عمّ يبحث عبده خال ؟ يخطر هذا السؤال بإلحاح في بال القارئ وهو يتصفّح روايته الجديدة "الأيام لا تخبّئ أحداً" التي صدرت أخيراً عن "دار الجمل" في ألمانيا. ولعلّ الكاتب نفسه هو الذي يدفعنا إلى هذا السؤال، إذ يحرص على تأسيس طريق خاص به، ربما لم يكن واضحا تماما في مؤلفاته السابقة، لكنّ من يعود إلى كتابات خال بتمعّن، سيقف بلا شكّ على علامات ومؤشرات تشي بالطريق التي يعتزم انتهاجها، محافظاً على السرد، ومتشابكاً مع التاريخ والسير الشعبية، كلوحات خلفية تمثل ديكوراً لا غنى للمشهد عنه. أما في رواية "الأيام لا تخبّئ أحداً"، فيسلك خال طريقا وعرا حيث يسلم الأحداث لشخصيات كثيرة: كل كلمة يقف خلفها سارد مغاير لبقية الأصوات التي تسرد أحداث حارة الهندامية. كل شخصية تسرد الحدث مراراً، تكمّله مرّة، وتؤسسه مرة أخرى، وتجسّده مرّة ثالثة، هكذا نكتشف المشهد نفسه من زوايا ووجهات نظر مختلفة، ويتحول متن الرواية الى هامش، ويقفز الهامش ليفرض نفسه متناً. تبدأ الرواية بشخصية غامضة، تدعي أنها التقت بشخصيتين داخل السجن، هما أبو حية وأبو مريم. هاتان الشخصيتان يقول عنهما الراوي، انهما قلبتا حياته رأسا على عقب، ومنذ البدء يشير إلى حيرته: - بعد أن استمعت لهما نبتت في داخلي رغبتان، رغبة أن اجمع سيرتهما، ورغبة أن أسرد لكم سبب سجني، فبأي الرغبتين أبدأ؟ وقبل أن يوغل القارئ في الفصل الأوّل، يجد نفسه يتابع سيرة شخصية ثالثة أخذت بزمام السرد، وبدأت تحكي حكايتها. وفي الفصل الثاني هناك شخصية جديدة تستهلّ الحدث، ثم تتشعب الحكايات لتتمحور حول شخصين تحولا حكاية البلد. ويظل الراوي الأساسي ناقلا لأحداث قام بتسجيلها من مئات الأحداث، وكل حدث له علاقة بتلك الشخصيتين اللتين يتمحور حولهما السرد. وتظل ثمة رواية أخرى، تجرى في بداية كل فصل، مستقلة تماما عن الرواية التي تتكامل أمامنا وتتشابك خيوطها الدراميّة. وتتجاور الروايتان تجاوراً مكانياً، وتتباعدان على مستوى الأحداث، ويكون الرابط بينهما ذلك الهامش الذي يتحول الى أساس حقيقي للجمع بين الروايتين، في عملية متشابكة يتداخل فيها السياسي بالاجتماعي بالاقتصادي. وتغدو حياة الحارات التي تجرى على مسرحها الأحداث، محجوزة من خلال شخصية رئيسية يمثلها مأمور الحي الذي يحمله سكان الحي مسؤولية كل ما يحدث من انحرافات وسقوط. وبين الهامش والمتن تأتي الأسرار الغارقة في ظلمة الليل. فالليل يهرب الأسرار كما نهرب نفايات منازلنا. في الليل كل شيء يتعرّى، ويفقد الغطاء، وهناك تكتشف سموم المدينة وسوء النفس البشرية، ثمة أشخاص يبعثرون تلك الحكايات ويستخدمونها لإفساد حياة الناس. ورواية عبده خال الجديدة سرد متواصل لجميع حكايات الناس، يركّبها الكاتب بحيث تتحول الأفعال الى مجرد كلمات الكل يشارك في صياغتها، لتكوّن تاريخاً من الكلمات. إنّه تاريخ تسرقه القوة والجبروت، لينام أبطال الرواية، والكل يحمل في قلبه غصّة. هؤلاء أمامنا مشاهدون لا يملكون سوى الكلمات لمواجهة العالم. الكلمات تصنع حياتهم، بينما المأمور يبحث عن الحياة أيضا من خلال الكلمات، إلا أن أفعاله تتحكّم في واقع تلك الشخصيات وتجعلها مستلبة، أو مسلوبة الارادة. وما يفعله ابو حية يمكن اعتباره خياراً لوأد الكلمات، لكنه لا ينجو، إذ يتحول الفعل لديه الى أداة فتك فعّالة. وتظل الرواية الأخرى والموازية هي حرب النخب، حرب المغامرات والشعارات التي تدس في قلوب المتحمسين لتفقدهم حياتهم، وتحولهم الى هامش يمله السجن. وربما أراد عبده خال أن يؤكد ان النخب والهامشيين هم أداة في يد قوى طاغية، تسيطر على أحلامهم وحياتهم. فقد انتهت حياة الراوي الذي يمثل النخبة بالوهم والبحث عن حبيبة وهمية. وانتهت الحياة الهامشية التي يمثلها أبو حية نهاية تتناسب مع الواقع الذي يفضي حتماً إلى خاتمة مأسويّة. هذه النهاية يمكن اختزالها بالمشهد الدموي الذي يعلن تساقط كل الحكايات المنتظر سماعها. لم يعد هناك وقت لسفك مزيد من الحكايات: "وقبل أن يكمل جملته، كان السياف قد ضرب هامته ضربة لها خشخشة العظام المهشمة، فجلس على مؤخرته، ومالت رقبته على جنبه الأيمن، فتحشرجت كلمات كانت تهم بالخروج، حين كان الدم يشخب من بلعومه. وعندما حاول النهوض، اتبعه السياف بضربة جعلت رأسه يتدحرج جوار أقدام الواقفين. فيما ارتفعت زغرودة عالية من امرأة كانت تقف خلف المتجمهرين وتبعتها بنواح مرتفع وهي تصيح: "يا من لا يموت إرحم من يموت"...". رواية "الأيام لا تخبّئ أحداً" مزيج من المناخات والأحداث، تضع عالمين الواحد في مواجهة الآخر، عالم الهامشيين وعالم النخبويين، وكل منهما يقوم على حكاية فاسدة أصابها العطب لأسباب مختلفة. وكل حكاية تنتهي في لعبة قذرة ضحاياها أناس بسطاء لا يملكون من السلطة سوى "القول". حتى أن هذا القول يتناسل ويتوالد وينقلب الى فخاخ توقع بضحايا هربوا من الزمن، فإذا بالحكايات تقتنصهم في مطبات الحياة الأخيرة. وتبدو الرواية قائمة على مجموعة من الأصوات، كأنّها تربط الأحداث بالشخصيات، كل شخصية مهمتها نقل "القول"، وكل شخصيّة هي خطاب قائم بذاته: ما يقال في السياسة، وفي الدين، وفي الشارع، وفي السجن، والمخدع الزوجي... هذا الطريق الوعر الذي سلكه عبده خال شكل لوحة متداخلة الظلال، وظل الضوء يشع في أماكن يسيرة، ضوء ربما لا يمكّن الشخصيات من معرفة طريقها على وجه الدقة، لذا تراها تنتظر مرور الأيام التي ليس لها، الأيّام التي لا تخبّئ أحداً