرش السعادة" خارج المخيم حيث تم تجميع عشرات الشبان الذين كانوا جميعهم بالملابس الداخلية. هنال ايضا اخرج احد الاطباء العسكريين شظية من ظهر مجاهد، تبعها تقاطر للجنود الاسرائيليين الذين تناوبوا على ضربه والتنكيل به وهو ملقى على الارض لمدة ست ساعات. وقال انه شاهد معتقلا قطعت رجله بدا وانه اصيب منذ ساعات طويلة ولم يقدم له أي علاج. وكان "وليد" شاهدا على جريمة حرب اخرى، اذ رأى بأم عينيه ثلاثة اشخاص يعدمون ميدانيا بعد ان اعتقلهم الجنود. وشاهد وليد ايضا جرافة اسرائيلية تدوس جثث شهداء وهي تشق طريقها الى زقاق لا يزيد عرضه عن متر جرفت المنازل على جانبيه ليصبح عرضه 20 مترا. اما عبدالباسط فقد اشار الى ان احد القناصة اطلق رصاصة واحدة باتجاه رأس طفل لم يتجاوز العاشرة من العمر وارداه قتيلا. وتقف الكلمات عاجزة عن التعبير عما اعتمر في قلب عبدالله وشاحي وهو يحاول انتزاع شقيقه الاصغر الذي لم يتجاوز التاسعة من العمر من حضن والدته، "ام وشاح"، التي قتلها رصاص قناص اسرائيلي امام منزلها في ثالث يوم للهجوم. وعاش عبدالله وافراد عائلته ثلاثة ايام مع جثتي والدته وشقيقه منير ذو السبعة عشر ربيعا داخل غرفة واحدة، وأصر شقيقه الاصغر على اسناد رأسه الى حضن والدته المسجاة امامهم رافضا ان يشرب جرعة ماء "وهو ينتظر بلا جدوى ان تفتح امي عينيها وتسقيه بنفسها". وتابع يقول انه في اليوم الثالث حاول الخروج من المنزل رافعا راية بيضاء حاملا طفليه بين يديه لمطالبة الجنود بالكف عن قصف المنزل الذي يؤوي 11 طفلا بعدما احرقوا منزل الجيران وباتوا يطلقون النار على نوافذ المنزل بعدما "ازعجهم" عويل الاطفال المرعوبين والخائفين. ولكن الجنود اعتقلوا عبدالله وحولوه وعشرة آخرين من جيرانه الى دروع بشرية. وقال: "ارغمونا على الاصطفاف واحدا تلو الاخر، نحن في المقدمة وهم في المؤخرة، يقتحمون المنازل ويطلقون الرصاص بكثافة، ثم وضعونا على الارض مكبلين واشباه عراة، ثم تحركت احدى الدبابات باتجاهنا وقبل ان تدوسنا الدبابة بلحظات اوقفها احد الجنود، وكان الرصاص ينهمر من المروحيات والدبابات بكثافة ما حمل الجنود انفسهم على الاحتماء خلف الجدران بينما تساقط الرصاص حولنا كالمطر". وتحدث أحمد الاعرج عن "كابوس" معسكر الاعتقال "سالم". وقال احمد الذي يعاني من آلام في الظهر بسبب انزلاق غضروفي وامراض جلدية انه ترك ملقى على الارض لمدة ثلاثة ايام تحت اشعة الشمس نهارا والبرد ليلا وتعرض لشتى انواع التنكيل والضرب بأعقاب البنادق وبساطير الجنود. واوضح ان شعره بدأ يتساقط امام اعين الجنود جراء تعرضه للشمس ولكنهم لم يصغوا اليه عندما ابلغهم ان تعرضه للشمس يضر بحياته. واضاف: "قال لي احد الجنود... انتم ارهابيون سنقتلكم جميعا... وان نجا احدكم فستبحثون عن مخيمكم ولن تجدوه". وفي معسكر الاعتقال تحولت صور فورية لوجوه مئات الشبان كتب خلفها اسمهم بالعبرية والمنطقة التي اعتقلوا فيها الى بطاقات هوية اختزل فيها الجنود هويات بشر لهم حياتهم وعالمهم وعائلاتهم. وهؤلاء جميعا حظر عليهم مغادرة القرى التي ابعدوا اليها قسرا ولا يعرفون ما الذي جرى لاطفالهم وافراد عائلاتهم. ذلك ان الجيش الاسرائيلي فرض عليهم التشرد واللجوء والتشتت مرة اخرى بعدما طردهم من قراهم في محيط حيفا قبل 54 عاما بالضبط، ليذكر "مسلخ جنين" الفلسطينيين، في الذكرى الرابعة والخمسين لنكبتهم، بنكبة جديدة تضاف الى نكبتهم الاولى.