مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    اجتثاث الفساد بسيف «النزاهة»    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    سورية الجديدة.. من الفوضى إلى الدولة    خادم الحرمين يهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى استقلال بلاده    إحالة 5 ممارسين صحيين إلى الجهات المختصة    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    الأمن.. ظلال وارفة    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    ضيوف برنامج خادم الحرمين يؤدون العمرة    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    «إسرائيل» ترتكب «إبادة جماعية» في غزة    التحليق في أجواء مناطق الصراعات.. مخاوف لا تنتهي    من «خط البلدة» إلى «المترو»    أهلا بالعالم    ليندا الفيصل.. إبداع فني متعدد المجالات    كرة القدم قبل القبيلة؟!    قائمة أغلى عشرة لاعبين في «خليجي زين 25» تخلو من لاعبي «الأخضر»    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    122 ألف مستفيد مولهم «التنمية الاجتماعي» في 2024    ضبط شخص افتعل الفوضى بإحدى الفعاليات وصدم بوابة الدخول بمركبته    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    رفاهية الاختيار    النائب العام يستقبل نظيره التركي    5 مشاريع مياه تدخل حيز التشغيل لخدمة صبيا و44 قرية تابعة لها    حرس الحدود بجازان يدشن حملة ومعرض السلامة البحرية    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    استثمار و(استحمار) !    وسومها في خشومها    وانقلب السحر على الساحر!    منتخبنا كان عظيماً !    الضحكة الساخرة.. أحشفاً وسوء كيلة !    الأخضر يستأنف تدريباته استعداداً لمواجهة العراق في خليجي 26    نيابة عن "الفيصل".. "بن جلوي" يلتقي برؤساء الاتحادات الرياضية المنتخبين    اختتام دورات جمعية الإعاقة السمعية في جازان لهذا العام بالمكياج    إحباط تهريب (140) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    آل الشيخ: المملكة تؤكد الريادة بتقديم أرقى الخدمات لضيوف الرحمن حكومة وشعبا    موارد وتنمية جازان تحتفي بالموظفين والموظفات المتميزين لعام 2024م    "التطوع البلدي بالطائف" تحقق 403 مبادرة وعائدًا اقتصاديًا بلغ أكثر من 3مليون ريال    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    التخييم في العلا يستقطب الزوار والأهالي    مسابقة المهارات    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" في غابة أسرار المجال الخارجي ل "الجبهة الشعبية". حداد يستطلع سراً لتحديد الساعة الصفر ويقود شخصياً "خطف" حبش من سجنه السوري الأخيرة
نشر في الحياة يوم 15 - 10 - 2001

ولد وديع حداد في 21 تموز يوليو 1928 في صفد. كان اصغر اولاد الياس الرشيد حداد وهم ثمانية توزعوا مناصفة على الجنسين. في 1935 انتقلت العائلة الى حيفا لأن المدرسة التي كان الأب يدرّس فيها ويعمل نائباً لمديرها انتقلت الى تلك المدينة الساحلية. هكذا بدأ وديع حياته في مدرسة ارسالية اسكوتلندية مديرها العام قسيس بروتستانتي اسكوتلندي من المبشرين المستعربين. ضمت المدرسة طلاباً مسيحيين ومسلمين ويهوداً لكنها علمت من المسلمين اكثر من المسيحيين بسبب التركيبة الديموغرافية.
كان وديع حداد متفوقاً في المدرسة الى حد انه اعفي من احدى سنوات الدراسة ونقل مباشرة الى صف اعلى. انهى دراسته في حيفا وكان في السادسة عشرة. تقدم بطلب للالتحاق بالجامعة الاميركية في بيروت لكنه رفض بسبب صغر سنه. لذلك قرر والده ان يرسله للتدرب في مكتب محام صديق للعائلة في حيفا اسمه صلاح شما. في ذلك المكتب تعرف الشاب الصغير على قضايا كثيرة بينها النزاع على الملكيات واستيلاء الوكالة اليهودية على املاك عربية واخلاؤها من سكانها.
كان الياس الرشيد حداد يعمل مدرساً للغة العربية والرياضيات ويعمل أيضاً في قطاع البناء في الوقت نفسه للنهوض بعائلته الكبيرة. كان همه الاول تمكين اولاده من تحصيل العلم للحصول لاحقاً على مهن منتجة ومحترمة.
المنزل الذي تربّى فيه وديع كان مشبعاً بالقيم البروتستانتية والانسانية: تقديس العمل وحب النشاط والثقافة والرياضة والتأكيد على الانجاز. قيم نهضوية، قيم الجيل الذي عاش عصر النهضة العربية في اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين وبينها التأكيد على مسألة التعليم الجيد.
كان الاولاد يتحلقون حول الأب خلال الغداء. بعد الصلاة كان يردد اربعة او خمسة ابيات من الشعر العربي امام اولاده الثمانية. وكان يطلب منهم ان يستذكروا هذه القصيدة او تلك. وقد تميز بينهم قيصر ووديع فقد حفظ الاثنان كمية هائلة من الشعر العربي. القيمة الثانية هي الاختلاط الفعلي بالمحيط. لم تكن لديهم اي مشكلة، ولم تكن لديهم العقلية الاقلوية كما تسمى اليوم. لم يشعروا انهم ينتمون الى اقلية. كان هاني حداد صغيراً حين قال له والده: "اذا سألك رفاقك هل انت مسلم ام مسيحي عليك ان تجيب انا قومي عربي". لم يكن هناك موقف سلبي من الدين لكن لم يكن الدين هو المدخل الى العلاقات او الى اي نوع من التصنيف. وفي مناخ البيت الذي تربى فيه وديع كان هناك تشديد على العقل والعقلانية. تربية تطالب المرء بأن لا يسرف في اظهار عواطفه او يستسلم لها. تربية تطالب بتغليب العقلانية والتفكير وتشدد على المثابرة والجهد والتعب. وفي موازاة ذلك كانت هناك قناعة "العقل السليم في الجسم السليم". ويقول هاني حداد: "اذكر كان والدي يأخذنا الى الجبل ويتسلق امامنا. كان معتاداً على الحياة الجبلية. وصفد تقع على اعلى جبل في فلسطين جبل الجرمق. الهواء النقي والثلج واساليب العيش الجبلية. قال لي ذات مرة انه شعر بشيء من الغربة حين انتقلت العائلة من صفد الى حيفا. كان يسبح جيداً لكن الجبل كان الاطار الطبيعي الاقرب اليه".
