أسئلة الألمان الشرقيين فتحت باب الشكوك نجله الوحيد يتحدث للمرة الأولى عن الأب العطوف والقائد المريض الزمان: 28 مارس آذار 1978. المكان: مستشفى الشرطة في برلينالشرقية. يئس الاطباء واعلنوا عجزهم. يئس القلب من المقاومة وخان. استراح الرجل الذي لا يرتاح. لم يكن الطبيب - المريض غافلاً عن خطورة حالته. عبثاً حاول ان يعاند. ان يقنع الوقت بمنحه بعض الوقت. حسرة القائد يلدغه القدر في أوج معركته. خيبة الملاكم يتنكر له النبض قبل استكمال تسديد الضربات. بكى رفيقه في الاخطار والاهوال. بكّر الموت... قال. خطفه في الخمسين. ظلم القدر من أفنى ايامه في مطاردة الظلم الذي لحق بشعبه. لم يكن يخشى الموت. كان يعرف ان جائزة من يسلك ذاك الطريق الزنزانة او القبر. لكنه كان يحلم بارجاء الرقاد المديد. التوقيت غير مناسب فعلاً. لا يزال الاطفال يولدون في المخيمات ويسمون لاجئين. لا تزال تلك البلاد اسيرة. ولا يزال المحتل يستكمل جراحاته لتغيير ملامحها وتزوير وثائق تاريخها ومستقبلها. الدكتور وديع حداد. بكى رفيقه في الاخطار. هجم عليه شريط الذكريات. الدوريات الاولى الى الاراضي المحتلة. اول الرصاص وأول الشهداء. حق الضحية في اختيار اسلوب مقاومة جلادها. الطائرات الى "مطار الثورة" وعملية اللد وعملية "اوبك" وعملية عنتيبي وعملية مقديشو. ومطاردة طائرة "العال" في كل مطار. و"وراء العدو في كل مكان". هجم شريط الذكريات. التجوال الدائم بين المقرات السرية في بيروت. والمواعيد المتنقلة بين بغداد وعدن والجزائر ومقديشو. الاستطلاع واختيار الاهداف واعداد المنفذين والوثائق والساعة الصفر. في ذلك اليوم وفي المستشفى البعيد بكت زوجته وحفنة الخلص الذين شهدوا الاغماضة الاخيرة. وفي اماكن كثيرة بكى كثيرون. رفاقه في "المجال الخارجي" خسروا قائداً كان "مدرسة في نكران الذات". وحزن رفاقه في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" وتذكره رفاقه في "حركة القوميين العرب". حزن عليه شباب المخيمات. وبكى ثوار من اصقاع كثيرة وفدوا اليه تعلموا وتدربوا وتركوا في العواصم دوياً وسع دائرة المعركة. صاروا يتامى. كارلوس الذي كان اسمه "سالم" يقيم اليوم في السجن. و"مريم" اليابانية في السجن ايضاً. تبدد الشمل وتغيّر العالم. لم يكن وارداً ان يرتاح ابن صفد في تراب صفد. فلا هو ينام تحت علم الاحتلال ولا الاخير يطمئن الى ساكن القبر. كان يبحث عن وطنه والآن يبحثون له عن اشبار في الغربة. العمر في المنفى، والقبر كما العمر. وفي 31 مارس آذار ووري في بغداد. عندما اختار وديع حداد العمل السري، لاعتقاده انه الانجع في ايذاء العدو، الزم نفسه ورفاقه القواعد الصارمة لهذا العمل. لا احتفالات ولا صور ولا استعراضات ولا عناوين معروفة او دائمة. المشارك في عملية يعرف دوره فيها ولا يعرف ما يمكن ان يهدد العمل. والتعاون مع اي فصيل تحكمه حدود واضحة. كانت الفعالية هي الهاجس. ومن اجلها أسقط الرجل من حسابه لعبة الصفوف الامامية وبريق المواكب والصالونات ومتعة الابتسام امام العدسات. لم يدل بحديث صحافي ولم يترك مذكرات. وحين غاب اصطحب معه غابة اسراره. وشاءت الاقدار ان يمتد عالم الاسرار الى موته نفسه، فحتى الساعة لا يزال الجميع يعتقدون بانه مات مسموماً. اخذ وديع اسراره معه. وحفظت النواة الصلبة من رفاقه السر، فقد تشربت روحية القائد واسلوبه. ضاعف صمت العارفين الغموض. لم يتسلل احد الى قلعة الاسرار فجاءت كل الروايات ناقصة او خاطئة او معادية مقتصرة على جانب وحيد من شخصية الرجل الذي تتخطى تجربته خطف الطائرات ورعاية كارلوس والفصائل الثورية، فقصته جزء من قصة شعبه وقصة المنطقة. حبش والطائرات وأوبك بعد ثلاثة وعشرين عاماً على غيابه بقيت اسئلة كثيرة بلا اجابات. لماذا سلك الطريق الذي سلكه؟ ما قصة اقامته في سجن الجفر الاردني وماذا فعل هناك! لماذا بكّر في الرهان على العمل المسلح؟ وكيف نجح في "خطف" جورج حبش الذي كان معتقلاً في سورية، وما قصة العلاقة بين الرجلين ومتى وقع الافتراق؟ لماذا خطف الطائرات ولماذا "اوبك" واللد وعنتيبي ومقديشو؟ ما هي علاقته بكارلوس وماذا دار في اللقاء الاخير بينهما وما سبب الطلاق؟ لماذا خانه سياد بري؟ وهل التقى فعلاً يوري اندروبوف وماذا دار بينهما، وماذا طلب كل منهما من الآخر؟ ما قصة مصنع الوثائق؟ وكيف كان يعيش؟ من دون ان ننسى السؤال: هل مات مسموماً؟ يزعم هذا التحقيق انه يجيب عن هذه الاسئلة. من حق القارئ علينا ان نروي قصة هذا التحقيق. في العام 1995 قصدت منزل الدكتور جورج حبش الامين العام السابق ل"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" واجريت معه حواراً طويلاً نشرته "الوسط" في اطار سلسلة "يتذكر". كان حبش على عادته جريئاً ونبيلاً وينتزع تقدير من يتفق معه واحترام من يختلف. ثمة حادثة استوقفتني خلال الحوار. سألت الدكتور حبش عن وديع حداد وعلاقته به وذكراه. صمت الرجل قليلاً وطفا الحزن على وجهه ثم اجهش في البكاء المشحون بألم ظاهر. ودفع الامر مرافق حبش الى الحضور من الغرفة المجاورة وتمنى عليه مغادرة الصالون ففعل ليعود الي بعد دقائق موضحاً: "ان وديع حاضر في عقلي وقلبي". اشرت يومها الى الدموع وحفظت الاجابة في الادراج. ارتبكت في البداية وشعرت انني اثقلت على الرجل لكن ما جرى بقي عالقاً في ذهني. كنت اعرف ان علاقة حميمة واستثنائية ربطت بين الرجلين وان اسلوب العمل ادى الى تباعد بينهما. وسيظهر هذا التحقيق عمق هذه العلاقة ثم تباين وجهات النظر في اواسط السبعينات وصولاً الى العتاب المرير الذي اختلط بالدموع في فندق بغداد في 1976. كان ذلك اللقاء الاخير بينهما ففي اللقاء التالي في 1978 سيقف حبش لرثاء رفيق كفاحه ودربه. قبل عامين وفي ذكرى عملية "اوبك" التي حصلت في 21/12/1975 تساءلت الى متى تبقى هذه العملية غامضة وعرضة لتضارب الروايات الناقصة ولماذا لا نحاول الوصول الى اللاعبين الاساسيين فيها. لكن كارلوس في السجن وزيارته ممنوعة على الصحافيين. لذا قررت البحث عن مساعده الذي تولى ادارة المفاوضات في بعض المحطات العربية للعملية ولم تكشف الايام هويته. بعد شهور تبين ان ذلك الشاب هو أنيس نقاش الذي اخفى سر مشاركته في عملية "اوبك" ربع قرن امضى عشر سنوات منها في سجن فرنسي لمحاولته اغتيال رئيس الوزراء الايراني السابق شهبور بختيار. وبعد محاولات عدة وافق نقاش على البوح بالسر وكشف جوانب غير معروفة من عملية "اوبك". ومرة جديدة ساهمت روايته في اثارة اهتمامي بموضوع وديع حداد. "الوسط" 20 - 26 نوفمبر تشرين الثاني 2000 صورة يتيمة في سجنه قرأ كارلوس رواية نقاش وكانت له عليها ملاحظات. اغتنمت المناسبة واجريت معه حديثاً. لكن بعد روايتي نقاش وكارلوس شعرت ان قصة "اوبك" وقصصاً كثيرة اخرى ستبقى ناقصة ما لم نحاول كتابة قصة وديع حداد. عدت الى الارشيف فلم اعثر الاّ على عناوين وردود افعال على عملياته التي هزت العالم. وعدت الى عدد من الكتب التي تحدثت عن تلك الحقبة واحداثها الكبرى فوجدت القليل من المعلومات والكثير من الاشاعات والتكهنات والسيناريوهات. بعضهم اختصر قصة الرجل وقصرها على تلك المرحلة التي كان يدير فيها كارلوس. البعض الآخر صوَّره رجلاً ارهابياً قاسياً يعمل في الظلام مشغوفاً بخطف الطائرات. وثمة من نسب اليه اعمالاً لا علاقة له بها من قريب او بعيد وتعمد تجاهل كونه صاحب قضية اولاً واخيراً سواء اتفقت مع اسلوبه أم اختلفت. وساعة نشر الحوار مع نقاش، كما مع كارلوس، سعينا الى الحصول على صورة جديدة لوديع حداد غير تلك الصورة الوحيدة التي تتكرر منذ عقود فتبين ان وكالات الانباء والصحف لا تملك غير تلك الصورة اليتيمة. هل يجوز ان تبقى تجربة وديع حداد محاطة بالغموض او الكتمان ومتروكة للكتب الاسرائيلية او الغربية التي تتحدث عن "مايسترو الارهاب والارهابيين"؟ أوليس من حق جيل الانتفاضة، وهو وريث التجارب المتراكمة، ان يعرف تلك التجربة؟ أوليس من حق الشباب العرب الذين ولدوا بعد غياب حداد او عشية ذلك الغياب ان يقرأوا قصته وبغض النظر عن الاتفاق مع الاسلوب او الاختلاف معه وهو ابن مرحلة بعينها في اي حال؟ لكل هذه الاسباب ومعها دائماً الهم الصحافي قررت البحث عن وديع حداد في ذاكرة من عرفوه عن قرب. توقعت ان يكون الموضوع صعباً لكنني لم اتوقع ان يكون منهكاً. الذين يعرفون القصة بشموليتها حفنة اشخاص بين بعضهم اليوم آلاف الكيلومترات. ولم يكن الوصول سهلاً. فهؤلاء يعيشون بالاسلوب السابق نفسه: بعيداً عن الاضواء وبعيداً عن البوح. كان لا بد من الحصول على ارقام الهواتف وكسر الحذر التقليدي لديهم. وكان لا بد من حوارات متكررة خصوصاً انه لم يسبق لهم ان جلسوا امام آلة تسجيل. استلزم الامر شهوراً ورحلات. وحين وافقوا على التحدث ظهرت عقبة جديدة: لا صور ولا اسماء. دار نقاش طويل اقتنعت في نهايته بعدما تبين ان "ورثة" وديع لم يتقاعدوا غداة وفاته وان الخوض في الصور والاسماء يرتب تبعات قانونية على رغم توقف كل نشاط لهم منذ 1990. وتقضي الامانة تسجيل ان هؤلاء الذين يعيشون في ظروف بالغة الصعوبة قاوموا بعد غياب وديع كل انواع الاغراءات ورفضوا التحول باعة اسرار او وضع خبرتهم في تصرف دول او اجهزة. استطيع القول وبصورة قاطعة، ان هذا التحقيق كتب استناداً الى روايات اقرب الناس الى وديع حداد وساستخدم لهم صفة "المتحدث" كلما عدت اليهم. وفي المقابل حصلت "الوسط" على صور خاصة تنشر للمرة الاولى واوراق بخط القائد الفلسطيني. في الشهور الاخيرة من العام 1977 بدأت متاعب حداد الصحية خلال وجوده في بغداد. لم يتوقع الاطباء ان يكون المرض عضالاً ورجح التشخيص في البداية شكلاً من اشكال القرحة. وكانت العوارض تصب في هذا الاتجاه. نوبات من الالم المعوي الشديد. وعدم القدرة على تقبل الغذاء بكل اشكاله. التقيؤ واستفراغ الدم احياناً. تشنجات في الجهاز الهضمي. عاينه اخصائيون في الجهاز الهضمي في بغداد ورجحوا انها القرحة واخضعوه لحمية. عرضوا عليه مجموعة من الادوية فوافق على تناول بعضها. كان يدقق في الادوية التي ينصح بتناولها فقد كان طبيباً. استفحال المرض في يناير كانون الثاني غادر الى الجزائر واهتم الاطباء بمعالجته واجروا له كل الفحوصات اللازمة. لكن نجله الوحيد هاني، ولم يكن اتم الخامسة عشرة، لاحظ حين زاره هناك ان التدهور في صحته كان كبيراً. تغيير رهيب في مظهره وقوته. استولى الوهن والضعف على جسمه لكن وعيه بقي كاملاً وكذلك قدرته على التركيز. كان مهتماً بعدم اظهار الضعف لكن صلابة الارادة لا تكفي لاخفاء التدهور. اغلب الظن انه ادرك كطبيب تفاقم حالته لكنه لم يكن يرغب في اظهار ذلك. تمسك بروتينه اليومي ومتابعة العمل، وكان يسأل رفاقه الزائرين عن بعض المسائل موحياً ان العمل يجب ان يستمر طبيعياً. كرر له رفاقه اعتقادهم انه يتأخر في الذهاب الى مرحلة علاج اكثر تطوراً مما يقدم له في الجزائر، ولعله ادرك ان العلاج الافضل لن يوقف التدهور. انتهت فرصة هاني وعاد الى مدرسته في بغداد. في اواخر فبراير شباط تزايد التدهور وقال الاطباء الجزائريون انهم غير قادرين على القيام باكثر مما قاموا به. لم يكن من الوارد ابداً نقل وديع حداد الى عاصمة غربية او اي مكان غير موثوق بالكامل ففي تلك الفترة كان المطلوب الرقم واحد على لائحة "الموساد" واجهزة أمن غربية. لهذا اتجهت الانظار الى اوروبا الشرقية. وعلى رغم الجفاء الذي كان قائماً بين قيادة "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" وحداد رتبت القيادة عملية سفره الى المانيا الديموقراطية. في بداية مارس آذار نقل الى برلينالشرقية وتوفي في 28 منه. لدى تأكيد الوفاة ظهر اكثر من رأي. كان رأي رفاقه في "الجبهة الشعبية" ورأي رفاقه المقربين ايضاً ان يدفن في لبنان. فهو يحمل الجنسية اللبنانية وفي لبنان ثقل فلسطيني كبير. رأى اهله ان تشييعه في لبنان قد يوفر ذريعة لاسرائيل لافتعال مشاكل خصوصاً ان الوضع كان غير مستقر. من هنا ظهرت فكرة دفنه خارج لبنان. كان الخيار بين الجزائروالعراق بحكم العلاقة التي كانت تربطه بالبلدين. ابدى العراقيون استعداداً كاملاً لدفنه في بغداد وسط مراسم تليق بمكانته واعتمد هذا الخيار. خلال وجود حداد في المستشفى في برلينالشرقية كان نجله هاني يعيش في بغداد مع خالته نصرة التي حضرت للاقامة معه بسبب وجود والدته الى جانب زوجها. كان الاقرباء انقطعوا عن زيارة منزل وديع في العاصمة العراقية بسبب صعوبات الانتقال. فجأة فتح الباب ودخل الاقارب وبينهم قيصر شقيق وديع. كان