قبل اقل من اربعة اشهر من الاستحقاق الرئاسي في فرنسا، يبدو التنافس بين المرشحين الاساسيين جاك شيراك وليونيل جوسبان وكأنه يخاض على نار الفضائح اكثر من البرامج والحجج والنظرة المستقبلية لفرنسا في الولاية الرئاسية المقبلة التي تستغرق هذه المرة خمس سنوات بدلاً من سبع سنوات، كما كانت الحال قبل التعديل القانوني الاخير الذي حاز على مباركة اليمين واليسار على حد سواء. وآخر الفضائح التي ينسبها المتضررون الى التنافس الانتخابي المكتوم وغير المباشر، اندلعت بقوة اواخر العام الماضي واستمرت مطلع هذا العام، وتتصل بعمولات مالية كبيرة تقاضاها مقربون من وزير الداخلية السابق شارل باسكوا في سياق فدية دفعت في العام 1987 - 1988 لاطلاق الرهائن الفرنسيين في لبنان يوم كان شيراك رئيساً للحكومة. وتشير رسالة وجهتها المخابرات الفرنسية الداخلية للقضاء الى ان مساعدين لباسكوا تقاضوا مبالغ مالية كبيرة من رجلي الاعمال اللبنانيين اكرم واسكندر صفا اللذين لعبا دوراً حاسماً في هذه القضية. وتفترض الرسالة ان جزءاً من الفدية التي دفعت للخاطفين من الدولة الفرنسية، تحول الى عمولات يحقق القضاء في هويتها بعد ان اصدر مذكرة توقيف دولية بحق الاخوين صفا. واذا كانت الفضيحة تصيب عصفورين بحجر واحد، لأنها تنال من وزير الداخلية السابق، وهو ايضاً مرشح للانتخابات الرئاسية، ومن الرئيس شيراك نفسه، فإن اوساط التيار الديغولي تعتبر ان الامر لن يقف عند هذا الحد، فإذا كانت الفدية دفعت بالفعل، في ظل حكومة التعايش التي كان يرأسها شيراك 1986 - 1988، فإن العملية تمت برضا وبمعرفة الرئيس الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران، ما يعني ان الفضيحة قد تطال الاشتراكيين ايضاً. واذا كانت اوساط الديغوليين تطالب بعدم التلاعب في هذه القضية، لأنها سر من اسرار الدولة، فإنها لم تتردد في اتهام الحكومة الاشتراكية بإثارة هذا الموضوع، وتؤكد ان جهاز المخابرات الداخلية D.S.T لا يقدم على مبادرة من هذا النوع من دون علم وزارة الداخلية معتبرة ان توقيت اثارة الفضيحة قبل الحملة الانتخابية يُفصح عن نيات اشتراكية مبيتة ومدروسة. غير ان اضرار هذه الفضيحة قد تنحصر بوزير الداخلية السابق وحده في نهاية المطاف. فشارل باسكوا مرشح للانتخابات ومنشق عن التيار الديغولي، وهو ما فتئ يحمل على الرئيس شيراك منذ سنتين بسبب عزوفه عن مواجهة الحكومة وقبوله بترك الجزء الاكبر من المسرح السياسي لها. ومن جهة ثانية، ثمة من يعتقد ان وصول الفضيحة الى الرئيس الراحل ميتران لا يصيب ليونيل جوسبان بأذى كبير، لأنه تبرأ منذ 7 سنوات من تركة الرئيس الراحل بمعظمها ويقدم نفسه بصفة شبه مستقلة عن هذه التركة. يبقى القول في هذا الجانب ان الطرف الاكثر افادة من الفضيحة ربما يكون وزير الداخلية السابق جان بيار شوفنمان المرشح هو الآخر للانتخابات الرئاسية، ويعتقد بأنه المنافس الابرز لباسكوا في اوساط الناخبين السياديين في فرنسا والتيار القومي الفرنسي. ويتوقع محللون ألا يتوقف سقوط الفضائح عند الفضيحة