حين دعا الناطق باسم احد الأحزاب الوسطية الفرنسية محاوريه من ممثلي احزاب المرشحين الرئاسيين ومحللين، على شاشة تلفزيونية فرنسية، الى التروي في التعليق على تقديرات نتائج الدورة الأولى مساء الأحد في 21 نيسان ابريل، ونبههم الى ان النتائج الرسمية لم تعلن بعد، لم ينتهز الدعوة والتنبيه احد. ولم يتحفظ احد عن التقديرات التي اظهرت، حال إقفال صناديق الاقتراع، خسارة ليونيل جوسبان، مرشح الحزب الاشتراكي ورئيس حكومة اليسار "الكثير" الألوان والمشارب طوال خمسة اعوام تامة، امام جان ماري لوبن، مرشح الجبهة القومية وليس الوطنية المزمن وحامل لواء اكثر النزعات المحلية عداءً للأجانب عموماً، وغير الأوروبيين خصوصاً. وأسرع المعلقون الى وصف تخلف اليسار الفرنسي عن المشاركة في الدورة الرئاسية الثانية بالزلزال السياسي، والظاهرة الصاعقة، والانعطاف المصيري، قبل ان يرجع معظمهم الى رويّة التعليل والتفسير. والأرجح ان يكون الجمهور الفرنسي جمع بين الموقفين: صعقه الخبر ولكنه لم يحاول تأخير تصديقه، ولا تذرع بتقدير سابق في 1995 قدّم مرشحاً يمينياً على المرشح جاك شيراك، قبل ان يتبين خطأ التقدير. وحين بثت الشاشات تعليق المرشح "السعيد"، لوبن، بدا هذا هادئاً ورزيناً. وعلق على حيازته 17 في المئة من اصوات المقترعين - وكان التقدير الأول ذهب الى 7،17 في المئة قبل ان ينزل الى 2،17 - بدعوة المرشَّحين "الكبيرين"، الديغولي والاشتراكي، الى الاستقالة. فهما لم يحصلا، مجتمعين، إلا على 37 في المئة من اصوات المقترعين. وهؤلاء ليسوا إلا 8،70 في المئة من الناخبين. فلم يحرز المرشحان الكبيران، وهما رئيس جمهورية قضى في سدة الرئاسة سبعة اعوام ورئيس وزراء طوى خمسة اعوام في منصبه، لم يحرزا إلا ثلث ثلثي الجسم الانتخابي. وهذا قليل. وهو قليل فعلاً. وكانت الأحزاب الفرنسية الكبيرة تطمح، في الستينات والسبعينات والثمانينات، الى الحصول على اقتراع ما بين ربع الى ثلث الناخبين في الدورة الأولى. ونجح الرؤساء شارل ديغول وجورج بومبيدو وفاليري جيسكار ديستان وفرنسوا ميتران في حمل هذه النسب او الشطور من المقترعين على الاقتراع لهم. وكانت الدورة الأولى من دورتي الانتخابات الرئاسية الفرنسية، بالاقتراع المباشر منذ دستور عام 1962 "الديغولي"، دورة "تصفية" داخل الشطرين السياسيين الكبيرين، اليمين واليسار. فوسِع المرشح الشيوعي جاك دوكلو، في 1965، جمع 22 في المئة من المقترعين، وتحول ناخبوه الى ناخبي المرشح فرنسوا ميتران، اليساري الوسطي، في الدورة الثانية. وقدر المرشح اليميني الوسطي ومنافس ديغول في دياره الانتخابية والسياسية، جان لوكانويه، على ما قدر عليه منافس ميتران في دياره الانتخابية والسياسية كذلك. وحقق هذا، أي تنافس عائلتين سياسيتين وطنيتين وكبيرتين، الغاية التي سعى الدستور الديغولي، الرئاسي والبرلماني معاً، فيها. وهي استقطاب الفرنسيين حول قطبين كبيرين يختصران، في الدورة الثانية ان لم يكن في الأولى، نزعات الناخبين البارزة. وشفعت الممارسة الديغولية وهذا ما لا يلحظه الدستور الانتخاب الرئاسي المباشر، وليس من المجلس النيابي، بنظام انتخابي نيابي اكثري، خالف الانتخاب النسبي الذي جرت عليه الجمهورية الرابعة 1946 - 1962 وأورثها ضعف الاستقرار الوزاري، وغلبة التحالفات النيابية الظرفية على مستلزمات سياسة متماسكة وثابتة. فكان النظام الأكثري في الدائرة