هاني عرف قبل ذلك ان جده لوالده مريض ومتعب وشاءت الصدف ان يموت قبل اسبوع من نجله. كان قيصر مربياً ويحب الكتب وكان هاني مولعاً بها. قال قيصر لهاني لنذهب الى مكتبتك ونر ما فيها. وحين دخلا قال للفتى ساخبرك نبأ غير مفرح. فاجابه هاني: "انا اتوقع ذلك وهذا مؤسف" مشيراً الى غياب جده وتبادلا التعازي وعادا الى غرفة الجلوس. ادرك قيصر ان الاقارب الذين جاؤوا معه لم يخبروا خالة هاني بوفاة وديع الذي عاصرت السنوات الاولى من تجربته النضالية. بعد قليل طلب قيصر من هاني العودة الى المكتبة. وقال له هناك: "سأبلغك خبراً صعباً واريدك ان تكون قوياً وان لا ارى دموعك". وابلغه بوفاة والده. ويقول هاني: "الغريب، حين اعود بالذاكرة، اننا كنا مؤهلين لتحمل الصدمات. حزنت ولم ابكِ على رغم الصدمة الكبيرة ثم بدأت التعازي ومراسم التشييع". رافق جثمان وديع الى بغداد وفد ضم زوجته ورفاقا له. ولدى وصول الجثمان الى مطار العاصمة العراقية انتحى مسؤول فلسطيني بارز بأحد رفاقه جانباً وقال له ان وديع مات مسموماً واشار الى مسؤولية دولة عربية كانت تربطها بالمتحدث علاقة سيئة. شارك في مراسم الدفن كثير من المسؤولين العراقيين وغالبية اعضاء القيادتين القومية والقطرية لحزب البعث باستثناء الرئيس احمد حسن البكر ونائبه صدام حسين. كما شاركت قيادات فلسطينية وممثلون لدول صديقة مثل الجزائر وليبيا واليمن الجنوبي. "سر" الوفاة وفي ذكرى الاربعين أقيم في بيروت حفل تأبيني لحداد شارك فيه قادة الفصائل وقادة احزاب "الحركة الوطنية". كان المرحوم صلاح خلف ابو اياد عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" احد الخطباء الرئيسيين. قال ان مسؤولاً في دولة اشتراكية سأله كيف تذهب للمشاركة في تأبين "ارهابي". ورد "ابو اياد" في كلمته قائلاً: "اتمنى ان يكون لدينا اكثر من وديع حداد في الحركة الفلسطينية". منذ وفاة وديع حداد وحتى اليوم ساد الانطباع انه قضى مسموماً. لم يكن الامر مجرد اشاعة عابرة. انها قناعة عدد من المسؤولين الفلسطينيين ومسؤولين في اجهزة امنية عربية وغربية. وعلى مدار السنوات كانت الروايات تتكرر. قالت احدى الروايات ان حداد كان يمتنع عن تناول الطعام وحتى الشاي والقهوة خارج الاماكن الآمنة لأنه كان يعرف انه مستهدف من اجهزة كثيرة. واضافت ان حداد زار يوماً مسؤولاً عراقياً ونزولاً عند الحاح الاخير تناول كوباً من الشاي كان كافياً لاصابته بتسمم بطيء ثم تسارع التدهور. وقالت رواية اخرى ان حداد اصيب بوعكة صحية عادية اضطر خلالها الى الخضوع لفحوص وعلاجات وان طبيباً تولى تسميمه وان ذلك ربما حصل في "المحطة الجزائرية" من رحلته الاخيرة. وذكرت رواية ثالثة ان حداد تعرض لاشعاعات مركزة في غرفة الانتظار المجاورة لمكتب مسؤول كان يلتقيه وان تلك الاشعاعات كانت كافية لقتله ومن دون ترك آثار تثبت ما تعرض له. وذهبت رواية رابعة الى ان "الموساد" الاسرائيلي فشل في العثور على عنوان لحداد لاغتياله بالرصاص لكنه نجح في اختراق جهاز امني عربي ورتب عملية التسميم من خلاله. ومن سجنه قال كارلوس ل"الوسط" ان حداد قضى مسموماً. تكاثرت الروايات وراجت ومال كثيرون الى تصديقها وكانت لبعض ناشريها مصلحة في الترويج، مرة لتصفية الحساب مع الجهة "المتهمة" بقتل القائد الفلسطيني واخرى لادعاء معرفة اسرار لا يعرفها الآخرون. ومع مرور السنوات رسخ في الاذهان ان حداد مات مسموماً خصوصاً ان عائلته التزمت منذ غيابه صمتاً كاملاً وان رفاقه الاقرب امتنعوا، حتى صدور هذا التحقيق، عن التحدث الى وسائل الاعلام. سألت "الوسط" هاني وديع حداد عن الروايات حول وفاة والده مسموماً وما رواه كارلوس من ان الذين قتلوا وديع حداد هم انفسهم الذي قتلوا هواري بومدين فاجاب: "لا استطيع ان أجزم0. الافتراضات كثيرة وتدخل فيها محاولات الاتهام والقاء المسؤولية على هذا الطرف او ذاك. ليس هناك دليل قاطع. لا استطيع ان اؤكد او ان انفي". وعما قاله الاطباء في المانياالشرقية قال: "وفق ما اذكر لم يكن هناك تأكيد لحصول عملية تسميم. شكوا في مادة معينة يشاع انها تستخدم بكثرة في عمليات التسميم اعتقد انها "الثاليوم". لم