ويضيف: "كان والدي من المجلين في الرياضة. حاز ميداليات في العدو لمسافة مئة متر وفي القفز الطويل وفي الركض الطويل. كان يحب ايضاً رمي الرمح والكرة".
كان وديع حائراً في شأن مستقبله. هل يسلك طريق المحاماة ليدافع عن المظلومين ام يختار الطب الذي يعالج مشكلات اكثر مباشرة والحاحاً لدى الناس. وحين عاد الى البيت ذات يوم مختاراً الطب، رداً على سؤال في مسابقة مدرسية، ارتاح الوالد الذي لم يتوقع ان ينهمك نجله الطبيب لاحقاً بصحة وطنه المريض لا بصحة المرضى.
في 1946 غادر وديع حداد الى الجامعة الاميركية في بيروت. تحقق حلم الوالد لكن القدر ضرب لوديع موعداً آخر. فبعد عامين وقع الزلزال. ذهبت صفد وذهبت فلسطين. سارع وديع الى مخيمات اللاجئين متطوعاً للمساعدة. رأى مأساة الاقتلاع والتشرد والذل ولن تفارقه تلك الصور. عائلة الياس الحداد نزحت الى بعقلين في الشوف ولأن والدته لبنانية من آل الريس في عبيه تمكن من الحصول للعائلة على الجنسية اللبنانية.
نسأل رفيقاً عايش وديع على مدى ثلاثة عقود ان يختصره فيقول:
الاحلام الصعبة
"وديع آخر الثوار الرومانسيين. كانت احلامه كبيرة وصعبة لكنها ليست مستحيلة، في نظره، في عالم تسوده القوة الغاشمة وتتحكم في مصائر الناس شريعة الغاب والنهب والاغتصاب.
كان يحلم بتحرير الارض العربية والانسان العربي. كان يعمل ليل نهار لرفع الظلم عن المضطهدين وتحقيق العدالة والكرامة للجميع. كان يحلم بدولة عربية قادرة حرة سيدة عزيزة في هذا الجزء الحساس من العالم تسهم في بناء الانسان الحر الكريم بما تملك من تراث انساني ومن قدرات مادية وبشرية وانسانية وما توفره لها الجغرافيا من مكان ومكانة في هذا العالم.
لقد نبتت جذوره في مدينة صفد ونما في فلسطين وامتدت رؤاه الى كافة ارجاء الوطن العربي الكبير.
لقد عاش مؤامرة اغتصاب فلسطين سنة بسنة. وشاهد الارض الفلسطينية تنهب شبراً شبراً وتطلع الى العرب من حوله فرأى الهيمنة الاستعمارية والتبعية والجهل والفقر تنهش جسد الامة تاريخها ومستقبلها وارضها ومقدراتها.
لم يقف متفرجاً ولا حائراً خاصة عندما رأى منظر الجموع النازحة من ابناء شعبه في شعاب الارض قاطبة.
كأني به كان لسان حاله يقول لتلك الجموع الهائمة على وجهها الى اين تذهبون؟ ابقوا في ارضكم! لا ترحلوا عنها! عودوا اليها.
مكانكم في ارضكم ومهما قاسيتم فان عذابكم ومعاناتكم في ارضكم اقل بكثير من معاناتكم في الشتات.
كأني به كان يقول للذين بقوا مزروعين في ارضهم اصمدوا انا قادمون، وللذين هاجروا لمليون سبب وسبب هيا تجمعوا لنعود يجب ان نعود. وبدأت رحلة العودة عند وديع الى فلسطين من اول لحظة بدأت فيها رحلة المنافي خارج فلسطين".
في ظل النكبة
من اين جاء وديع حداد وسلك الطريق التي سلكها؟ هنا لا بد من العودة الى نشوء حركة القوميين العرب التي تأسست على يد مجموعة من طلاب الجامعة الاميركية في بيروت. كان ذلك في ظل نكبة فلسطين. وكان عدد كبير منهم من الفلسطينيين، بينهم جورج حبش ووديع حداد وآخرون. كان هناك تحليل يقول ان نكبة فلسطين حدثت بسبب التجزئة العربية وبسبب سيطرة الاستعمار على الاوضاع العربية. وان الرد على الهزيمة يكون بتوفير القوة العربية من خلال الوحدة ومن خلال تحرر العرب من الاستعمار. واذا تم ذلك يمكن تحرير فلسطين. من هنا كان شعار الحركة: "الوحدة والتحرر والثأر".
كان المحرك الاساسي لتأسيس "حركة القوميين العرب"، اضافة الى المناخ الفكري الذي كان قائماً في الجامعة الاميركية وندوات قسطنطين زريق وكتابات ساطع الحصري والافكار القومية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، نكبة فلسطين. شعر وديع حداد، كما شعر جورج حبش، بضياع الوطن، وضياع الارض والطمأنينة والرزق. هذا الوضع طرح السؤال: "كيف نرد على الهزيمة؟".
في تلك الفترة كانت هناك مجموعات تعمل منها "كتائب الفداء العربي" وجمعيات صغيرة. حصل لقاء بين هذه المجموعات وانبثقت منها لاحقاً "حركة القوميين العرب". "قال لي وديع انه في تلك الفترة كان يخصص 90 في المئة من وقته للعمل على تعزيز نواة العمل الثوري هذه. وكان يكتفي حين يقترب موعد الامتحانات بعزل نفسه لفترة تضمن له معدل النجاح الضروري للبقاء في كلية الطب".