الفردية يضخم حجم انتصار الحزب الحائز الأكثرية. فيحصل من فاز بأربعين في المئة من الأصوات على نيف وخمسين في المئة من ال485 مقعداً نيابياً في المجلس الوطني. ويقلل النظام الأكثري من حظوظ الأحزاب الصغيرة في دخول المجلس. وعلى هذا لم يفلح جان ماري لوبن، على رغم حصوله منذ 1974 وهو عام انتصار جيسكار ديستان على ميتران على 12 الى 14 في المئة من اصوات الانتخابات الرئاسية، في انتزاع اكثر من مقعدين برلمانيين. وخلت المجالس، المنتخبة مرة في خمس سنوات، من جبهوي قومي واحد بعد ان "خُلع" لوبن وألغيت نيابته قبل نيف وعقد. وهو دخل الندوة البرلمانية عن طريق "الحصة" التمثيلية التي ادخلها ميتران في قانون الانتخابات بغية بث الخلاف بين اجنحة اليمين، والحؤول دون تحالف اليمين الجمهوري واليمين المتطرف وحصولهما معاً على كثرة المقترعين. وتقدم زعيم الجبهة القومية اليوم هو ضرب من ثأر النظام الانتخابي النسبي من النظام الانتخابي الأكثري. فمنذ 1981، عام انتصار فرانسوا ميتران على فاليري جيسكار ديستان المرشح يومها الى ولاية ثانية، يتداول حكم فرنسا "حزبان" أو تكتلان هما وسط اليسار، مع الحزب الاشتراكي وحلفائه الشيوعي،الراديكالي اليساري، الخضر، "المجتمع المدني" على نحو عابر، وحركة المواطنين التي انشأها شوفنمان، وزير الداخلية المستقيل، ومثّلها، ووسط اليمين او اليمين الجمهوري المؤلف من نواة ديغولية كبيرة، ومن احزاب أو تيارات اوروبية وليبرالية. وطوال الجمهورية الخامسة، اي طوال العمل بالنظام الانتخابي الأكثري، بقيت الأحزاب الأقلية، الإيديولوجية، خارج التمثيل النيابي. ولم يدخل المجلس الوطني الفرنسي من الأحزاب الأقلية إلا تلك التي عقدت تحالفات مع قطب من قطبي الحكم، الديغولي او الاشتراكي. فقايضت افساح فرصة النجاح لها في دائرة مختارة بانضمامها الى كتلة عريضة يقودها احد القطبين. فبقي جان ماري لوبن أو هو أُبقي عمداً، جراء النظام الأكثري، خارج التحالفات، وخارج الحياة البرلمانية تالياً، شأن التروتسكيين الذين حملت أحد ألويتهم الكثيرة آرليت لاغييه، "عميدة" المرشحين منذ 1974 وهي لم تتخلف عن خوض الانتخابات الرئاسية. ويتحدر لوبن سياسياً، من "حزب" السيطرة العنصرية والحروب الاستعمارية، ومن "الجزائر الفرنسية"، وصغار التجار "البوجاديين" نسبة الى احد قادتهم في الخمسينات، بيار بوجاد الذين يخسرون على الدوام في ميدان السباق الاقتصادي مع رأس المال الكبير وغير "الوطني" وينافسهم على عملهم المهاجرون الملونون من المستعمرات السابقة. فجبهته تضرب بجذورها الاعتقادية والاجتماعية في يمين محافظ ومناضل ائتلف من العسكريين وموظفي الإدارة الاستعمارية، ثم إدارة "الدولة الفرنسية" في عهد بيتان الموالي ألمانيا الهتلرية، ومن المتساقطين من فئات متوسطة وريعية خائفة ومسنة يقيم معظمها في الجنوب والشرق الفرنسيين والمحافظين تقليدياً. وعلى هذا اضطلع لوبن، على أطراف اليمين وحواشيه، بوظيفة يسميها الفرنسيون "خطابية" منبرية، على شاكلة وظيفة الخطيب الروماني في عهد الجمهورية. وكان الحزب الشيوعي الفرنسي قام بالوظيفة نفسها على أطراف اليسار وحواشيه، ولكن مع فرق الفئات الاجتماعية التي مثلها الحزبان. وخولت الوظيفة هذه الرجلَ، وهو يناهز اليوم الثمانين من العمر، رفع عقيرته بالتنديد بكل ما ينتقص أسطورة فرنسا القديمة. فندد بفرنسا أكان مصدر الانتقاص السوق الرأسمالية، الأوروبية "الهجينة" والمتأمركة، وب"امواج" الهجرة التي تغرق فرنسا "الأصيلة" بالسود الافريقيين وبالمغاربة العرب والمسلمين، والأكراد، بعد ان أغرقتها بيهودها وأوروبييها الشرقيين وإيطالييها وبورتغالييها. ويعزو لوبن الإخلال بالأمن، وتناول المخدرات، وموسيقى "التكنو" و"الرايف"، والإباحة الجنسية، ووباء "الإيدز" السيدا، والبطالة 11 في المئة، والرسوب المدرسي، وتردي المسيحية الشعائرية، الى الأبواب المشرّعة على رياح العالم والتهجين الذي يترتب عليها. وهو سبق المرشحين الآخرين كلهم الى تناول هذه الموضوعات، وأرغم معظمهم على تناولها، واللحاق به. فاضطر جاك شيراك، يوم كان ينافس جيسكار ديستان المرشح الى ولايته الثانية، الى إعلان قرفه من "الروائح" الغريبة. وحمل لوران فابيوس، رئيس حكومة ميتران الفتي، الى القول ان لوبن يطرح اسئلة صحيحة ويجيب عنها اجابة خاطئة، وذلك كناية عن مسألة المهاجرين و"إغراقهم" الفرنسيين. وحالت الدعاوة اللوبنية بين اليسار مجتمعاً وبين اباحة اقتراع الأجانب المقيمين وغير المجنسين الى الانتخابات البلدية. وأدى لوبن دوراً لا يستهان به في ضعف الإقبال الفرنسي على استفتاء ماستريخت الأوروبي في 1992. وظهر مذذاك ان انهيار الحزب الشيوعي، وأفول الدور السياسي والاجتماعي للطبقة العاملة الفرنسية، انما يرفدان التيار اللوبني اولاً، ويمدانه بالمتساقطين من صفوف الحزب هذا. وليس الأمر صدفة ولا اتفاقاً. فالوظيفة الخطابية التي اضطلع بها الحزبان يتقدم اليوم اضطلاع اليمين القومي بها الحزب الشيوعي بنيف وأربعة اضعاف 8،3 في المئة الى 17 في المئة. وحيث وضع الحزب الشيوعي رأس المال الدولي، أنزل لوبن وجبهته أوروبا الهجينة المتأمركة والتكنوقراطية. وأجمع الاثنان على معالجة الحال بالحماية الوطنية، والتقوقع، وإيلاء الدولة دور الخفارة، أو الحراسة الصارمة، الحزب الشيوعي باسم الطبقة العاملة المتحدرة من مقاومة الفاشية، والجبهة القومية باسم النقاء الفرنسي. ولا ينفرد لوبن بخلافة الحزب الشيوعي، على هذا النحو من الخلافة المشتبهة والمراوغة. فأعداء العولمة التروتسكيون وجمع مرشحوهم الثلاثة نيفاً وعشرة في المئة من المقترعين يرددون بعض "ردات" الحزب الشيوعي الآفل، وعلى مثال واحد تقريباً من التنديد الى "اممية" نضالية ضعيفة الترجمة. وجان بيار شوفنمان ينعت الفتيان والشبان ب"المتوحشين"، ويدعوهم الى جمهورية صارمة ومنضبطة لا تتسع للكورسيكيين إلا اذا أنكروا ما يميزهم بعض التمييز من الفرنسيين الآخرين. والخضر يبحثون عن "طبيعة" لم تتلفها الصناعة البشرية والاجتماعية، وعن جذور غير صناعية ولا مدينية... وهذه كلها، على هذا القدر او ذاك، أفكار ومشاعر لوبنية. وهذا كله سبق إليه، أو الى بعضه جان ماري لوبن. فإذا زيد على هذا "مساكنة" أو تعايش لم تقل عن خمسة اعوام، تخللتها فضائح فساد ورشوة وسرقة مال عام ضلع فيها الاشتراكيون رولان دوما وفرقاطات تايوان والديغوليون مناقصة بناء المدارس على حد واحد، وإذا تصدر الأمن مشكلات الفرنسيين اليومية، احتدت لهجة الاعتراض والمناكفة وأفضت الى بلوغ حظوظ شيراك بالفوز، في الدورة الثانية، 78 الى 80 في المئة. ولم يحل ذلك دون عودة الاشتراكيين وحلفائهم الى رئاسة الحكومة ربما في أعقاب انتخابات نيابية تجري في حزيران يونيو الآتي من غير ليونيل جوسبان، "البروتستانتي" الصارم والجاف والمستقيم. * كاتب لبناني.