"أعطيت لي هذه الوزارة لأنني لم اكن اتمتع بدعم طائفي وسياسي كافيين كي اعطى وزارة اكبر. لكنني اليوم أقول: عندما سأترك وزارة سيتقاتلون عليها"، هكذا يختصر وزير الثقافة اللبناني غسان سلامة، تجربته ورهانه في الموقع الذي يحتله منذ ستة اشهر، وهي فترة اطلق خلالها ورشة تشريعية هائلة، لترسيخ اساسات وزارة غير موجودة. ولتجاوز القيود التي تفرضها موازنة وزارته الشحيحة، عقد الوزير سلامة اتفاقات مع مؤسسات دولية عدة، ونجح في الحصول على مساعدات مالية مهمة لمشاريعه الكثيرة، وبينها تأسيس المكتبات العامة، ودعم الفنون المشهدية والحية، وترميم الآثار... وقريباً ربما تنظيم معرض مهني للكتاب العربي، واطلاق قناة تلفزيونية ثقافية وتربوية، يعلن عنها للمرة الاولى في هذا الحوار. ويرى غسان سلامة ان العرض في الانتاج الثقافي اللبناني يفوق الطلب، ويعتبر ان وظيفته هي فتح اسواق جديدة امام هذا الانتاج: "هناك شيء اسمه اقتصاد المعرفة واقتصاد المتعة، ونحن مسؤولون عن تسويقه، لأن لبنان لديه "قيمة مضافة" وعلينا ان نعمل على استثمارها". وهو اذ يرفض الاعتراف بأن الثقافة اللبنانية تعاني من "أزمة"، يعتبر ان المشكلة الاساسية التي نعاني منها، هي ان "المنطق الاعلامي يطغي اليوم اكثر من اللزوم في بلدنا على المنطق الابداعي". ويأسف لكون المثقفين مصابين بحب البروز ومرض الوجاهة والكسل. "ليس دور الدولة ان تكون منتجة ثقافية، بل ان تدعم المنتجين الثقافيين" يؤكد الوزير سلامة، ويذكّر بأن "الهوية الثقافية لا تتكوّن بمجرد تراكم الاسهامات الفردية، بل ببلوغ درجة ارقى وأعقد من التفاعل". أما الفكرة العربية كما يطرحها لبنان، ف "هي فكرة اصيلة الى درجة انها واثقة من نفسها وغير منشغلة بهواجس الغزو الثقافي". ويطلق الوزير سلامة هذا التحدي: "لبنان بلد عربي اصيل. لكن مطلوب من العرب ألا يخضعوا عروبتنا لامتحان دائم!". في مكتبه البسيط في عمارة الستاركو، يبدو وزير الثقافة اللبنانية غسان سلامة في قاعة انتظار. كأنه يعيش حالة موقتة، مرحلة انتقالية لا بد من تجاوزها الى ترسيخ اساسات وزارة فعلية، عصرية، ودينامية، قادرة على التفاعل مع العصر، والمراهنة على المستقبل. لذلك تراه يعمل عن حكومة كاملة. خلال الاشهر الستة التي شغل فيها هذا المنصب، انطلق في ورشة تشريعية حقيقة، كي يعطي حضوراً ملموساً وشرعياً، لتلك الوزارة الوهمية التي "لم تكن موجودة"، بتعبيره، عندما استلمها. وغسان سلامة الأكاديمي والباحث والمثقف الذي عايش العصر الذهبي للثقافة اللبنانية، قبل ان يبرز اعلامياً في فرنسا حيث عمل في البحث والتأليف والتدريس الجامعي، يحمل اليوم أفكاراً جريئة عن دور الدولة في مجالات الثقافة والابداع. وعلى رغم العقلانية والمنهجية اللتين تميزان سياسة الوزير سلامة، يبدو المثقف حاضراً لديه في اعماق السياسي، المثقف الطوباوي الذي يبحر عكس التيار بأفكار عصرية وجريئة، وسط تركيبة سياسية وادارية لا تتسع للمشاريع المستقبلية ولا تحتمل اي تجديد جذري في البنى والعقليات. ولعل الامتحان الجدي الاول الذي سيواجهه خلال الخريف المقبل، كما يحدده هو، سيكون موعد اختيار معاونيه وموظفيه، من دون مراعاة التوازنات المناطقية والمذهبية والانتخابية. وهو في هذا الحوار يستنجد منذ الآن بالرأي العام، ويطلب دعم المثقفين كي يكسب "معركة اختيار الكفاءة". * أنت من جيل عرف الثقافة اللبنانية في عزها، وشهد العصر الذهبي لبيروت... فما نظرتك اليوم الى الحركة الثقافية اللبنانية بشكل عام؟ - إذا نظرت الى الامور بمنطق انا احترمه كثيراً، هو منطق السوق، تلاحظ ان العرض في الانتاج الثقافي اللبناني اكثر بكثير من الطلب. في اي مجال تتناوله عندنا عرض واسع: في مجال المسرح مثلاً. انا اتكلم بالمقارنة مع دول اخرى في المنطقة، وبالنسبة الى حجم لبنان الديموغرافي. عندنا عرض واسع: في التلفزيون، في الدراما، في السينما، في الشعر، في النشر، في انتاج البرمجيات الالكترونية. كيفما اخذت الثقافة بالتحديد العصري للكلمة، ستجد ان هناك عرضاً كبيراً... وربما كان الطلب اقل من المفروض لأن السوق الداخلي غير قادر على استهلاك كل الانتاج الثقافي الموجود. تشهد بيروت هذه الايام نشاطين متضاربين: من جهة باليه الكرملين، وفي الوقت نفسه هناك اوركسترا الأمم. ليس هناك تنسيق بين الطرفين المنظمين، وافتتاح العرضين يتم في اليوم نفسه، والموعد نفسه. انا اعتقد ان الطلب ليس كافياً على هذا النوع من الانتاج، وربما ليس في لبنان جمهور كاف يمكنه ان يملأ المسرحين في الامسية نفسها... مشكلة اقبال الجمهور تبقى نفسها على صعيد الانتاج المحلي، او الثقافة المستقدمة الى لبنان. هذه السنة نظمت مشروعاً ضخماً بالنسبة الى نشاطات القمة الفرنكوفونية، وسأكررها العام المقبل في مناسبة القمة العربية، لأن مجلس الوزراء كلفني بتحضير القمة العربية، وسأعد برنامجاً حافلاً ومتميزاً للمناسبة، اي في العام 2002، اذا بقيت في الحكومة. انا ارى ان ليس بوسع احد ان يقول ان الانتاج الثقافي اللبناني يواجه ازمة. هناك نقد أدبي، هناك نقد شعري، هناك موسيقى ومعارض كتب، وهناك عرض مستمر. العرض مستمر ومتواصل، إنما الطلب أقل. اذا بقينا في هذا المنطق الاقتصادي اذاً، نقول ان وظيفتي الاساسية هي فتح اسواق جديدة امام الانتاج الثقافي اللبناني، والحفاظ على حقوق الكاتب والمغني والسينمائي، لانها معرضة لعمليات تقليد وسرقة وقرصنة في كل مكان. انا من واجباتي ان احمي تلك الحقوق. ومن واجبي ان افتح امام الانتاج الثقافي اللبناني اسواقاً أغلقت لأسباب لا علاقة لنا فيها. كالعراق والجزائر وليبيا وغيرها. انا كثير واعٍ لهذه السؤولية بالذات: عندنا انتاج كثيف، لكن الطلب الداخلي عليه لا يكفي لاستيعابه، ولا بد من ايجاد حلول. * هذا بالنسبة الى الجانب الاقتصادي. - يأخذ عليّ بعض الناس انني اتناول الامور من هذا الجانب، اعرف. لكن في النهاية، لا ينبغي ان ننسى ان الثقافة صناعة، ومن يكون في موقع المسؤولية ليس بوسعه ان يتجنب هذا المعطى، ويكتفي بالنقاش حول جماليات هذه القصيدة، او تلك المسرحية. لا بد ايضاً ان نعرف انها صناعة. ونحن نقول ان هناك شيئاً اسمه اقتصاد المعرفة واقتصاد المتعة، ونحن مسؤولون عن تسويقه، لأن لبنان لديه "قيمة مضافة" وعلينا ان نعمل على استثمارها. لذلك اقول إن ورشة الثقافة في لبنان، أولاً وأخيراً، يجب ان تأخذ بعين الاعتبار دور الثقافة في النهوض الاقتصادي، ودور القطاع الثقافي كقطاع يسهم في نمو الدخل الوطني، وفي نمو وضع لبنان الاقتصادي. انا لا أخجل ابداً من قول هذا الكلام، وأستغرب ألا يفهمني بعض الناس! هذا منطلق اساسي، وكنت اتصور ان المثقفين سيفهمونني، وسيعتبرون تناولي للأمور من هذا الجانب تعبيراً عن المسؤولية تجاههم. لقد تغير دوري مع وصولي الى الوزارة، لم اعد مثقفاً عادياً، صار دوري ان اساعدهم، وصار من واجبي ان اساعدهم، وأن آخذ بعين الاعتبار الاقتصاد اللبناني. * هل هناك معايير اخرى للنظر الى وضع الثقافة اللبنانية اليوم، خصوصاً ان السجال يدور حول الامة، وهناك وعي شبه عام لانهيار الثقافة اللبنانية وانحسارها... ما يجعل قراءتكم للراهن مدهشة ومفاجئة بالنسبة الى كثيرين. - إذا أتينا الى تناول وضع الثقافي من وجهة نظر "قيميّة"، لدي تخوفات وتحفظات. فبعد ما عرفت مرحلة ما قبل الحرب، وعشت لحظات الازدهار والتفتح، أقول إن الثقافة اللبنانية تعاني من علتين اساسيتين هما مصدر قلق حقيقي لدي على المستقبل. هناك ميل قوي جداً عند المثقفين والمبدعين الى حب البروز، والعطش للوجاهة. وهذا الميل يطغى على الاجتهاد والسعي والرغبة في التواصل والتجاوز. وهذا الميل الطاغي لدى كثير من المثقفين والفنانين، لا علاقة له بالابداع الحقيقي والتجلي. هذا هو الفرق ربما، بين السبعينات والمرحلة