يعثروا على مخلفات واضحة لهذه المادة في دمه او في الانسجة. يجب الاّ ننسى انه كان تناول مجموعة كبيرة من الادوية. ليست هناك أدلة قاطعة على حصول عملية تسميم. لكن هناك كلام كثير بما في ذلك القول انه تعرض للاسلوب نفسه الذي استخدم في تسميم بومدين. وهذا الكلام لا يقدم دليلاً قاطعاً. هناك روايات تقول انه سُمم بطريقة الاشعاع اي انه كان يطلب منه عقد لقاءات معينة ويتم تعريضه في قاعة الانتظار لاشعاع مركز جداً وان هذا الاشعاع هو الذي حفّز السرطان في جسمه. احد ابرز عمليات التشخيص لوفاته كان سرطان الدم الذي ادى الى نزيف داخلي بلغ الدماغ وقتله. سمعت روايات كثيرة وقرأت بعض ما نشر في المجلات والكتب. الكاتب الاميركي ديفيد ايغناتيوس كتب ان ابو حسن سلامة مسؤول امني كان مقرباً من عرفات واغتالته اسرائيل لاحقاً كان على اتصال بمصدر في ال"سي.اي.ايه". وجاء في الكتاب ان ابو حسن سلامة ابلغ المصدر ان والدي تعرض خلال وجوده في العراق لاشعاعات مركزة. لم ارد الدخول في لعبة التكهنات والاتهامات خصوصاً ان الادلة القاطعة غائبة". الرفيق - الشاهد طرحت "الوسط" السؤال نفسه على رفيق كان مقرباً جداً من حداد كما كان على اتصال بالاطباء الالمان الشرقيين ابان العلاج فأجاب: "التحاليل الطبية قالت انه اصيب بنوع من "اللوكيميا" سرطان الدم. انتشر خبر تسميمه وشاع لفترة. الحقيقة انه لم يثبت لدينا ان وديع مات مسموماً. أجريت الفحوصات الممكنة وتمت التحريات الممكنة في حدود ما هو متاح ولم يظهر ما يشير الى مسألة التسميم او يؤكدها". وعما اذا كان الاطباء في برلينالشرقية تحدثوا عن عملية تسميم قال: "بصراحة لم يكن تقريرهم واضحاً. سألهم احد رفاق وديع، هل كان يمكن انقاذه لو جاء باكراً، فلم يكن الجواب واضحاً. لوحظ ان الاطباء الالمان طرحوا اسئلة عدة ابرزها هل كان وديع يتعاطى اعمالاً تدخل فيها مواد مشعة؟ وهل كان يتعاطى صناعة المتفجرات. الواقع انه لم تكن له علاقة بمواد مشعة او صناعة متفجرات. كان يشدد على اهمية تطوير بعض الاسلحة لكنه شخصياً لم يمارس صناعة المتفجرات". سألناه اذا كنا نستطيع القول ان لدى رفاق وديع قناعة انه لم يمت مسموماً فأجاب: "نعم. اقول في ضوء ما توافر لنا من معلومات. سألنا عن هذا الموضوع وأجرينا عملية تقاطع للمعلومات الموجودة بما في ذلك مع بعض اجهزة الاستخبارات. في حدود ما تمكنا ان نفعله لم يظهر اي دليل يثبت ان وديع مات مسموماً". رفيق آخر كان الى جانب حداد في العقدين اللذين سبقا وفاته وربطته به علاقة حميمة قال: "ان سؤالك يعيد فتح جرح قديم. لا ابالغ ان قلت ان هذا السؤال طاردنا طويلاً. ما انتهى اليه الاطباء هو ان وديع اصيب بنوع من سرطان الدم. لكن اسئلتهم اوحت احياناً ان شكوكاً تراودهم حول عملية تسميم. لم يظهر ما يؤكد حصول ذلك ولا يمكن الاخذ بالروايات التي انطلقت من هنا وهناك. واذا شئت الصراحة اقول لكم اليوم انه اصيب بسرطان في الدم لكن لا تزال لدي بعض الشكوك". محاولة اغتيال قبل وفاته بثمانية اعوام اقترب الموت منه لكنه اخطأه. كان وديع حداد منكباً في ساعة متأخرة من الليل في غرفة الطعام في منزله العائلي في منطقة الملاّ في بيروت على عدد من الاوراق. كان يحضر في تلك الليلة لعملية خطف الطائرات الى "مطار الثورة" في الاردن. وبسبب سهر الأب نام نجله هاني الذي كان في السابعة الى جانب والدته سامية. كان في البيت ضيف واحد هو ليلى خالد التي ستشارك في عملية "مطار الثورة". يتذكر هاني تلك الليلة ويقول: "في 1970 تعرض منزلنا لأربع قذائف خارقة - حارقة ادت الى اصابتنا، والدتي ووالدي وأنا. اصابة والدي كانت الاخف اما والدتي فقد اصيبت لأنها غطتني بجسمها بعد اول انفجار فاصيبت بشظايا الانفجار الثاني. كنا نياماً والدتي وأنا في حين كان والدي يعمل في غرفة اخرى. كنت في السابعة. انا اصبت بشظية في اسفل قدمي من الانفجار الاول واخضعت لجراحة. تصادف وجود ليلى خالد ليلتها في منزلنا. منذ ذلك الحادث تنقلنا في اماكن كثيرة في المزرعة والحمراء وفردان ومناطق اخرى كان المفهوم الامني من ذلك ان لا تثبت في مكان واحد لفترة طويلة وان تتنقل باسرع ما يمكن. اي