في الجامعة الاميركية كان حبش متفوقاً في الدراسة ومتقدماً بسنة على حداد. التقى الاثنان ومعهما شبان من العراق والاردن وسورية والكويت ولبنان. بعدها انطلقوا الى خارج الجامعة ومنها الى المخيمات. وهذه النقطة الاخيرة تفسر كلمة الثأر. فقد كان الغرض منها استقطاب جماهير المخيمات الفلسطينية. القاعدة الاساسية للحركة كانت ابناء المخيمات ثم ابناء القرى الفقيرة. شارك وديع في النضالات الطالبية وجرح خلال احدى التظاهرات.
تخرج حبش وبعده حداد وعدد من زملائهما. قرروا ان يرجع كل واحد الى بلده ويؤسس نواة او فرعاً للتنظيم فيه. انتقل جورج الى عمان وتبعه وديع بعد شهور وفتحا عيادة شعبية. كانا يقومان بتطبيب الفقراء باسعار رمزية وبدون مقابل للمعدم. وتعاقدا مع صيدلية كانت تعطي بعض المرضى الادوية وتتقاضى الثمن من العيادة. ووصل الامر الى حد انهما عجزا عن دفع ايجار العيادة. في الوقت نفسه اقاما علاقات مع المخيمات عبر الاندية الرياضية والثقافية وعبر التطبيب المجاني.
الطبيب - السجين
في 1957 وبسبب سياسة الاحلاف تصاعد التوتر السياسي في الاردن واستهدفت عمليات تفجير مراكز اميركية. اختفى جورج واعتقل وديع في سجن الجفر.
ويروي احد رفاق وديع: "كان سجن الجفر في منطقة صحراوية قاسية وكانت شروط العيش فيه قاسية ايضاً. استطاع وديع ان يتحدث الى الحراس ويحرك النوازع الانسانية لديهم. قال لهم ان ثمة مرضى في المناطق القريبة وانا طبيب وعلى استعداد لمعالجتهم. اذهب تحت الحراسة واعود. وبدأ المعالجة وكان يعود الى السجن. اطمأن الحراس اليه وراح يقيم علاقات مع الناس. جاء من رجل بازميل ومن آخر بفأس وكان يتذرع بالاهتمام بحديقة السجن. جمع ادوات حفر صغيرة بدائية. في النهاية صارح السجناء برغبته في تنفيذ عملية هروب. وقال لهم ان النجاح مشروط بتضامن الجميع. كان معه افراد من عشيرة العبيدات وعدد من الضباط الوطنيين وبينهم غازي عربيات، الذي تولى ادارة الاستخبارات العسكرية في السبعينات وكان مولعاً بوديع، اضافة الى ابو علي مصطفى. قرر وديع ورفاقه في السجن حفر نفق. كان اول ما واجهوه هو ماذا سيفعلون بالتراب الناتج من الحفر. طلعوا بفكرة الزراعة والحدائق وراحوا يوزعون التراب سراً عليها وكانوا ينقلونه احياناً بجواربهم. حين تتجمع كومة كان احد السجناء يقول للسجانين ان الرياح تدفع التراب الى السجن ونحتاج الى عربة لاخراجه. وفي النهاية وصل النفق الى خارج حدود السجن ومن دون ان يتنبه الحراس.
قبل الموعد المحدد للهروب بايام قليلة شاءت الصدفة ان احد الحراس في الخارج سمع صوت ضربات متلاحقة. ظن ان الاصوات مصدرها الجن. ذهب الى رفاقه فجاؤوا. سمعوا الاصوات لكنهم لم يعرفوا المصدر. فتشوا وعثروا في النهاية على النفق.
ويضيف المتحدث: "كنت عضواً في "حركة القوميين العرب" التي كانت بدأت بتأمين تدريب عسكري لقواعدها في دمشق والقاهرة. كانت الدورات مختلطة من معظم الاقاليم العربية: اليمن، الاردن، البحرين، العراق وغيرها. كنت في دمشق في مهمة من هذا النوع. كان هناك مركز لجريدة "الرأي" التي كانت تصدرها الحركة. وكان وديع يعرف انني اتيت في مهمة. تصوّر ان حرصه على نجاح العمل جعله يطلب مني ان لا اتحدث عن مهمتي لرفيق وصل من بيروت ولم يكن وديع يدري ان هذا الرفيق هو الذي اوفدني. كان ذلك في 1960. في تلك الفترة لم يكن فرع فلسطين موجوداً في حركة القوميين العرب. كان التقسيم جغرافياً. فاقليم لبنان مثلاً يعني كل من هو متواجد في لبنان من الحركة سواء كان عراقياً ام اردنياً ام فلسطينياً.
بعد اقل من سنة من لقائنا حصل الانفصال بين سورية ومصر. انتقل وديع الى بيروت وقامت بيننا علاقة وثيقة".
صفات القائد
ما الذي استوقفك في شخصية وديع حداد؟
- كان هناك انطباع بأن وديع حداد تخلى عن كل شيء خاص من اجل قضيته. لم تكن لديه حياة خاصة. شاب تخرج من كلية الطب وترك اهله وذهب لتأسيس عيادة في الاردن لم يلتفت خلال عمله فيها الى اي كسب مادي. الامر الثاني ان وديع لم يكن يتردد في تنفيذ اي مهمة".
هل كان وديع متحدثاً لبقاً؟
- كان يتحدث بعفوية وبساطة تمكنه من الدخول الى قلب محاوره. اذا التقاه شخص مرة يشعر وكأنه يعرفه منذ وقت طويل كانت شخصيته مزيجاً من البراءة والطيبة والصدق والوفاء والكرم وقبلها نكران الذات.
كان المؤتمر اعلى سلطة في حركة القوميين العرب وكان ينتخب امانة عامة لمتابعة تنفيذ المهمات التي حددها. وتتبع الامانة العامة لجان للفكر والتثقيف والمال والادارة ولجنة نضالية. لجنة الادارة كانت عصب الحركة لأنها مسؤولة عن الاتصال وتأمين النشرات وطبعها وتوزيعها ونقل العناصر ومتابعة قضايا المعتقلين في السجون العربية اضافة الى الاشتراكات والتبرعات والموارد المالية. كانت هذه اللجنة في عهدة وديع وكان نجاحه فيها من العناصر الاساسية في استمرار الحركة. لجنة الامانة العامة كانت تضم جورج حبش ومحسن ابراهيم وهاني الهندي وآخرين.
