في الاول من تشرين الثاني نوفمبر 2002، دعا ريتشارد بيرل رئيس دائرة التخطيط السياسي في وزارة الدفاع الاميركية، ودوغلاس فيث مساعد وزير الخارجية الاميركية، وكلاهما يهودي أميركي متحمس للصهيونية كبار العسكريين الاميركيين الى اجتماع مغلق للبحث في التطورات في الشرق الاوسط. خلال الاجتماع، عرض بيرل وفيث على المؤتمرين لوحتين بيانيتين على شاشة عملاقة، لشرح أهداف الحرب الاميركية على الارهاب في الشرق الأوسط. اللوحة الاولى تضمنت الاضلاع الثلاثة الآتية مع توصيف خاص مرفق منها: الضلع الأول العراق، ووضع الى جانبه تعبير "الهدف التكتيكي". الضلع الثاني منطقة الخليج، ووصفت بأنها "هدف استراتيجي". والضلع الثالث مصر وأرفقت بالتعبير "الجائزة الكبرى". اللوحة الثانية لم تقل إثارة، وهي كناية عن مثلث تضّمن التوضيحات الآتية: إسرائيل هي فلسطين. الأردن هو فلسطين. والعراق هو المملكة الهاشمية. هذا الاجتماع الذي لم يهتم بيرل وفيث حتى بإبقاء مداولاته سرية فسرّبت بعض المعلومات عنه الى الصحافة الاسرائيلية، بدا أقرب الى كونه مؤتمراً صهيونياً عالمياً منه إلى ندوة تخطيط داخلية أميركية. وقد شبّهه بعضهم أيضا بمؤتمر السلام السيئ السمعة في باريس العام 1919، الذي شرعن من شرعية تقسيم المنطقة العربية وتقاسمها بين بريطانيا وفرنسا، وفق ما جاء في اتفاقات سايكس - بيكو. لا بل ذهب المحلل الاستراتيجي كالستون الى حد القول بأن هذا الاجتماع "ذكّر الكثيرين بما حدث في ثلاثينات القرن العشرين، حين سيطر المتطرفون الايديولوجيون على دولة أوروبية قوية ألمانيا ثم فجرّوا العالم بالحرب. والآن فإن بيرل وفيث، ومن ورائهما اللوبي اليهودي الصهيوني القوي وإسرائيل، يسيطرون عملياً على أعتى جهاز عسكري في التاريخ مقره في البنتاغون وعلى أقوى امبراطورية منذ روما ومقرها في واشنطن". لكن ماذا يريد بيرل وفيث بالتحديد؟ ثمة وثيقتان في غاية الخطورة تلقيان أضواء باهرة على ما يعدّه هذا الثنائي غير المرح والمتطرف لكل من استخدامات القوة العسكرية في الشرق الاوسط، ولجغرافية الشرق الاوسط نفسه. الوثيقة الأولى تعود إلى أواسط التسعينات، حين ترأس ريتشارد بيرل، الذي يطلق عليه في واشنطن لقب "الفارس الأسود" بسبب شدة تطرفه، لجنة هدفها مساعدة إسرائيل - نتانياهو على بلورة استراتيجيات جديدة لتطوير الصهيونية. وضمت اللجنة الى بيرل: دوغلاس فيث، جيمس كولبرت، تشارلز فيربانكس جونيور، روبرت ليوفنبرغ، ديفيد فيرسمر، ميراف فيرسمر. وعدد من هؤلاء أصبح في ما بعد إما عضواً أو مستشاراً في إدارة جورج بوش. وخرجت هذه اللجنة بتقرير حمل العنوان: "الانقطاع الواضح: استراتيجية جديدة لضمان المنطقة"، تضمن المحاور الرئيسة الآتية: إسرائيل تعيش مشكلة كبرى. فالصهيونية العمالية التي سيطرت على الحركة الصهيونية لمدة 70 عاماً، ولدّت اقتصاداً مقيّداً وجامداً. والجهود لإنقاذ المؤسسات الاشتراكية في إسرائيل - والتي تضمنت السعي لحلول فوق قومية على حساب السيادة القومية من خلال عملية سلام شعارها "الشرق الاوسط الجديد" - نسفت شرعية الأمة اليهودية وقادت إسرائيل الى شلل استراتيجي. وبالتالي، يتعّين الآن إحداث قطيعة واضحة مع هذه العملية، وتطوير عملية جديدة تستند الى أسس فكرية مختلفة تماماً، تعيد لإسرائيل المبادرة الاستراتيجية، وتوفّر للأمة اليهودية المجال لاستخدام كل الطاقات من أجل إعادة بناء الصهيونية. مرتكزات العملية الجديدة تتضمن: - العمل بشكل وثيق مع تركياوالأردن لاحتواء