الاخيرة، فقد بينت التجارب السابقة ان سوق الفضائح السياسية تزدهر خلال المواسم الانتخابية، ما يعني ان اليمين الفرنسي قد يرد على اليسار بفضيحة مقبلة على غرار الفضيحة التي اثيرت حول الماضي التروتسكي لرئيس الحكومة، والتي جاءت بعد اثارة فضائح بالجملة في بلدية باريس عندما كان جاك شيراك رئيساً لها. تقاليد ديموقراطية سوى ان الفضائح لا تشكل على اهميتها، عنصراً حاسماً في التنافس الانتخابي على منصب رئيس الجمهورية، فالمراقب للتقاليد الديموقراطية في هذا البلد، يلاحظ بوضوح ان سيرة المرشحين في الحكم وانجازاتهم تظل العنصر الابرز في الحملات الانتخابية وهي التي يبنى عليها بصورة اساسية خيار الناخبين. ويجدر في هذا المجال التمييز بين المرحلتين الاولى والثانية في الرئاسيات الفرنسية، فبحسب النظام الانتخابي يفوز بالرئاسة المرشح الذي يحصل على غالبية 50 في المئة من الاصوات في الدورة الاولى، لكن كثرة المرشحين يمينياً ووسطاً ويساراً تحول عادة دون حسم المعركة في هذه الدورة، الامر الذي يؤدي الى اصطفاف للقوى اليسارية واليمينية وراء المرشحين اللذين حازا على اكبر نسبة من الاصوات، وهو ما تبلور بصورة جلية عام 1995 عندما انحصرت الدورة الثانية في التنافس بين شيراك وجوسبان، وفي العام 1988 بين ميتران وشيراك، وفي العام 1981 بين ميتران وفاليري جيسكار ديستان، وهكذا دواليك. وتبدو معطيات الدورة الاولى من الرئاسيات معقدة للغاية، ويتوقع ان تختلط فيها الكثير من الاوراق بسبب التشتت الواسع والمنتظر للأصوات. واذا كانت استطلاعات الرأي هي المصدر الوحيد حتى الآن لقياس اتجاهات الناخبين، فإنها تؤكد الميل نحو التشرذم خلال الدورة الاولى، وبالتالي يمكن ان تتيح بروز مفاجآت غير محسوبة. ويشير حاصل جمع هذه الأرقام الى بقاء نسبة ضئيلة من الاصوات لمرشح اليسار المفترض ليونيل جوسبان، وهي لا تتجاوز 17 في المئة من اصل حوالي 47 في المئة من الناخبين الذين اقترعوا لليسار في العام 1995. ولو افترضنا حقاً ان جوسبان حصل على 15 في المئة من الاصوات في الدورة الاولى واحتل المركز الاول بين مرشحي اليسار، فإنه سيكون مضطراً لعقد تحالفات مع شوفنمان والخضر والشيوعيين كي يضمن أولاً انسحابهم من المعركة، وكي يحظى بالأصوات التي اقترعت لهم، وفي هذه الحالة من المنتظر ان يرفع هؤلاء "البازار" بما يتناسب مع حجم الاصوات التي صبت في خانتهم، وبالتالي حمل المرشح الاشتراكي على اجراء تعديل كبير في وعوده الانتخابية. ولا تختلف شروط المنافسة في صفوف اليمين كثيراً عن الشروط المشار اليها في صفوف اليسار، فالرئيس شيراك الذي يخوض الرئاسيات لخلافة نفسه، يواجه تياراً يمينياً لم يشهد من قبل هذا القدر من التشرذم والانشقاقات. فمن جهة، يسود شعور بالاحباط في اوساط الديغوليين انفسهم بعد ان حرمهم شيراك من هامش كبير للمناورة خلال سنوات التعايش مع الاشتراكيين الى درجة ان آخر استطلاعات الرأي جعلتهم في المرتبة ما قبل الاخيرة بعد "الجبهة الوطنية"، ومن جهة ثانية، يبتعد عن شيراك منذ بعض