العلاقة الاقرب كانت بين وديع وجورج؟
- نعم كانت قوية جداً. في بداية الخمسينات كان العمل يتم تحت تسمية "هيئة مقاومة الصلح مع اسرائيل" و"القوميون العرب" و"الشباب القومي العربي". اعتقد ان اسم "حركة القوميين العرب" ظهر في 1958. يومها اجروا استفتاء حول التسمية هل تكون "حزب القوميين العرب" ام "حركة القوميين العرب" فايدت الغالبية الاسم الثاني.
هنا اريد ان اشير الى مسألة. بين البدايات الاولى والمراحل اللاحقة كان يغادر الحركة عدد من المؤسسين او من الجيلين الثاني والثالث لاسباب بنيوية. المؤسسون هم من ابناء الطبقة البوروجوازية. كلما زادت وتيرة نضال الحركة تعارضت المصالح وكان هناك من يغادر. في كل تجربة ثورية او حزبية يفترض ان تحصل مراجعة بين فترة واخرى. المطلوب اليوم اكثر من مراجعة تجربة "حركة القوميين العرب"، المطلوب محاكمة قيادة الحركة اذ كيف تنتهي حركة كانت منتشرة في كل الوطن العربي تقريباً ببيان؟ انتهت الحركة رسمياً في 1967 لكن بدايات النهاية كانت في 1963.
تجاذبات
متى صار وديع حداد معنياً بالعمل العسكري؟
- هنا اقول، ومن دون اي محاولة للمزايدة على احد، ان الحركة بدأت اعداد شبابها عسكرياً منذ اواخر الخمسينات. كان الفلسطينيون في الاقاليم جزءاً من كل اقليم وكان الرهان على الوحدة العربية. وحين حصل الانفصال بين سورية ومصر شعرنا كفلسطينيين بخيبة امل. ثم جاء عامل انتصار الثورة الجزائرية. شعب كافح ودعمه العرب وانتصر. كنا نعتبر ان كل انتصار عربي يقربنا من فلسطين. كنا نقيم اسبوعاً لنصرة الجزائر وكان شباب الحركة يوفرون من مصروفهم الشخصي للتبرع به. الانفصال وانتصار الثورة الجزائرية حركا الشباب الفلسطيني الذي اعتبر ان عليه ان يأخذ المبادرة.
موضوع آخر كان يتفاعل. بدأ طرح موضوع الفكر الاشتراكي الذي لم تكن الحركة حتى اوائل الستينات تعطيه اهتماماً. العلاقة مع عبدالناصر ساهمت في طرح هذا الموضوع اضافة الى التجربة الحزبية وقراءات الاعضاء. كانت ردود الفعل متفاوتة بين مؤيد ومتحفظ ومحايد. في الستينات ايضاً غادر بعض القياديين الحركة. دعاة الفكر الاشتراكي كانوا محسن ابراهيم ونايف حواتمة وآخرون. يمكن القول انها تمحورت حول جماعة مجلة "الحرية" اي المجلة الاسبوعية للحركة في بيروت. ولعل اخطر ما طرحوه يومها هو السماح بوجود تيارات داخل الحركة. وكان هذا الطرح مناقضاً لمبدأ وحدة الفكر في الحركة التي بنيت على قواعد صارمة بينها نفذ ثم ناقش.
الخط الاشتراكي
اين كان وديع حداد يقف، مع المجموعة اليمينية؟
- وديع وجورج كانا مع اعطاء المسألة طابعاً تدريجياً وبدا كأنهما يقفان في الوسط. وكان رأي الوسط هو الغالب. دعاة الخط الاشتراكي يقاتلون من اجل خيارهم والمعارضون كانوا ينسحبون والحالة الوسطية تسعى الى الاستيعاب شرط الافادة من دروس التجربة وتقويمها. في هذه الازمات كان دور وديع كبيراً نظراً إلى قدرته على اقامة علاقات انسانية وشخصية على رغم اختلاف الآراء. كان يعطي لعلاقاته دفئاً انسانياً يحفظها على رغم التباينات.
في تلك المرحلة ارتفع الصوت في اوساط الشباب الفلسطيني في "حركة القوميين العرب" يدعو الى مباشرة العمل المسلح وبدأ الضغط على قيادة الحركة. كان الحوار مستمراً بين عبدالناصر وقيادة الحركة. وكان الرئيس عبدالناصر يعتبر ان الوضع غير مؤات وان اي عمل عسكري ضد اسرائيل "قد يدخلنا في مواجهة تقودنا الى هزيمة نحن في غنى عنها وهي ستشكل كارثة". بين ضغط القواعد والرغبة في التجاوب مع موقف عبدالناصر ظهرت مقولة تدعو الى العمل "فوق الصفر وتحت التوريط". اي القيام بعمل عسكري فوق الصفر اي ان يكون موجوداً من دون ان يتسبب في دفع اسرائيل الى مواجهة فيما الدول العربية غير مستعدة. حكمت هذه المقولة تحركنا نحو ثلاثة اعوام. كان لدينا عناصر مدربة وتم فرز اقليم فلسطين كاقليم مستقل عقد مؤتمره الاول في 1963 في لبنان وحضر فلسطينيون من مختلف البلدان العربية وسلمت قيادة الاقليم الى وديع حداد.
بدأت القضية الفكرية تطرح بحدة في الحركة. وارتفعت اصوات تقول ان وديع لا يعطي هذه القضية الاهتمام اللازم وانه يجب ان يثقف نفسه. وضعت قيادة الحركة برنامج مطالعة لوديع وطلبوا منه خفض نشاطاته باستثناء الاجتماعات القيادية والاهتمام بتثقيف نفسه. اسكنوه في شقة في منطقة الحص في بيروت. اذكر انني كنت اتردد عليه. ذات يوم كان بدأ قراءة كتاب ريجيس دوبريه "ثورة في الثورة". قرأ نحو 35 صفحة ثم طوى الصفحة. وبعد 20 يوماً فقط من اقامته في الشقة حولها الى مخزن اسلحة. كان ذلك في 1963. كان يستعد عملياً لاطلاق الكفاح المسلح.