وزعزعة معظم التهديدات الخطيرة. وهذا يفترض قطيعة كاملة مع شعار "السلام الشامل"، واستبداله بالمفهوم الاستراتيجي التقليدي المستند الى موازين القوى. - تغيير طبيعة العلاقات مع الفلسطينيين، بما في ذلك حق الملاحقة الساخنة للدفاع عن النفس في كل المناطق الفلسطينية، ودعم بدائل لسلطة عرفات التنفيذية على المجتمع الفلسطيني قارن وثيقة 1996 هذه مع شعارات إدارة بوش في 2001 حول حق إسرائيل في الدفاع عن النفس وإيجاد بدائل "تنفيذية" لعرفات. - تطوير أسس جديدة للعلاقات الاسرائيلية - الاميركية تستند الى الاعتماد على الذات والنضج والتعاون الاستراتيجي، إضافة الى تبنّي القيم التي يحبها الغرب مثل "السلام من أجل السلام" و"الاعتماد على الذات" و"موازين القوى". وتكرّس وثيقة بيرل، التي اعتمدتها حكومة نتانياهو لاحقاً كبرنامج عمل لها، حيزاً كبيراً من اهتمامها لسورية، حين تتطرق الى مسألة قيام إسرائيل بما أسمته "تغيير بيئتها الاستراتيجية" بالتعاون مع تركياوالأردن. فهي تدعو الى إضعاف دمشق واحتوائها وإحباط طموحاتها الاقليمية من خلال إطاحة الرئيس العراقي صدام حسين. وتشير إلى أن الاردن تحدى هذه الطموحات أخيراً، حين ظهرت دعوات إلى إعادة الحكم الهاشمي إلى العراق، الأمر الذي اعتبرته دمشق تهديداً خطيراً لها، لأنه قد يكون مقدمة لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط. لكن هذا بحد ذاته يجب أن يدفع إسرائيل الى دعم المشاريع الجديدة لإعادة تعريف العراق. هذا كان غيضاً من فيض الوثيقة الاولى. أما الوثيقة الثانية التي تلتها بسنوات قليلة، فلم تحمل توقيع بيرل. لكن بصماته كانت واضحة في كل سطورها، خصوصاً أنها صدرت عن مركز الدراسات الاستراتيجية المتقدمة له مقران في واشنطن والقدس المحتلة في آن الذي يقيم بيرل علاقات وثيقة معه. وعلى أي حال، الوثيقة الثانية كانت مجرد امتداد تفصيلي للأفكار الرئيسة التي وردت في الاولى. فهي انطلقت أيضاً من الاعتبار بأن "التنافس الراهن على وراثة العراق المستمر منذ العام 1991، سيؤثر بقوة وعمق على موازين القوى في الشرق الأوسط. ومن مصلحة الغرب أن ينتصر الأردن في مثل هذه المواجهة، لأنه سيكون حينذاك حجر الزاوية في ميزان قوى مستقر يمكن أن يشمل أيضاً إسرائيل وتركيا". بيد ان التقرير الثاني يفترق عن الأول في نقطة مهمة: الدعوة الصريحة والمباشرة إلى تدمير القومية العربية العلمانية بصفتها عقبة في وجه المصالح الغربية، لا كما يعتقد بعض الاميركيين حاجزاً في وجه الاصولية الاسلامية. يقول: "إصلاح القومية العربية العلمانية وتعزيزها سيكونان جهداً عقيماً وخطأ استراتيجياً كبيراً. قبل سنوات تعلّم الغرب بأن مقاومة المد الاصولي في إيران من خلال احتضان القومية العربية العلمانية في العراق، كان خطوة خطرة وخطاً متفجراً. والدرس نفسه يجب ان يطبق على سورية". ويضيف: "من مصلحة كل من إسرائيل والغرب تسريع زوال القومية العربية العلمانية. إنها تتأرجح بالفعل الآن على شفير الانهيار. لكنها قد تكون خطرة في لحظاتها الأخيرة، ولذا لا يجب اعتبارها حليفاً في غرفة الانتظار". هل اتضحت الصورة الآن؟ يفترض ذلك. فهي صورة توضح ان بيرل وصحبه خططوا منذ سبع سنوات لما نشهده اليوم من سياسات أميركية في فلسطين وسورية والعراق ومنطقة الخليج. ففي الأراضي المحتلة تحققت أهداف هذا الفريق بالكامل، حيث أطلقت يد إسرائيل للقيام ب"الملاحقات الساخنة" بحجة الدفاع عن النفس، كما أعلن مراراً الرئيس بوش ووزير دفاعه رامسفيلد. كما بات شعار "البديل التنفيذي" للرئيس عرفات هو الحلوى المفضلة في البيت الابيض. وفي سورية، وعلى رغم عدم نجاح فريق بيرل حتى الآن في ضم هذه الدولة "رسمياً إلى محور الشر"، إلا أن العديد من المسؤولين الاميركيين، خصوصاً في البنتاغون، وفي الكونغرس ألمحوا الى أن سورية ستكون مطالبة بعد إسقاط صدام ب"كشف حساب" حول علاقاتها مع "حزب الله" و"حماس" و"الجهاد" والمنظمات الفلسطينية الأخرى. بيد أن الانتصار الأكبر والأهم لفريق بيرل تحقق في العراق. إذ بات واضحاً الآن أنه أقنع إدارة بوش بوضع الحرب مع العراق على جدول أولوياتها الرئيسية قبل وقت طويل من أحداث 11 أيلول سبتمبر. وبيرل نفسه كان يدعو علناً إلى غزو العراق منذ اللحظة الأولى التي وطأ فيها أرض البنتاغون بصفته الرجل الثاني فيه بعد وزير الدفاع. لكن تبقى خرائط المنطقة. فهل سيتم تتويج كل هذه الأرباح "البيرلية" بنصر نهائي يأخذ شكل إعادة تشكيل الشرق الاوسط وفق أسس قبلية - عشائرية، كما يدعو الفريق، استناداً إلى حلف ثلاثي عتيد يضم إسرائيل وتركياوالأردن؟ هذا السؤال ستجيب عليه حصيلة الصراعات الراهنة حول "المسألة العراقية". لكن يبدو من الآن أن إدارة بوش تدور حالياً مع آلتها العسكرية العاتية في حلقة النار التي رسمها لها بيرل وفريقه. فقد كشف البروفسور جون لويس غاديس، أستاذ التاريخ العسكري في جامعة يال الاميركية أخيراً في "فورين بوليسي" أنه "وعلى عكس المظاهر، بات الرئيس بوش يمتلك استراتيجية كبرى هي كناية عن خطة لتغيير الشرق الأوسط الاسلامي بأكمله لجلبه مرة وإلى الأبد الى العالم الحديث". ولئلا يكون هناك أي لبس حول مضامين هذه الاستراتيجية، شدّد غاديس على الآتي: 1- العراق سيكون الهدف الملائم لضربتنا المقبلة، لأنه إذا تمّكنا من إطاحة صدام وكررنا ما حصل في أفغانستان على ضفاف الفرات، فسننجز المهمة غير المكتملة في الخليج، ونقضي على أسلحة الدمار الشامل. 2- وهذا سيجعلنا أيضا قادرين في الوقت ذاته على وضع حد نهائي لكل أنواع الدعم التي يوفرها صدام للأرهابيين، خصوصاً أولئك الذين يستهدفون إسرائيل. 3- كما سنتمكن أيضاً من الحصول على كميات وفيرة من النفط الرخيص، وسنقوّض كل الانظمة الرجعية في بلدان اخرى في الشرق الأوسط. حتى الآن، لم نتحدث سوى عن نجاحات بيرل وعصبته في السيطرة على مفاتيح الفعل العسكري والاستراتيجي الاميركي. لكن آن الأوان لنتساءل: هل يمكن حقاً لمثل هذه الاستراتيجية الصهيونية والاميركية الآن أن تنجح؟ يمكن الاجابة سريعاً وبثقة: لا. فهذه التوجهات بتركيزها الشديد على القوة العسكرية وموازين القوى، لن تفعل شيئاً سوى دفع الولاياتالمتحدة إلى فرض سيطرتها العسكرية المباشرة ليس فقط على العراق بل أيضاً على مناطق شاسعة من الشرق الأوسط الكبير. وعلى رغم أنها تمتلك ما يكفي من ترسانات وتكنولوجيات متطورة لتحقيق ذلك، إلا أنه سيكون من المشكوك به كثيراً ان تنجح في الحفاظ طويلاً على ما حققته. بكلمات أوضح: الولاياتالمتحدة قد تغرق في وحول منطقة وصفها محمد حسنين هيكل عن حق بأنها، ولأسباب عدة معّقدة، تتأرجح بقوة بين خيارين لا ثالث لهما: اليأس والانتحار! وهذا الوصف أطلق قبل بروز إنتحاريي أسامة بن لادن واستشهاديي "حماس" و"الجهاد" بفترة غير قصيرة. لقد نقلت "فاينانشال تايمز" أخيراً عن مسؤول بريطاني من ذوي الدم البارد تحذيره من ان "اليهود يجرّون أميركا إلى مواجهة شاملة مع العرب والمسلمين". هل كان المسؤول يلمح الى بيرل وجماعته؟ ربما!