ان لا تفسح المجال لمن يريد ان يتعقبك ان يعثر عليك". في تلك الليلة لعب الحظ دوره في انقاذ العائلة. نجا وديع لانه لم يكن في غرفة نومه. ونجا هاني لانه لم يكن في سريره الذي ذاب بفعل القذيفة. وبرباطة جأش توجه وديع الى غرفة زوجته وطفله وساعدهما على تجاوز حاجز النار التي اندلعت ونقلا الى المستشفى. ومنذ تلك الليلة سيكون على العائلة ان تقيم في شقق كثيرة وفي مناطق مختلفة من لبنان قبل ان يقرر وديع نقلها في 1972 الى بغداد. بعد ذلك اليوم لن تعثر الاجهزة الاسرائيلية على مقر وديع الذي كان يبدل مقرات اقامته باستمرار في لبنان وينام احياناً في الاحراج. حب وزواج لم تكن سامية نعمة الله حداد المدرسة في معهد فلسطين في دمشق تتوقع حياة مفروشة بالورود. فالشاب الذي يبادلها الاعجاب والحب منغمس في نشاطات "حركة القوميين العرب" التي شارك في تأسيسها ومصاب حتى النخاع بهاجس تحرير فلسطين. ولم تكن غريبة عن هذه الاجواء. جاءت من بيئة وطنية وكان اسم زميلها في التدريس غسان كنفاني. كانت تعرف ان وديع الذي تخرج طبيباً من الجامعة الاميركية لن يوفر لها العيش الهادئ والهانئ والرفاهية وما يطمح ان يوفره لزوجته في تلك الايام طبيب تخرج من الجامعة. ولا غرابة في الممانعة لدى اهالي الاثنين. اهل وديع تمنوا لو تفرغ للطب وركز أوضاعه المعيشية والمالية. أأهل سامية من حقهم ان يفكروا في مستقبل ابنتهم. وفي النهاية انتصرت مشاعر الحب. في 9 ابريل نيسان 1961 كان الزواج في دمشق حيث تقيم عائلة سامية. وكان بين الحضور من سيكون لاعمالهم او مواقفهم دوي يتردد في العالم مثيراً قلق فريق واعجاب فريق آخر. في شقة صغيرة بحجم غرفة كبيرة أقام الزوجان. وبعد اقل من شهر من وقوع الانفصال بين سورية ومصر طلب من وديع ان ينتقل الى لبنان ففعل. وبعد شهور تبعته زوجته واقاما في المنزل الذي لا تزال تقيم فيه في بيروت. ومنذ العرس الى اليوم ثمة قصة - طرفة تتردد. خلال المخاض الذي ادى الى تأسيس "حركة القوميين العرب" اتفق افراد الحلقة الصغيرة المؤسسة على ان لا يتصرف اي منهم في مسألة مصيرية، كالسفر او الزواج، قبل التشاور مع الآخرين. وثمة من يقول انهم اتفقوا على عدم الزواج قبل تحرير فلسطين على رغم اقتناعهم ان تحريرها لا ينفصل عن معركة قيام الوحدة العربية. لدى قيام الوحدة المصرية - السورية في 1958 شعر افراد هذه المجموعة ان الوحدة اقتربت ومعها التحرير فاستجاب بعضهم لنداء القلب وتزوجوا. في تلك الايام كان وديع حداد في سجن الجفر الاردني حيث امضى ثلاث سنوات. حين خرج من السجن رأى رفاقه، وبينهم حبش، قد تزوجوا أو يستعدون فتزوج. لم تكن لوديع حداد حياة خاصة. طغى الجانب العام على حياته ووقته. كان يعتقد بان تمكين الشعب الفلسطيني من استعادة حقه في الحياة الطبيعية التي الغاها الاحتلال هدف يستحق ان يضحّى من اجله بالحياة الطبيعية لمجموعة من الافراد. على رغم ذلك كانت الحياة العائلية تعني له الكثير "وحين كان يأتي الى البيت كان يتصرف كأي أب. يضحك ويمزح ويتابع بعض الافلام ويسأل عن نتائج الامتحانات والعلامات. لم يكن منقطعاً عن الحياة لكنه كان منغمساً في عمله … لم يكن متسلطاً ولم يكن منقبضاً. كان الجانب العام طاغياً في حياته. لكن حياتنا كانت بسيطة وكنا مبسوطين. كانت لديه قدرة على اشاعة السعادة من حوله. لم يكن انساناً صعباً. كان سعيداً لأن اسلوب عيشه يصب في خدمة الهدف الذي رسمه لنفسه". كان وديع حداد قاسياً على نفسه. ذهب في الزهد بعيداً. لا يعنيه المال الاّ بقدر ما هو عصب ضروري للعمل. لا تعنيه المظاهر. لا احتفالات ولا اطلالات اجتماعية واستعراضية. بساطة في العيش وتقشف في المأكل والملبس. ينطبق عليه ما ينطبق على رفاقه. والامر نفسه بالنسبة الى عائلته. لا امتيازات لأحد. ويوم مات لم يترك لعائلته شيئاً "باستثناء الارث المعنوي الهائل الذي نعتز به". مات ولم يتملك شقة واحدة. اما المبلغ الزهيد الذي كان في خزنة "المجال الخارجي" يوم غاب فقد انتقل الى "التنظيم". وهنا تلتقي روايات من يعرفون الحقائق والارقام. سألت هاني حداد ماذا يعني له ان يكون نجل وديع حداد فأجاب: - "لا يمكنني عزل هذا