بدأنا في اقليم فلسطين نبلور تصوراً للعمل العسكري. كانت "فتح" تصدر نشرة اسمها "فلسطيننا". كان التفكير لدينا انه لا بد من الاتصال بعرب الداخل وتخزين السلاح هناك وامداد اهلنا بالنشرات والكتب، اي انشاء تنظيم في الداخل يتولى بدء العمل العسكري، لم تكن لدينا اي خبرة في الوصول الى الداخل الفلسطيني. في تلك الفترة حصلت محاولة انقلاب في سورية بقيادة جاسم علوان. كان هناك في سورية كتيبة فلسطينية اسمها كتيبة الفدائيين. شاركت عناصر الكتيبة في تحرك جاسم علوان. فشلت المحاولة الانقلابية فاعدم من اعدم وهرب من هرب. الذين هربوا توجهوا الى مصر. كان بينهم اعضاء في الحركة. عندما فكرنا في العمل المسلح اتصلنا بهم وطلبنا منهم المجيء الى لبنان لبدء دوريات.
ما الغرض من الدوريات؟
- الاتصال بعرب الداخل. من له اقارب في فلسطين كان يبعث برسالة ويطلب استقبال الشخص الذي سيصل. ثم كنا ندرب العناصر على الطرقات. وبعد ذلك ايصال الاسلحة. استمرت هذه العملية من 1963 الى ان سقط اول شهيد في 2 تشرين الثاني نوفمبر 1964 وكان اسمه خالد ابو عيشة. كان المسؤول عن هذا البرنامج لجنة عسكرية من اقليم فلسطين كانت هي الاخرى برئاسة وديع حداد.
لمعرفة الطرق كنا نستعين بعناصر من لبنان لا علاقة لها بالحركة. عناصر تملك الخبرة في التسلل الى الارض المحتلة ومعرفة الطرق. كانت التعليمات للدوريات بعدم الدخول في اشتباكات حتى ولو ظهرت امامهم اهداف يمكن ضربها. وصادفوا احياناً شباناً من منظمة "ناحال" للشبيبة ولم يكن برفقتهم سوى ضابط يحمل مسدساً. المشهد يغري بالهجوم لكن كان هناك امر بمنع الاشتباكات اذ كان الغرض ترسيخ الوجود في الداخل لاطلاق الكفاح المسلح من هناك وبحيث يكون دور الخارج داعماً. هذا الأمر استمر حتى 1967. وخلال تلك السنوات كانت تتحرك دورية كل 20 يوماً تقريباً عبر الحدود اللبنانية. كما كانت هناك لجنة عسكرية في عمان تحاول القيام بالشيء نفسه عبر الضفة الغربية.
اول الشهداء
هل يمكن القول ان وديع حداد كان وراء اول عملية عسكرية في الداخل؟
- للامانة لم تكن هناك خطة لتنفيذ عملية لكن حصل اشتباك بالصدفة وسقط فيه الشهيد الاول للحركة خالد ابو عيشة واسر شاب بعدما جرح اما الثالث فنجح في العودة. حصل اشتباك ثان مع دورية استشهد فيه ثلاثة واسر رابع اسمه سكران سكران. الشهداء هم محمد اليماني شقيق ابو ماهر اليماني وسعيد العبد سعيد، ورفيق عساف قائد الدورية.
طبعاً لا بد من التساؤل عن مصدر السلاح. الحقيقة انه سلاح من مخلفات احداث ثورة 1958 في لبنان. رشاشات "بورسعيد" وما كان متوفراً لم يتجاوز العشر رشاشات. لكن طريقة الاستخدام كانت توحي بأن لدينا الكثير. كنا نخزن السلاح في منطقة الحدود اللبنانية - الاسرائيلية بمعرفة اصدقاء. تذهب الدورية من مدينة صور، او قاعدة اخرى، سيراً على الاقدام. تصل مساء فيكون الشخص الصديق قد هيأ السلاح. كانت الدورية تمضي الليل وفي الليلة التالية تدخل الاراضي المحتلة. ابعد مكان وصلت اليه الدوريات هو الناصرة. طبعاً وصلت الدوريات الى قرى الجليل. نجحت الدوريات في اقامة شبكات في الداخل ضمت عدداً من العسكريين العرب الدروز في الجيش الاسرائيلي. ضابط من هؤلاء دعا شباب احدى الدوريات الى عرسه وحضروا ولم ينتبه احد. الحقيقة اننا نجحنا كما اذكر في تجنيد ضابطين وثلاثة عسكريين.
في 1/1/1965 نفذت "فتح" عمليتها الاولى واعلنت اطلاق الكفاح المسلح. وقال اخوة في "فتح" في تلك الفترة انهم بعد استشهاد ابو عيشة خافوا ان يسبقهم طرف آخر فسرّعوا موعد بدء الكفاح المسلح. بعد انطلاقة "فتح" صرنا نعاني في لبنان. انكشفت الطرق وضاعفت الاجهزة الامنية اللبنانية مراقبتها. كان تعامل الاجهزة قاسياً وولد شعوراً بالمهانة لدى الفلسطينيين. مخيم مثل عين الحلوة أو نهر البارد كان عدد سكانه في حدود 20 الف نسمة. كان يحكمه عنصر من "الشعبة الثانية" في الجيش اللبناني يجول في الليل ويرغم الناس على عدم سماع اذاعة "صوت العرب". بين 1965 و1967 واجه العمل مشكلات.
في ظل عبدالناصر
اين كان وديع في تلك الفترة؟
- من 1961 الى 1967 كان وديع مقيماً في بيروت. في شقة في منطقة الملا هي مقر اقامة العائلة.