الوقت التيار الوسطي الذي رشح فرانسوا بيارو زعيم الاتحاد الديموقراطي الفرنسي، ويبتعد عنه ايضاً التيار الليبرالي بزعامة آلان مادلان، وهو ايضاً مرشح بارز للانتخابات، ناهيك عن باسكوا، والتيار اليميني المتطرف بزعامة جان ماري لوبن من جهة، وبرونو ميغريه من جهة اخرى. ووسط هذا التشرذم الذي لم يشهد اليمين الفرنسي مثيلاً له من قبل، استطاع شيراك ان يزيح منافساً مهماً ومحتملاً له، عندما اتفق مع جوسبان على تعيين الرئيس الاسبق فاليري جيسكار ديستان في منصب رئيس المجموعة الاوروبية لاستشراف آفاق الاتحاد الاوروبي في العقد المقبل، لكن هذه الخطوة، على اهميتها، لا تغير جوهرياً شروط التنافس الانتخابي في صفوف اليمين، خصوصاً ان مرشحيه يعتزمون، بحسب البوادر الاولى، النيل من شيراك ومن رئيس حكومته جنباً الى جنب في حملاتهم الانتخابية. ولعل المشكلة التي ستواجه الرئيس - المرشح هي من الطبيعة نفسها التي تواجه رئيس وزرائه، فإذا ما حصل شيراك في الدورة الاولى للانتخابات على نسبة ضئيلة من الاصوات في طليعة ترتيب المرشحين يمينياً، فإنه سيكون مضطراً لتقديم تنازلات لخصومه ومنافسيه الكثر، الامر الذي سيزيد من صعوبة مهمته في الدورة الثانية، علماً بأن اليمين المتطرف تعود خلال المناسبات المماثلة ان يمتنع عن تجيير اصواته 10 في المئة لمصلحة شيراك، فيما لا يواجه اليسار مشكلة من هذا النوع إلا من التروتسكيين الذين لا ترتفع نسبة اصواتهم الى اكثر من 5 في المئة. وفي حسابات الاصوات والتنافس الواسع بين اليمين واليسار وفي صفوف كل طرف على حدة، يبدو ان حظوظ شيراك وجوسبان ومدى تقديرهما في اواسط الرأي العام، يلعب دوراً مهماً في اصطفاف القوى في الدورة الثانية، ذلك ان البرنامج الانتخابي لكلا المرشحين ربما جذب الناخبين المرجحين للفوز من الطرف الآخر. ذلك ان الانقسام التقليدي والتاريخي بين اليمين واليسار في فرنسا هو في حدود 40 - 50 في المئة لليسار و45 - 50 في المئة لليمين. غير ان الفارق بين الطرفين كانت تعدله في السنوات الماضية الجبهة الوطنية المتطرفة التي رفضت في العديد من المناسبات تجيير اصواتها للمعسكر اليميني الذي لم يعترف بها رسمياً خوفاً من تهمة العنصرية والعداء للسامية. انجازات المتنافسين وفي ضوء ذلك، يعتقد المحللون ان رئيس الوزراء ليونيل جوسبان على رغم حرصه على عدم الاعلان عن ترشيح نفسه علناً، وقبل ان تفتتح الحملة الانتخابية رسمياً، فانه يتمتع بحصيلة ايجابية خلال السنوات الخمس التي امضاها في حكومة التعايش تستند الى كونه استطاع ان يدير ائتلافاً يسارياً في الحكم بنجاح حتى الشهور القليلة الماضية، فيما اليمين كان يتفكك ويفشل في الاتفاق على برنامج واحد وقيادة واحدة. واستطاع جوسبان ايضاً ان يحقق انجازات مهمة في مجال مكافحة البطالة التي انخفضت من 12 في المئة الى اقل من 9 في المئة وذلك للمرة الاولى منذ ربع قرن، وان يطبق وللمرة الاولى اسبوع العمل لمدة 35 ساعة، وان يخفض ولاية رئاسة الجمهورية الى خمس سنوات وهو امر باركه شيراك بعد معارضة مزمنة