الموضوع عن الجانب الشخصي والحميم فيه على رغم معرفتي ان الجانب العام كان الاساس في حياة وديع حداد وتجربته. هناك علاقة مركبة وخاصة جداً في الوقت نفسه، لا سيما ان حديثنا هذا يأتي بعد فترة غياب طويلة. لا اعرف اذا كان استخدام تعبير ارث وديع حداد دقيقاً لكن هناك بلا شك ارث معنوي هائل خلفه كوالد وكشخصية عامة. لم يكن يرغب في اغفال الجانب الخاص في حياته لكنه كان حريصاً الا يتغلب على الجانب العام الذي اعطاه حياته بكليتها. كان يؤكد دائماً على اهمية الجانب العام انطلاقاً من قناعته الراسخة بالحالة النضالية التي كان يعيشها. كانت العلاقة العائلية تعني له الكثير والامر نفسه بالنسبة الى الابوة غير ان الاساس في حياته وحياتنا كان القضيةو فهي كانت الهم الاول. هناك تعبير اخلاقي جداً كان يستخدمه كتعبير عملي وهو جزء أساسي من القدرة على الأداء في المحيط النضالي الذي كان يتصور اننا يجب ان نعيش فيه، ينطلق من اخلاقية نكران الذات. لعل هذه المسألة بالذات من اول المفاتيح لفهم شخصيته. كان يعيش حالة نكران الذات هذه ويسعى الى اشاعتها في نفوس من هم حوله وبالممارسة لا بالكلام. اعتقد بانه نجح تماماً. لقد تبين ان من عملوا معه تشربوا هذه الروحية التي ربما تكون اصيبت بشيء من الضمور بعد غياب النموذج الذي كانت تشع منه". تهمة الارهاب وعما يشعر به حين يقرأ مقالاً او كتاباً يصف والده بأنه كان "عراب الارهابيين" قال: بالنسبة الى الارهاب واضح انه كان موجوداً في كل التجارب التي يوجد فيها طرف قوي مسيطر على طرف أضعف. في مثل هذه الحال يضطر الاضعف الى استخدام اساليب غير تقليدية في الرد لأن الآخر يسحقه ولا يترك له اي خيار. في ادبيات الثورة الروسية تحدث لينين عن الارهاب واستخدامه ولماذا وأين. خلال الحرب العالمية الثانية ألم تستخدم المقاومة الاوروبية ضد النازيين اساليب يمكن نعتها بالارهاب. وضعوا عبوات في محطات القطار والمطاعم التي يرتادها الالمان. الحركة الصهيونية كان الارهاب من بديهيات وجودها. كان الارهاب الاكبر التحالف غير المعلن بينهم وبين الحركة النازية. كتبت كتب حول هذا الموضوع. لا اعرف لماذا تم التعتيم عليها. تهمة الارهاب بالنسبة الينا صناعة اعلامية. هل تجزم ان الدكتور وديع لم يترك شيئاً لعائلته؟ - ترك لنا ذكراه وعبره وتجربته وهي اثمن عندي من اي شيء ولا تقدر بمال. اننا نعيش في ضوء تجربته ودروسها. حين التقي بمن عايشوه اشعر انه كان من الرجال الذين يصنعون الآمال ويعملون لتحقيقها. انا لا اعتقد ان التجربة الفلسطينية في العقود الماضية كانت فاشلة. ما يجري اليوم في الاراضي المحتلة يشير الى انها اصابت قدراً من النجاح. علينا ان نلتفت الى حجم التحدي المقابل. التحدي الصهيوني ليس بسيطاً. هل تعتقد بأن والدك ظُلم؟ - كل حياته كانت بمثابة رد فعل على ظلم. تقصد هل ظُلم من قبل "الجبهة الشعبية" بفعل بعض التجاذبات او الاتهامات؟ كل هذه الامور لم تكن تعني شيئاً لوالدي. والدليل انه حتى وفاته لم يكن يعتبر نفسه خارج الجبهة. مرارات هل كانت لدى والدك مشاعر مرارة؟ - كانت لدى والدي مرارة من تجربة الاردن. الاردن يعني له الكثير. أمضى ثلاث سنوات في السجن وكانت له تجربة انسانية غنية مع السجناء والسكان المحيطين بالسجن وقد حفر مع رفاقه نفقاً للهروب لكن الحراس اكتشفوه. مصدر المرارة التجاوزات التي حصلت بحق السكان. كان يقول ان جزءاً من العدو الذي واجهنا في الاردن هو نحن. وحتى بالنسبة الى لبنان كان يعتقد ان نجاح حزب الكتائب في الاستقطاب ورفع درجة الشراسة يعود في جزء منه الى ممارسات المقاومة. اعتبر والدي ان تجربة المقاومة في لبنان تضمنت اخطاء بعضها قاتل. كان معارضاً لفكرة التجييش اي تحويل المقاومة الى ما يشبه الجيوش النظامية. هل كانت لديه مرارة من عمليات خطط لها ولم تنجح؟ - سمعته مرة يقول انه بمجرد ان نظهر لهم الاعداء اننا لا نزال نمتلك القدرة على الوصول وتخطي الحواجز الامنية نعتبر اننا حققنا نجاحاً. وطبعاً النجاح بدرجات. هل ترك وصية؟ - لا. لم اسمع بشيء من هذا النوع. هل تلقيت مثلاً ذات يوم رسالة من كارلوس؟ - لا. كان عمل والدي مفصولاً عن عائلته. هل كان وديع حداد يكره اليهود؟ - لا. لم يكن يكره اليهود كيهود اي بسبب انتمائهم الديني. لكن عليك ان تأخذ في الاعتبار ان ما يسمى النضال التحرري الفلسطيني والعربي مر في مراحل عدة في وعيه لما يسمى "التحدي الصهيوني". في احدى الفترات كان الصهيوني مرادفاً لليهودي. في فلسطين كان تشكل الوعي بالخطر الصهيوني بدائياً ولكن ليس لدى الكل. كنت تجد في تلاوين الحركة الوطنية الفلسطينية قبل النكبة من كان يسمي الغزو الصهيوني بالصهاينة تمييزاً لهم عن اليهود. صفد كانت مجتمعاً متعدداً وكذلك حيفا. كان هناك يهود يحملون جوازاً بريطانياً مكتوب عليه حكومة فلسطين. لم تكن المشكلة مع هؤلاء. المشكلة اتسعت حين أرغمت الصهيونية هؤلاء على التوحد معها او اجتذبتهم اليها. الحركة الصهيونية تزعم انها حركة قومية لهذا تعتمد كثيراً على ظاهرة التجييش وتعتبر ان معسكرها يشمل جميع اليهود. كان والدي يستخدم احياناً كلمة يهود للاشارة الى الصهيونية لكنه لم يكن عنصرياً ولا معادياً لليهود كيهود. عمل والدك في الظل خصوصاً بعد قيام "الجبهة الشعبية" وتردد انه لم يحب منذ البداية التنظير والجدالات الفكرية والسياسية الطويلة، فما صحة ذلك؟ - كثيراً ما قيل عن والدي انه يغلّب الجانب العملاني والممارساتي على الجانب الفكري والاعلامي. احب ان أوضح انه كان يؤكد دائماً على الوعي السياسي والمنطلقات الفكرية التي تحكم التطبيق. كان يستخدم تعبير الجغرافيا السياسية التي على المناضل ان يعرفها ليصوّب الى الهدف. كان يدرك اهمية الاعلام. مشروع "الهدف" كمجلة مركزية ناطقة باسم "الجبهة الشعبية" وقبلها مجلة "الحرية" كناطقة باسم حركة القوميين العرب كان له دور كبير في قيامهما كونه عمل مسؤولاً مالياً في الحركة والجبهة. تعرف ان علاقة خاصة قامت بينه وبين الشهيد غسان كنفاني. لا يمكن ان انسى يوم استشهد غسان كنفاني. كنا في منزل في الجبل. ظهرت كل عدوانية والدي. اعتبر انه اصيب في الصميم. رد فعله الاول كان القول: "لشو عايشين". كان غسان بالنسبة اليه قيمة هائلة وقدرة لا يمكن تعويضها. فقد كان اعلامياً متميزاً وكان مبدعاً. وفي اعتقادي اننا نشكو من قلة المبدعين. والدي كان لديه الشعور نفسه، لهذا كان يلتقط من يلمع في دورة ويتعهده ويهتم به. كان والدي يحب العلم. كان يقول انه لو لم يكن طبيباً لكان عالماً في الطبيعيات. كان مهتماً بسيكولوجية الحيوان ونفسيته ويتابع ما يصدر في هذا الموضوع. اعود الى غسان كنفاني. كان والدي يعتقد ان غسان قادر على المساهمة في ايجاد اعلام بديل من الاعلام السائد المعادي للمشروع الذي كان والدي جزءاً منه. لهذا ظهرت "الهدف". من هي الشخصيات التي أثرت في وديع حداد؟ - انها لائحة لا نهاية لها. في المقدمة اضع الدكتور جورج حبش الذي كان قوة روحية ونضالية ما يجعل منه نموذجاً. انها حالة الالتزام من دون مساومة او حسابات. بيروت والمتنبي من كان والدك يحب من الشعراء والكتّاب؟ - كان قارئاً نهماً. وبفعل تربيته كان يحب الشعر العربي. في الشعر الانكليزي كان يحب اللورد بايرون كثيراً ويحفظ له كميات من نتاجه. ثم في الدرجة الثانية شكسبير. المرة الاولى التي سمعت فيها شيئاً من نتاج شكسبير كانت حين سمعت والدي يردده ويلقيه. كان والدي يحب قصائد المتنبي كثيراً. كما احب بشكل خاص ابو القاسم الشابي وكان يردد قصيدته التي يقول فيها: سأعيش رغم الداء والاعداء كالنسر فوق القمة الشماء. كان يحب قصائد احمد شوقي وابراهيم طوقان. كان يرى ان بيتاً من الشعر قادر احياناً على تصوير حالة معينة او اختصار وضع. كان الشعر يعنيه اكثر من الشاعر. كان يحب عنترة والفروسية الحقيقية لديه وليس الفروسية الكاريكاتورية. كان يحب ايضاً ابو فراس الحمداني. كان يقرأ تشارلز ديكنز خصوصاً "قصة مدينتين" وما فيها من التضحية بالنفس والايثار ومارك توين. كان يشجعني على القراءة ولا يلزمني بشيء محدد لاعتقاده بان على المرء ان يقرأ كثيراً ثم يختار بعد تكوين شخصيته. هل حزن لأنه ارسل اناساً وقتلوا خلال العمليات؟ - نعم، في بعض الحالات رأيت الدموع في عينيه الأسبوع المقبل: مطار الثورة... والحقيبة الألمانية