حصلت 1967 والهزيمة فكيف ولدت "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
- على صعيد "حركة القوميين العرب" وقبل 1967 كان هناك تيار في الحركة يدعو الى حل فروع الحركة والاندماج في التيار الناصري. حل في سورية وصار جزءاً من الاتحاد الاشتراكي وحل في العراق. نشرت مقالات عدة في مجلة "الحرية" حول اعادة صياغة التاريخ العربي المعاصر كان مؤداها ان الحركة لا تستطيع ان تنجز الاهداف في ظل قيادة رسمية قادرة على التحقيق عبدالناصر وبالتالي فما هو مبرر وجود الحركة مستقلة. كان الامر بمثابة دعوة الى الاندماج في التيار الناصري وتشكيل الجناح اليساري فيه. جورج حبش ووديع حداد لم يكونا من هذا الرأي. كانا مع المحافظة على الاستقلالية كتنظيم مع التحالف مع عبدالناصر. خلال حرب حزيران يونيو 1967 كانت "الحرية" تصدر يومياً في صفحتين. اعلن عبدالناصر استقالته فصدرت "الحرية" بعد يوم او يومين وعنوانها "كلا لم يهزم العرب ولم يسقط عبدالناصر". بعد اقل من اسبوعين ظهرت دراسة تقول "سقطت البورجوازية الصغيرة وبرامجها".
حصل زلزال في الامة العربية. فرعا الحركة في سورية والعراق كانا قد حلا. الاقاليم التي ظلت على مقربة من بعضها هي اقاليم الكويت وفلسطين والى حد ما اقليم اليمن الذي كان يقود كفاحاً مسلحاً في الجنوب. اجهزة المخابرات المصرية كانت تحاول ان توحد في اليمن الجنوبي "الجبهة القومية" و"جبهة التحرير" التي يقودها عبدالله الاصنج. شباب "حركة القوميين العرب" في اليمن لم يكونوا على استعداد للتوحد مع الاصنج. طبعاً تحركت المخابرات واعتقلت عناصر في تعز وصنعاء من "الجبهة القومية" وجمدوا حركة عناصرها في القاهرة.
بدأت مفاوضات بين مصر والحركة في شأن التوحيد في اليمن. جورج ووديع كانا مع عدم التوحيد. عناصر قيادية اخرى في الحركة استجابت لدعوة عبدالناصر وقالت اما الوحدة واما نحن غير مسؤولين واصدروا بياناً يقول ليست لنا علاقة ب"الجبهة القومية". حوصرت "الجبهة القومية". واذكر ان اقليم فلسطين فرض على كل عضو فيه دفع راتب شهر اذا كان موظفاً ومبلغاً اقل اذا كان غير موظف. ذهب جورج ووديع الى الكويت ونظما حملة تبرعات بالتعاون مع الفرع الكويتي لدعم "الجبهة القومية" الى ان انتصرت.
قبل 1967 ظهرت في الساحة الفلسطينية مجموعة تنظيمات: "فتح"، "العاصفة"، "حركة القوميين العرب" وكنا نعمل في لبنان تحت اسمين "ابطال العودة" و"شباب الثأر"، في الاردن كنا نعمل باسم "شباب الثأر"، كما كانت هناك منظمة "الصاعقة" و"جبهة تحرير فلسطين" بقيادة احمد جبريل.
ولادة "الشعبية"
بعد الهزيمة تساءلنا عن معنى وجود كل هذه التنظيمات في الساحة الفلسطينية وشددنا على ضرورة وحدة الكفاح المسلح الفلسطيني ومباشرة العمل خصوصاً انه بعد احتلال الضفة الغربية وغزة صارت لدينا قواعد وراء الخطوط. حصلت لقاءات في الشام بين حزيران يونيو 1967 واوائل 1968 بين "فتح" و"حركة القوميين العرب" وجبريل و"جيش التحرير الفلسطيني". كان وديع يقود وفد الحركة في مفاوضات التوحيد. شاركت "فتح" في الحوارات لكن بدا انها تحرص على الانفراد بالعمل في الضفة. فجأة صدر بيان عن "فتح" يعلن ان قيادة قوات "العاصفة" انتقلت الى الضفة الغربية وبدأت عملياتها. حصلت اعتقالات آنذاك في الضفة. تابعنا مع جبريل ومع منظمة التحرير وعملياً جيش التحرير. كان الاتفاق ان تمول منظمة التحرير اعمال الفدائيين. رفض الاتفاق اذ كانت هناك وجهة نظر تدعو الى عدم الوقوع اسرى منظمة التحرير. وهكذا رست "الجبهة الشعبية" على "حركة القوميين العرب" واحمد جبريل. وكانت تضم ايضاً شخصيات مستقلة مثل اطباء في الاردن سموا انفسهم "الاطباء الاحرار" واحمد زعرور ضابط سابق في الجيش الاردني.
حين شكلت "الجبهة الشعبية" كان واضحاً ان الاساس هو "حركة القوميين العرب" اذ ان وجود جبريل كان محصوراً في سورية. رحنا نجمع اسلحة من لبنان ونرسلها الى الاردن الى ان حصلت الحادثة التي اشرنا اليها حين صادرها السوريون وذهب حبش ليراجع بشأنها فاعتقل. ضمت "الجبهة الشعبية" آنذاك شباناً من "حركة القوميين العرب" ومن "ابطال العودة" و"شباب الثأر" وجماعة احمد جبريل. وكان لها "قيادة عامة".
في آب اغسطس 1968 عقد مؤتمر شارك فيه اعضاء "حركة القوميين العرب" المشاركون في "الجبهة الشعبية". عقد في جرش. كان واضحاً في المؤتمر وجود تيار يغلب الجانب الفكري والنظري على الجوانب الاخرى ويقوده نايف حواتمة. كان حواتمة يطرح، باختصار شديد، انه لا يجوز اعلان الكفاح المسلح قبل بناء الحزب الثوري الذي لم تنضج ظروف بنائه بعد. كانت وجهة نظر وديع ان بناء الحزب يتم من خلال العمل اليومي وان عملية المجابهة كفيلة بتصليب بناء الحزب. نقطة الخلاف كانت الكفاح المسلح اولاً ام بناء الحزب. عندها تقرر تشكيل قيادة. فور حصول الانتخاب ظهر ان طالباً من طلاب جامعة القاهرة حصل على اصوات اكثر من جورج حبش القائد التاريخي المعتقل في سورية. تبين ان هناك عملية مرتبة فالطالب المذكور مؤيد لنايف. حصل جدل وخلاف كاد يؤدي الى اشتباك. تم الاتفاق على استكمال المؤتمر لاحقاً. في هذه الفترة نظم وديع حداد عملية اطلاق جورج حبش.