فضلاً عن اصلاحات عدة في مجالات اجتماعية واقتصادية لن يعدم في التلويح بها خلال حملته الانتخابية. وتفيد استطلاعات الرأي الاخيرة ان جوسبان يتمتع بثقة 48 في المئة من الناخبين الفرنسيين وهو الوحيد بين رؤساء الحكومة في الجمهورية الخامسة الذي استطاع ان يحظى بثقة مرتفعة في صفوف مواطنيه طيلة مدة رئاسته للوزارة التي تقارب الخمس سنوات. علماً بان العمل الحكومي يؤثر سلباً في شعبية رؤساء الحكومات نظراً لمواجهتهم الدورية لاحتجاجات وردود فعل واضرابات شعبية وغيرها. واذا كانت اوساط الاشتراكيين تتحدث بثقة ملحوظة عن فرص اكيدة لفوز جوسبان انطلاقاً من برنامجه الناجح في الحكم، فان اوساط اليمين تعتقد ان الشهور المقبلة تحمل معها بوادر سيئة لرئيس الوزراء، ومن ضمنها عودة البطالة للارتفاع خلال الشهور الماضية واحتمال استمرارها خلال الشهور المقبلة الامر الذي من شأنه ان يحرم رئيس الحكومة من الاثر الايجابي لابرز انجازاته في الحكم، ثم تزايد موجات الغضب الشعبي والمطلبي ضد الحكومة، فقد تظاهر اخيراً رجال البوليس وقطاع التمريض واطباء الصحة العامة ورجال الدرك وغيرهم. ويرجح ان تتزايد موجة الاحتجاج لتشمل فئات اخرى ما يعني ان شعبية رئيس الوزراء الوافرة اليوم مرشحة للهبوط في وقت هو بأمس الحاجة اليها. ويرى هؤلاء ان حصيلة العمل الحكومي الاشتراكي تعاني من فشل ملحوظ في مجال الامن الداخلي الذي يحتل اولوية في اهتمامات الناخبين جنباً الى جنب مع البطالة والضمان الاجتماعي. من جهته يتمتع الرئيس الفرنسي بشعبية مرتفعة ايضاً لم يسبق ان تمتع بها رئيس من قبل في نهاية ولايته، ويشير آخر استطلاعات الرأي الى ان 52 في المئة من الفرنسيين يمنحونه ثقتهم وعلى رغم كون هذه النسبة متدنية بالقياس الى شعبية الرئيس في الخريف الماضي، فان شيراك استفاد ويستفيد من اعتقاد قوي لدى الفرنسيين بأنه يمثل بلادهم بصورة جيدة على المسرح الدولي. واذا كان يستفيد من احترامه لشروط التعايش مع اليسار في الحكم واحترام الدستور المؤتمن على خدمته واذا كان يستفيد ايضاً من عدم انغماسه في الشؤون التنفيذية المعقدة التي يديرها الحكم وتثير ردود فعل الناس السلبية، فان المجالات التي يستفيد منها هي نفسها تعتبر بنظر اليمين نقاط ضعف في ولايته التي قضى خمس سنوات منها متعايشاً مع حكومة، ليست حكومته ومع برنامج حكم اشتراكي ليس برنامجه. ومعنى ذلك ان معركة الرئيس الفرنسي الانتخابية لن تكون مجرد نزهة كما يعتقد بعضهم خصوصاً اذا ما استمرت الفضائح تلاحقه حتى اليوم الاخير من الحملة الانتخابية. يساعد ما سبق على القول إن حملة الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي تبدو حتى الآن باهتة وتحجبها الفضائح وتريث جوسبان في ترشيح نفسه، تنطوي على مخاطر كبيرة بالنسبة الى شيراك وجوسبان وهي ليست محسومة سلفاً لاي منهما كما كان يتردد من قبل خصوصاً ان الفرنسيين بعد 11 ايلول سبتمبر يشعرون بالكثير من الاحباط جراء تراجع نفوذ بلادهم والنفوذ الاوروبي بعد حرب افغانستان التي لم تتم فصولاً بعد.