شعر جبريل بانعقاد المؤتمر فاعتبره غير تنظيمي وغير شرعي. اعتقد ان جبريل كان يتعرض لضغوط خارجية. وساهم نايف حواتمة في اذكاء الخلاف وكان يقول ان جبريل غير مسيس. اصدر جبريل بياناً بفصل القوميين العرب من الجبهة مستخدماً اسم "القيادة العامة" وهكذا ولدت "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة" واستمرت حتى اليوم.
السلاح والسجن
لماذا قرر وديع حداد اخراج جورج حبش من السجن في سورية؟
- لا يمكن فهم ما حدث دون الالتفات الى العلاقة التي كانت تربط بين الرجلين. انهما توأمان يتعذر فصلهما. علاقة قوية متبادلة قائمة على الحب والاحترام والتقدير والثقة والهدف الواحد. كان كل منهما يشعر بالغربة حين يبتعد عن الآخر. ويمكن القول اننا تعلمنا اهمية الوفاء على يديهما. سلوكهما على الصعيدين النضالي والاجتماعي كان متشابهاً. على الصعيد الشخصي لم يكن باستطاعة وديع ان يحتمل وجود جورج في السجن ومن دون ان يرتكب اي ذنب.
خلال وجود جورج في السجن كان وديع يشعر بحرقة، ليس فقط بسبب العلاقة الشخصية بل ايضاً لقناعته بأن وجود جورج لا غنى عنه لقيادة تنظيم يعبئ الجماهير.
بعد حرب 1967 كان على حبش ان يتحرك في دول الطوق المتاخمة لفلسطين. قامت علاقات مع الأشقاء في سورية وتم الاتفاق على ان يتم ارسال اسلحة من لبنان للفدائيين في الاردن عن طريق سورية ليتم نقله لاحقاً من الاردن وتخزينه في الاراضي المحتلة للقيام بعمليات ضد العدو. حصل اشكال بالنسبة الى السلاح وذهب جورج ليراجع خصوصاً ان السلطات السورية كانت وافقت وتعرف مقرات الاسلحة المرسلة. كانت المفاجأة اعتقال جورج في سورية.
طالت فترة الاعتقال ووضع حبش في كركول الشيخ حسن وهو سجن قاس. حاول حداد بكل الوسائل اقناع السلطات السورية بالافراج عن حبش فلم ينجح. آخر المحاولات كانت زيارة قام بها شفيق رشيدات الامين العام لاتحاد المحامين العرب لعبدالكريم الجندي. بعد اللياقات وبحث مواضيع اخرى سأل رشيدات الجندي الى متى سيبقى حبش في السجن. فاجابه: "هل جئت تطلب اخراجه". فرد: "نعم هذا هو الهدف الاساسي من زيارتي". قال الجندي: "نزول السماء على الارض اسهل من اخراج حبش من السجن".
"اما آن الاوان"
نقل رشيدات حصيلة الزيارة التي كان وديع من المتحمسين لحصولها. عندها شعر وديع ان النظام السوري لا ينوي الافراج عن حبش. في تلك الفترة كان وديع يتنقل بين بيروت ودمشق. اتخذ قرار بنزول وديع الى عمان لانه يعرف البلد فذهب. شاءت الصدف ان شخصاً كان في زيارة لدمشق والتقى هناك ابراهيم الراهب ابن شقيقة حبش. خلال الحديث بينهما سأل الراهب الشخص عن الدكتور وديع فاجابه انه ناشط كالعادة. قال الراهب: هناك رسالة شفوية من الدكتور حبش اريد ايصالها اليه فعندما استقبل شقيقته قال حبش لها: ارسلي الى وديع وقولي له ان جورج يقول اما آن الاوان يا وديع.
نقل الشخص الرسالة الى وديع فقال له اعدها ثانية فاعادها. سأله ان كان متأكداً فرد بالايجاب. بعدها استفسر وديع من اهل ابراهيم الراهب المقيمين في مأدبة فتأكدت له صحة الرسالة. بحث وديع الوضع مع اقرب المقربين اليه: الاخ ابو علي مصطفى الامين العام الذي اغتالته اسرائيل أخيراً واحمد ابو عيسى الامين العام ل"حزب الشعب" وقيادي يدعى ابو سمير. بعد التداول قال وديع يجب ان نعثر على طريقة لاخراج جورج وسأتفرغ انا لهذا العمل. اقام وديع غرفة عمليات خاصة في منطقة في الاردن. وبدأ اتصالات في دمشق ووضع برنامجاً يومياً للعمل. رتب عملية استطلاع لمنطقة السجن وللطريق التي يسلكها جورج حين ينقله الجنود الى مركز للمخابرات للقاء الاقارب الذين يطلبون زيارته واعتقد ان هذا المركز كان في منطقة اسمها دار المعلمات. قام وديع بعملية الاستطلاع هذه شخصياً ومرات عدة وكان يقيم سراً في سورية ومن دون ان يعلم به احد. كان يقيم في منازل بعيدة عن الشبهة ومعه باستمرار شخص متحرك.
كيف تبلورت الخطة؟
- وضع تصوراً اولياً ثم راح يعد للعملية في ضوء عمليات الاستطلاع وجمع المعلومات.
هل اخذ في الاعتبار ان خطف حبش من حراسه يمكن ان يؤدي الى اشتباك يتسبب بمقتله ومقتل الذين يحاولون انقاذه؟
- هذا الامر وارد في اي عملية من هذا النوع. كان وديع حريصاً على درس كل التفاصيل. درست المنطقة التي يعبرها حبش للقاء الزائرين وسرعة السيارة التي تقله وعدد حراسه وتبين ان حبش ينقل في سيارة جيب عسكرية لا تضم سوى السائق وجندي آخر يتم اجلاس السجين بينهما في الذهاب والاياب. قيست المسافة وقسمت الى اجزاء ودرست.
تطورت الخطة لاحقاً لتشمل اتصالاً بجورج بغية افهامه ان شيئاً يرتب. كان هناك اقتراح بأن يعترض شخص طريق الجيب وهو يقل حبش من المركز الى السجن بعد لقاء الزائرات. ارسلنا فتيات وطلبنا منهن افهام حبش بطريقة ما ان يتوقع شيئاً في الاسبوع المقبل. وفي اليوم نفسه يعترض الشخص الجيب. ووفقاً للخطة تقدم شاب من الجيب وراح يهتف لحبش: "خالي خالي، خالي، خالي". ادرك حبش ان الشاب الذي يتظاهر انه ابن شقيقته مشارك في العملية. قال للحارسين ان يتوقفا وقال لهما هذا ابن اختي. قال الشاب: "يا خالي كنت انوي زيارتك اليوم لكنهم لم يسمحوا لي سأحاول الاسبوع المقبل". فرد حبش: "كيف يا خالي توقف السيارة هكذا، يمكن ان يسبب ذلك لك مشكلة". فاجابه الشاب: "الحمد لله". طبعا الفتيات ابلغن حبش الرسالة وغادرن سورية. في هذا الوقت كان وديع اتخذ قراره في شأن النقطة التي سيتم فيها اعتراض السيارة التي تقل جورج وحدد لعملية اخذه من حراسه مهلة لا تزيد على دقيقتين ونصف.
عندما تقرر المكان المحدد للاعتراض درست الطريق التي سنسلكها من دمشق الى بيروت وكم ستستغرق الطريق لنصل الى نقطة آمنة. خطة الافراج كانت عملية عسكرية كاملة فيها توزيع ادوار: هناك من يراقب وهناك من يهاجم.
كم بلغ عدد المشاركين في العملية؟
- عددهم الاجمالي 15 شخصاً. الذين نفذوا العمل المباشر ثمانية بمن فيهم وديع.
ساعة التنفيذ
رتبت زيارة جديدة لرفيقات من "الجبهة الشعبية" ذهبن بهويات قريبات لجورج. كان المشاركون توزعوا في بيوت آمنة في دمشق. وفي تلك الفترة كان هناك طريق فرنسي قديم مفتوح بين سورية ولبنان وفيه حفر كثيرة. اصلحت الحفر سراً خلال فترة الاعداد على يد اخوان لبنانيين كان دورهم ان ينتظرونا.
حصلت الزيارة فقالت الفتيات لحبش ان الامر سيتم اليوم فاجاب: اعرف. وعندما انتهت الزيارة غادرت الفتيات فوراً الى لبنان. خلال العودة كانت هناك سيارة تتابع الجيب الذي يقل حبش. وفي منطقة الكمين كانت هناك سيارة مدنية فيها الدكتور وديع وسيارة جيب دورها ان تصدم الجيب الذي يقل حبش في نقطة تبعد نحو 500 متر عن السجن. تم اختيار تلك المنطقة لأن اي حارس يبقى حسه الامني عالياً ومتوتراً الى ان يقترب من مقر السجن الذي سيعاد اليه السجين فيبدأ حينذاك بالتراخي. ارتدى المنفذون ثياباً عسكرية سورية. طرأ عطل على السيارة المدنية التي كان وديع ينتظر فيها في منطقة الكمين. الجيب كان مخصصاً لصدم الجيب الذي ينقل حبش ولم يكن فيه وقود او عجلة احتياطية وكان مقرراً تركه. وصل الجيب الذي يقل حبش وحصلت عملية الصدم وتم ضرب رجلي الامن بالمسدسات فاستسلما. نقل حبش وتم احتجاز الجنديين. وانطلق المنفذون بعدما دامت العملية دقيقتين وبضعة ثوان. لم يحدث اي اطلاق نار.
ضد التصفية
مشى الموكب. المرسيدس وفيها حبش ووراءها سيارة حماية في حال حصول اي عملية تصد في طلعة ميسلون قال احد اعضاء سيارة الحماية للمسؤول عنه هناك سيارة تلاحقنا وكان الوقت مساء. قال له المسؤول حين تصبح السيارة التي تلاحقنا في مدى الرماية المجدية اخبر. اقتربت السيارة اكثر فجهز شباب الحماية رشاش الدكتريوف وقنابل حارقة واخرى دخانية وقنابل يدوية عادية. فجأة يلتفت المسؤول الى السيارة التي تلاحق ويكتشف ان ضوء الشمال فيها مكسور فطلب من الجميع عدم اطلاق النار وقال هذه سيارتنا الجيب التي استخدمت في عملية الصدم وحين اقتربت تبين ان وديع استقلها بعدما وضع فيها وقوداً وترك السيارة الاخرى المعطلة مع شاب لاصلاحها.
هكذا التقينا في النقطة الفاصلة بين سورية ولبنان وكان الفرح عاماً. هنا طرحت مسألة الجنديين السوريين اللذين اصطحبناهما معنا وكانت الخطة تقضي بتصفيتهما اذا لم يكن هناك حل آخر. كان وديع حريصاً ان يصل جورج الى لبنان من دون اي خطر واشار الى الجنديين. وقف حبش وقال: "الجنديان لا ذنب لهما ومن يقتلهما يتصرف كأنه يقتلني". وهكذا تم عصب اعين الجنديين وقال احد المنفذين لشخص آخر قف قربهما لمدة ساعتين ومن يتحرك منهما قبل ذلك تطلق النار عليه. لم نترك شاباً معهما وغادرنا وفرحنا اننا لم نضطر الى التعرض لهما بسوء. ساعدنا في النقطة الاخيرة اخوان لبنانيون ووصل حبش الى بيروت وبدأ رحلة العودة الى العمل.
العملية تظهر كم كان وديع مستعداً للعطاء من اجل جورج


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.