الحالية التي تشهد عطشاً مرعباً الى الوجاهة. فكثير من المعنيين بالانتاج الثقافي لا يطلبون مني ان اساعدهم على تكريس وضعهم وتسويق انتاجهم، بقدر ما ينتظرون ان اساهم في إطفاء عطشهم للوجاهة والنجومية، وأن اساعدهم على تأكيد حضورهم والحصول على الاعتراف الاعلامي... لذا اعتبر ان "المنطق الاعلامي" يطغي اليوم اكثر من اللزوم في بلدنا على "المنطق الابداعي". وهذا الهاجس المرضي عند كثير من المبدعين والمعنيين بالشأن الثقافي، يزعجني، بل يخيفني جداً. وانا احاول ان اقول لكل هؤلاء ان هذا ليس دور الدولة. لذلك فقد ألغيت عادة منح الدروع والميداليات التي كانت معتمدة في الوزارة. وطالبت اخيراً، خلال خطاب ألقيته في ذكرى ميشال شيحا بشيء فاجأ بعض الناس: طالبت بالتوقف عن التكريم، ووضع حد لهذه المهزلة. لا يمكنك ان تتصور لو تجلس في موقعي، كمية الطلبات التي تردني يومياً لتكريم اشخاص، معظمهم ذات وجود ضحل ولا يستحق ان يهتم به احد. شيء غير قابل للتصديق: انا في حالة دفاع مستمرة عن النفس، أرزح تحت هذا النوع من الطلبات التي اعتبرها غير مشروعة، وغير صحية... ليس دور الوزارة تحديد المبدع وغير المبدع، من خلال مرسوم او حفلة تكريمية او كوكتيل... في النهاية المتذوق للشعر او السينما او المسرح هو الذي يحكم في النهاية على قيمة العمل وأهمية صاحبه. هذا ليس دور الوزارة والدولة. وهذا مصدر قلق حقيقي عندي، وأتأمل ان نتجاوز هذه الحالة المرضية، وقد قلّصت كل مراسم التكريم إلا حين يطلب مني ذلك "من فوق". والأمر الثاني الذي يشغلني كثيراً، ويخيفني بعض الشيء هو طغيان الفردية الى ما لا حدود. طبعاً الثقافة الفردية كانت طول عمرها مهمة في لبنان. دائماً كان الجو الطاغي على العقلية اللبنانية ان الثقافة هي عمل فردي. وهذا الأمر تفاقم بعد الحرب. فيما اعتقد ان وظيفتي في المكان الذي اشغله اليوم، هي الاسهام في بناء الذات الوطنية. الذات الوطنية برأيي صرح بناؤه غير مكتمل، ولعلنا لم نبدأ حقيقة حتى الآن بورشة بنائه. موازنة معيبة * هذا الكلام الطموح الذي نسمعه، يفترض ان تكون وزارة الثقافة في لبنان اليوم واحدة من الوزارات الرئيسية، لكي لا نقول اهم وزارة، كونها تضطلع بأخطر المهمات وأكثرها حيوية، ألا وهي مهمة بعث الوطن، واعادة بناء الروح... في حين اننا نعرف عملياً انها وزارة هامشية. فكيف توفق بين "العين البصيرة" و "اليد القصيرة"؟ - سأقول كلاماً واقعياً، بعيداً عن التنظير. ما المعايير التي يمكن ان نحكم من خلالها على ما نفعله وما يمكن ان نحققه؟ المعيار الاول هو معيار الموازنة. إن موازنة وزارة الثقافة معيبة، ولن اذكر ارقاماً. لكنني لا اطلب ان تزاد تلك الموازنة قرشاً واحداً، فدور الدولة برأيي ليس ان تصرف على الثقافة بلا حدود ولا حساب. اتمنى لو تكون موازنات الوزارات الاخرى مثل موازنة وزارة الثقافة. فأنا عندي هاجس النمو الاقتصادي ووقف انفاق الدولة. لذا ارفض هذه اللعبة القديمة، التافهة، التي يدفعني اليها احياناً بعض المثقفين، كأنني بهم يقولون: إذهب وتسول فلوساً من وزارة المالية ثم تصدق بها علينا! ليس هذا هو المطلوب. انا خلال ستة اشهر في هذه الوزارة، جئت بفلوس تساوي ضعفي ما اعطتني اياه الدولة. وظّفت هذه الاموال لتجهيز الوزارة، وتعزيز المواسم الثقافية، وصيانة التراث خصوصاً. فأنا عندي اهتمام قوي بالتراث، لأنني اعتبر ان بناء الذات الوطنية من اول شروطه التصالح مع الماضي. لم أذهب الى وزير المال فؤاد السنيورة قائلاً: اعطني فلوساً كي اطلق مشاريعي، بل جلبت للوزارة من الخارج 400 ألف دولار اميركي لترميم موقع جبيل الاثري الذي ينتهي قبل نهاية العام. لم اطلب فلوساً من الدولة كي ابني المكتبة الوطنية، بل جئت بمليون دولار من الاتحاد الاوروبي لوضع الدراسات لمشروع المكتبة الوطنية. وأتت مبالغ اخرى، وسيأتي غيرها من صناديق عربية وصناديق دولية. انا معك مئة في المئة حين تقول انها وزارة مهمشة، وينبغي ان تكون وزارة اساسية. ربما اعطيت لي هذه الوزارة لأنني لم اكن اتمتع بدعم طائفي وسياسي كافيين كي اعطى وزارة اكبر. لكنني اليوم اقول: عندما سأترك وزارة سيتقاتلون عليها! * لا بد في سياق هذه التحديثات، من رفع موازنة الدولة الخاصة الثقافة... كيف توجد وزارة قوية من دون موازنة؟ - نعم انا متفق معك: الموازنة ايضاً لا بد من تغييرها. لكن ذلك وحده لن يكون حلاً كافياً... الموازنة اساسية، لكنها ليست كل شيء. انا دخلت الى وزارة عمرها سبع سنوات، مر عليها قبلي ثلاثة وزراء. لن اتكلم عن الزملاء الذين سبقوني لا ايجابياً ولا سلبياً. هناك بينهم، حتى، من صرف من أمواله الخاصة. انا ليس لدي اي قدرة من هذا النوع، انا في حاجة الى من يصرف عليّ! لكن لنكن صريحين. ربما كان أسلافي مشغولين في مسائل اخرى مهمة، لكنهم لم يخلقوا وزارة. هذه الوزارة غير موجودة. هناك مكتب وزير، وبعض الموظفين من الوكالة الوطنية للأنباء ووزارة الاعلام. وهذا لا يصنع وزارة. نحن الوزارة الوحيدة المستحدثة التي بادرت، خلال فترة 3 اشهر من تأليف الحكومة وتسليمي هذه الوزارة، الى صياغة 3 مشاريع قوانين، وأودعتها وزارة التنمية الادارية، وقد انتقلت الآن الى مجلس التنمية المدنية، ثم تنتقل الى مجلس الوزراء، فمجلس النواب... وضعنا قانوناً جديداً للوزارة، عفواً اقصد قانوناً، لا قانوناً جديداً بل قانوناً. لم يكن هناك من قانون للوزارة، فصغناه مع هيكلية متقدمة. عملنا، من اجل تحقيق هذه الغاية، ليل نهار، وعملنا في العطلات الرسمية... درسنا 43 حالة وزارة ثقافة في العالم، قبل ان نقدم على صياغة المشروع. فك القيد الطائفي * وهل تعتقد ان بالامكان تطبيق هذه الانجازات "الثورية"، وادخال تلك التحديثات العصرية، من دون الاصطدام بالذهنية السائدة في الادارة اللبنانية، ومن دون الخضوع للتوازنات والمحسوبيات على أنواعها؟ - أنت تضع الاصبع على الجرح. فهذا الجانب لعله الاخطر، وهو اكبر مصدر قلق لديّ، وأنا اعترف بذلك بكل صراحة. ما مدى مناعتي لمقاومة الضغوطات، وما مدى قدرتي على اختيار الناس الكفوئين من حولي؟ كثر الكلام في لبنان، خلال الفترة الاخيرة عن "الفائض" الوظيفي. انا اجد هذا الكلام تافهاً. لا تعاني الدولة اللبنانية من مشكلة فائض، هناك مشكلة مزدوجة: فائص من جهة وعجز من الجهة الاخرى. ومشكلة العجز اخطر من مشكلة الفائض. كان عندنا آلاف مؤلّفة من الناس في الملاك، لم يبق منهم إلا أربعة آلاف، لكن صار عندنا آلاف مؤلّفة من المتعاملين. المشكلة ليست هنا. ما يشغل بالي هو: هل هؤلاء هم الناس الذين ينبغي ان يكونوا في هذا الموقع؟ ولذلك، هناك عدد من الشروط التي ينبغي استيفاؤها، كي تسمح لي ان اختار الاشخاص الكفوئين. جميل ان اضع هيكلية عصرية متقدمة، لكن اذا اضطررت في نهاية الامر ان اخضع، لدى التعيين، للقوانين الطائفية والمحاصصة وغير ذلك، اكون كأنني لم افعل شيئاً. وأنا اعرف ذلك جيداً. لذلك اعتقد انني لم اصل بعد الى التحدي الكبير. التحدي المالي اعتقد انني حسمته الى حد كبير. التحدي الاداري والتشريعي آمل ان أكون توصلت الى حلّه ايضاً. فقد عرضت تلك المشاريع على لجنة الثقافة والتربية، وعرضتها على لجنة الادارة، تكلمت مع فخامة رئيس الجمهورية، مع الرئيس بري والرئيس الحريري في هذه المواضيع، ولاقيت منهم تفهماً وتشجيعاً. اما مصدر خوفي الوحيد، فهو اختيار الناس الكفوئين. حين سأصل الى مرحلة تعيين مدير مسرح، هل المهم ان يكون مارونياً او ان يفهم في شؤون المسرح؟ ومديرة الكونسرفاتوار ومدرسة الباليه، هل المهم ان تكون شيعية، ام ان تكون جديرة على الصعيد المهني والابداعي والاداري؟ هنا نصل الى النقطة الحساسة. وهذا التحدي سأواجهه في تصوري اواخر العام، اي بعد ان تكون الهيكلية طرحت على مجلس النواب، وبعد ان أكون وقّعت الاتفاقات الدولية المختلفة. وأنا استعد له بقدر من الموانع والاعتبارات. انا اتكلم وأخاطب الرأي العام، واعترف انني اطلب مساعدة الرأي العام، وأطلب مساعدة المثقفين. اقول للمثقفين ساعدوني، فأنا قادم على معركة مصيرية: معركة اختيار الكفاءة. ولذلك وسّعت الورشة. وقد دعيت، في "ورشة اعادة بناء الدولة" التي نظمها رئيس الحكومة وفؤاد السعد، الى فك القيد الطائفي عن كل الادارة اللبنانية. أنا ادعو الى ذلك الآن بصريح العبارة... وإذا لم تحدث هذه النقلة النوعية، سأكون انا اول ضحايا النظام القائم. اقوم بتأسيس وزارة، وأضع لها هيكلية، ثم اضطر الى قبول منطق المحاصصة. * هناك سؤال شامل يتجاوز الجانب العملي الذي تدرسه وتعالجه بكثير من العقلانية، السوق، الهيكلية، البنى، إلخ. هذا السؤال هو: الى اي مدى يمكن لوزير ثقافة في لبنان ان يكون صاحب مشروع تحديثي، في ظل غياب مشروع وطني شامل، لدى الطبقة السياسية، وعلى مستوى الدولة؟ وفي ظل غياب التقاليد والأعراف التي تنظم الحياة السياسية والسجال السياسي العام؟ - إذا حققت بعضاً من طموحاتي، سأعتبر انني نجحت. لا أقول انني اعمل اكثر من اي وزير آخر، لكنني اعمل كثيراً. ايام الاعياد والعطل تجدني هنا في مكتبي، على الرغم من توقف التكييف... ولن يستطيع احد ان يقول انني عينت صديقاً او أخاً او قريباً في الوزارة والمؤسسات التابعة لها. فكيف يسع الناس ألا يقدروا هذه الاشياء؟ هناك في الدولة وخارجها، وفي الرأي العام، من سيقدر جهودي ويقول: هذا الرجل يحاول، ويبذل ما بوسعه في قطاع قد يعتبره بعضهم تافهاً وهامشياً، فدعوه يعمل. هناك دائماً في اي قانون محاسبة على السعي، ومحاسبة على النتيجة. انا مطلوب مني ان اسعى بكل قواي، ولن يكون بوسع احد ان يعاتبني لأنني لم أسعَ. تقاعس المثقفين وكسلهم! * لنعد قليلاً الى نظرتك المتفائلة الى حال الثقافة في لبنان. نحن نعرف ان الكمية وحدها ليست بالضرورة مؤشراً ايجابياً، طبعاً نحن اليوم في بلد يعيش حالة نقاهة، بعد حرب مرهقة مزقته واستنفدت طاقاته الحية. لكن ألا تشعرون ان الثقافة شبه محذوفة، او لنقل مهمشة، في مشروع لبنان الجديد الذي يبنى اليوم؟ - كلا. ليس هناك مؤامرة ضد الثقافة. * لم أتكلم عن "مؤامرة"! - دعني اطرح السؤال معكوساً: هل يبذل المنتج الثقافي جهداً كافياً، كي يتأقلم مع المعطيات والأوضاع الجديدة، ويدافع عن الثقافة؟ هذا سؤال اساسي. لست موافقاً على النظرة الشائعة لدى بعض الاوساط بأن الدولة، او ارباب السوق، ضد الثقافة. كلا، هذا ليس صحيحاً. لماذا يكون هؤلاء ضد الثقافة؟ قد لا يكونون مثقفين انفسهم، وقد لا يتذوقون الثقافة، لكن هذا لا يعني انهم ضد الثقافة. المشكلة هي تلك الرغبة المرعبة بالوجاهة، لدى كثير من منتجي الثقافة، انها لا تترك المثقفين يفكرون في انتاج قادر على العيش والاستمرار. عندما أقع على شخص جدي، يعمل بصدق ومثابرة، وينتج فيلماً استثنائياً، او ديواناً شعرياً مميزاً، صدقني سأجيّش كل امكاناتي وامكانات وزارتي كي أدع كل المجتمع اللبناني، وكل المجتمع العربي، يتذوق انتاجه. انا ادعو المثقفين - قبل كل شيء - الى احترام أنفسهم، واحترام عملهم، كي تحترمهم الناس... وهناك مشكلة اخرى هي الفردية الطاغية في لبنان، وهي تتجاوز الافراد الى مجالات عملهم. * الحق إذاً على المثقفين. - هناك غياب كبير، نعم، وتقصير كبير. كيف تنتظر ان يدافع عن الثقافة ناقد أدبي بارز، يعمل في صحيفة مهمة، يذهب لمشاهدة مسرحية منحطة من الدرجة العاشرة، ويمتدحها بدلاً من ان يدعو الى ايقافها لأنها شتيمة للذوق، وشتيمة للخيال. كل مبدع مسؤول، وكل منتج ثقافي يلعب دوراً في اعادة الاعتبار الى حضور الثقافة في مجتمعاتنا. هناك برأيي تقاعس، هناك كسل في البحث عن الجودة، عن الابداع الحقيقي، وإذا لم يدافع المنتج الثقافي عن نفسه، وعن عمله، إذا لم يحترم مجال نشاطه ويؤمن ديمومته ونموّه وانتشاره وازدهاره، فلماذا تريد من إميل لحود ورفيق الحريري ونبيه بري، ومن الطبقة السياسية بشكل عام أن تحترم عمله؟ صدقني، إن سلوك المثقف، ونظرته الى نفسه، عاملان يحددان إزدهار الثقافة أو انحسارها! هناك أيضاً ضرورة ملحة، هي التأقلم مع التقنيات الجديدة. المثقفون في لبنان يحمّلون مسؤولية التخلّف عن الركب، فقد بقي معظمهم، خلال ربع القرن الأخير، على تقنيات التعبير والاتصال التقليدية القديمة. فتركوا للجهال عملية اكتساح وسائل التعبير الجديدة. أنا أقول للكتّاب المميزين: لماذا تتركون مجال الدراما التلفزيونية لغيركم؟ ناهيك بالتقنيات البصرية والصورة والثقافة الحية وأشكال التعبير والاتصال التي أفرزتها ثورة المعلوماتية... لا بد من تأقلم مع وسائل التعبير الجديدة، كي لا تفلت منهم المبادرة ويجدوا أنفسهم على قارعة الطريق، ويصبحوا مع الوقت قبيلة في طريقها الى الانقراض. إن وسيلة التعبير، تغير مضمون الرسالة، وليس فقط الشكل. لذلك أعتبر ان اقتصاد المعرفة، وما يشتمله من وسائل تعبير حديثة إنترنت، سينما، تلفزيون...، هو من صلب مسؤولياتي. * أتيت على ذكر التلفزيون. أعرف ان الأمر ليس من مسؤولية وزارة الثقافة، لكن ما يحدث اليوم على مستوى تلفزيون لبنان، هو في منتهى الخطورة. واضح من العودة الجزئية للبث ان ما يهم الدولة من التلفزيون الوطني، هو فقط أن تمسك "الأخبار" بما هو أداة لتوجيه الرأي العام، فيما يتم إهمال المجالات الأخرى التي هناك اتجاه الى "تلزيمها" لمستثمر من القطاع الخاص. في حين ان التلفزيون الوطني وسيلة لبناء الروح، ونشر الثقافة والمعرفة والقيم الرفيعة، وهذه الوسيلة بوسعها أن تكون أساساً في خدمة وزارة الثقافة، وتوصل حب الفن والأدب والمسرح الى أصغر قرية في لبنان. - أنا عندي مشروع. هذه المرة الأولى التي أتكلم عنه. لم أكن أود الإعلان عنه للصحافة، لأن الأمر ما زال سابقاً لأوانه. عندي مشروع تأسيس تلفزيون ثقافي. * خارج تلفزيون لبنان؟ - نعم. تلفزيون لبنان يملك سبع قنوات. يستعمل منها واحدة ونصف، للتلفزيون الوطني، وللقناة الفرنسية. وهناك خمس قنوات شاغرة. أنا عندي مشروع إنشاء تلفزيون ثقافي تربوي باللغة العربية. وأنا أعمل عليه حالياً، مالياً وبنيوياً، وأدرس إمكان الشراكة مع مؤسسات أجنبية، لا سيما "آرتي" القناة الفرنسية ? الألمانية. نحن نعمل جدياً على هذا المشروع، ولم أكن أنوي الكلام عنه بعد. لكن بما أن هناك قدراً من علاقة "أبوّة" تربطني ب "الحياة" و "الوسط"، فلا بأس من أن يكون قراؤكم أول العارفين بالمشروع. الموضوع مرتبط أولاً بأن ينشط تلفزيون لبنان مجدداً، فليس بوسعي استعمال وسائل البث المكلفة من أجل قناة ثقافية فقط، أنا رجل واقعي. ستكون قناة تربوية في النهار، وثقافية في الليل مزيج من آرتي والخامسة في فرنسا. وهناك مشاريع عربية أخرى من النوع نفسه، بينها مشروع مطروح على وزراء الثقافة العرب. أنا عندي طموح إطلاق المشروع الذي كلّمتك عنه في لبنان، على أن يجمع في هيكليته بين القطاع الخاص والقطاع العام. أعتقد أن تكلفته ليست خطيرة جداً. لسوء حظي لم أصل الى وزارة كاملة، تسير فيها الأمور على ما يرام، كي أنصرف فوراً للمشاريع الجديدة. كان عليّ أن أبدأ من الصفر: من الهيكلية، واختيار الناس، وتوقيع الاتفاقات مع جهات أجنبية. * هذا المشروع الطموح، هناك من يشكك في إمكانات تطبيقه فعلياً. - عندما سيرون ان هناك مكتبة جاهزة للعمل في أيلول، عندها سيصدقون ربما. وقّعت الاتفاق وأتيت بالأموال اللازمة للبدء بالتنفيذ. أجرينا دراسات على 44 بلدة، واخترنا منها كمرحلة أولى 15 بلدة تستوفي الشروط. هل قلت "السوق"؟ * تتحدث دائماً، تحت بند إنعاش الثقافة، عن "السوق" و "التسويق". وأنت محق طبعاً في أن الثقافة بوسعها أن تكون قطاعاً منتجاً، ووسيلة من وسائل التنمية. لكن أليس هناك خوف من الانحراف الى منطق تسويقي بحت؟ لكي تربح وتبيع، لا بد من أن تلبّي متطلبات المستهلك، وأن تقدم تنازلات جمالية وفكرية وأخلاقية عدة لمنطق السوق. هذا برأي بعضهم جزء من أزمة الثقافة اليوم في لبنان والعالم العربي... فهل هناك خطر من أن نشجع على انتاج نوع معيّن من الثقافة، السهلة والسطحية والاستهلاكية، في حين أن الثقافة ينبغي أن تصل الى أوسع دائرة ممكنة من الناس، من دون أن تفقد قوّتها وعمقها وصدقها؟ - لا ينبغي الاحتكام الى "منطق السوق" وحده. هناك منطق السوق من جهة، ومنطق الإبداع الحقيقي من جانب آخر. غير واقعي أن تقول: أنا مهمتي فقط الدفاع عن الإبداع، ولعله من المذل في المقابل، أن تتحول مجرد محام عن السوق. لا بد من مراعاة توازن دقيق بين النقيضين. كيف توجد هذا التوازن؟ هذا هو دور الدولة بالتحديد. ليس دور الدولة أن تكون منتجة ثقافية، بل أن تدعم المنتجين الثقافيين. لا أريد أن أؤسس مسرحاً قومياً، ولا أريد أن أؤسس داراً للنشر. ليتك تعرف الضغوط التي أعاني منها، هناك كمية مذهلة من المشاريع والعروض المطروحة عليّ من هذا النوع: لماذا لا تنشئ دار نشر؟ لماذا لا تصدر مجلة؟ كل هذا ليس من مهماتي. هناك مؤسسات وجهات كثيرة تخوض في تلك المجالات. دور الدولة هو العمل على تحفيز مختلف القطاعات المنتجة، ومساعدة تلك التي تشكو من الخلل. لذا لا يمكنك أن تعمم. لا حاجة الى تدخل الدولة في صناعة الكتاب مثلاً، لكن وظيفتها فتح آفاق جديدة أمام أهل النشر والكتابة. فلبنان والمنطقة العربية ينقصهما معرض كتاب مهني مثل فرانكفورت، لأصحاب المهن وأهل صناعة النشر والكتّاب وغيرها. أنا أريد أن أقيم هذا المعرض، هناك تنافس بين لبنان ودول عربية أخرى، لكنني سأنظمه. معرض يلتقي فيه الناشر مع المترجم مع الكاتب مع المعنيين بالإخراج الفني وتقنيات الطباعة. وهذا نفتقر اليه بشدة. إنه معرض للمستقبل. هنا تتدخل الدولة، بغض النظر عن معارض الكتب الوفيرة والمتضاربة التي تنظّم للجمهور، فلها أن تتوحد أو تستمر على حالها، هذا لا يعنيني. ما يعنيني كدولة أن أنطلق للمستقبل، أن أقول لأهل النشر والمعنيين بصناعة الكتاب، أنتم ما زلتم تعتمدون سلوكاً وتقنيات كانت سائدة قبل نصف قرن. فلنفكر معاً: كيف يكون كتاب القرن الحادي والعشرين؟ ما يكون نوع الورق؟ كيف تبرم عقود الترجمة؟ وغير ذلك من الجوانب المهنية والتقنية. دعم السينما والمسرح * ماذا عن المسرح، وأول مساهماتك وأنت في مطلع العشرينات، دراسة عن المسرح السياسي في لبنان، بين منتصف الستينات وعشية اندلاع الحرب الأهلية. فهذا مجال حيوي لا يمكنه ? حتى في الدول المتطورة ? أن يستغني عن دعم الدولة؟ - جاءني المسرحيون واحداً واحداً طلباً للمساعدة، ومعظمهم أصدقاء. هناك من طلب دفع إيجار المسرح. جوابي كان بالنفي، ليس عندي مالاً لذلك، ولو توافر المال فلا أريد أن أصرفه بهذه الطريقة. وقلت لهؤلاء: مشكلتكم ليست في دفع الإيجار... مشكلتكم في تقلص الجمهور، قياساً الى كثرة العرض. فلنعمل معاً، خلال أربع أو خمس سنوات، كي نعيد تكوين هذا الجمهور. كيف ذلك؟ بدلاً من أن أنفق أموالي لدفع إيجارات، لماذا لا أستثمرها في خلق جمهور لأعمالكم. هناك في المدارس قطاعات كاملة من التلاميذ الذين لم يشاهدوا مسرحية واحدة في حياتهم. أنا أدفع ثمن البطاقات وآتي بهؤلاء التلاميذ الى المسرح. فلنضع على قائمة أهداف الوزارة للعام 2001، أن تأتي الى المسرح بخمسة آلاف تلميذ يقصدونه للمرة الأولى في حياتهم. إذا لقط عشرة في المئة من هؤلاء "لوثة" المسرح، وصاروا يهتمون بهذا الفن ويستهلكونه، أكون قد ساعدت المسرح اللبناني على المدى المتوسط والبعيد، أضعاف أية مساعدة مباشرة لدفع إيجار القاعة سنة أو سنتين... وقد بدأت هذه التجربة، وقمت مرات عدة بشراء عروض مسرحية وأؤكد لك أن النتيجة مذهلة بنجاحها: أن تأخذ الناس الى المسرح، أن تعرّف الجيل الجديد بهذا الفن. وقد وصلتني عشرات الرسائل من مديرات ومدراء المدارس التي اتصلنا بها. وقد أعطيت الأفضلية طبعاً للمدارس الفقيرة، والرسمية. وهنا أيضاً تجد أن الدولة لا تتدخل كمنتج أو مسوّق، بل لتدعم الانتاج الإبداعي الحقيقي، وتفتح أمامه آفاق التطور والاستمرارية والانتشار. على الدولة خلق فرص للإبداع. الحوار صراع مع الذات * أليس من مهمات وزارة الثقافة أيضاً أن تخلق فضاءات حوار بين المثقفين أنفسهم؟ أن تفتح مختبرات يعيدون فيها التفكير بقضايا أساسية، ويناقشون مسائل جوهرية، ويعيدون اكتشاف انفسهم وبعضهم، ويفتحون ورشة وطنية جماعية لطرح إعادات النظر ووضع أسس ومفاهيم وتقاليد وتحديدات جديدة؟ - طبعاً. قبل فترة قصيرة دُعيت الى لقاء "علماء جبل عامل". وألقيت كلمة توضح مفهومي لحوار. هناك نظرة سائدة الى "الحوار" تضعه في الموقع النقيض ل "الصراع"، وتغلّفه بالميوعة والحياد. أنا رأيي أن الحوار أخطر من الصراع، لأنه شكل من أشكال الصراع، صراع مع الذات. ليس هناك مجازفة أخطر من أن تدخل في حوار فعلي مع الآخر، لأن ذلك يفترض أن تقبل سلفاً أن يغيّرك هذا الحوار في وعيك وقناعاتك. إذا لم تكن على استعداد للخروج من الصراع مختلفاً عمّا دخلت إليه، فمعناه أنك غير مستعد للحوار. وأنا أحاول، في كل مناسبة، أن ألعب دوري في هذا الاتجاه، عندما أذهب لمحاورة علماء جبل عامل، أو محاورة الهيئات الثقافية في طرابلس التي اجتمعت بالأمس القريب للمرة الأولى، طبعاً عليّ إطلاق الحوار، لأن بدء ورشة إعادة بناء الذات الوطنية، لا تتم بمرسوم، ولا بقرار فوقي، كمثل أن أقول: "فلنوحّد فروع الجامعة اللبنانية"! بل هي خلاصة عمل ميداني طويل النفس على مستوى المجتمع المدني. ولا بد من تشجيع واحتضان إعادة التفاعل بين أهل الثقافة والفكر والابداع، وأنا أحاول أن أقوم بذلك قدر ما يسمح لي وقتي، لأن انشغالي بإعادة بناء الوزارة من الصفر، يستنفد الآن جلّ طاقاتي. وعندما سأنتهي من "الورشة التشريعية" لا شك في أنني سأتمكن من التحرك أكثر في اتجاه تشجيع التفاعل الحواري. * هل تنطبق فلسفتك للحوار على اللقاءات المزمع عقدها خلال القمة الفرنكوفونية، تحت شعار "حوار الثقافات"؟ أم إنه في الأغلب حوار مناسبات ومجاملات بين أطراف لا يعرف بعضها البعض الآخر، وهي غير معنية بالضرورة بالتفاعل مع الآخر؟ - موضوع "حوار الثقافات" تم اختياره قبلي ليكون محور القمة الفرنكوفونية. أنا كمسؤول عن القمة الفرنكوفونية، وفي العام المقبل عن القمة العربية مطلوب مني تأطير هذا الحوار، أي وضع المحاور والأطر النظرية التي يمكن أن يقام على أساسها. ولا بد لهذا الغرض من صياغة نصوص تتمحور حول موضوع "حوار الثقافات"، وتوضع بين يدي رؤساء الدول والوزراء وكل المشاركين. وقد نصحني كثيرون بأن أكلّف شخصاً بكتابة هذه النصوص، على أن أتولى أنا ضبطها لاحقاً، والإشراف على صياغتها النهائية. لكنني لم أفعل ذلك، بل أتيت بخمسة أساتذة جامعيين، وضعوا مسودّة أولية، ثم دعيت المعنيين الى لقاء تشاوري استغرق نهاراً كاملاً، من أجل وثيقة من 20 صفحة، ووزعت النص على الحاضرين، وقلت لهم: هذه مسودّة عمل أعدّها خمسة من زملائكم، خذوا مسؤولياتكم، ليس لديّ فلوس أعطيكم، لكنني أعطيكم فرصة ثمينة: أنتم، أهل الفكر والثقافة، فتولّوا صياغة الذات الوطنية باسم الدولة. السنة الفرنكوفونية * الانتقادات الكثيرة لبرنامج السنة الفرنكوفونية، لا يمكن توجيهها إليك إذاً، بل الى تلك اللجنة وحدها؟! - تماماً. ليس لدينا برنامج على أية حال. لقد اخترنا أو رفضنا مقترحات معروضة علينا. الوزارة ليس لديها إمكانات، وهي لم تبادر الى وضع برنامج. ليس بوسع أحد أن ينتقد... إلا نفسه! أنا لم أبادر الى إطلاق أي مشروع، ولجنة الاختيار لم تضع برنامجاً. نحن وصلنا 420 مشروعاً، وضعت المشاريع أمام اللجنة وقلت لأعضائها: اختاروا! أحياناً تم الاختيار حسب المشروع، وأحياناً في ضوء مواجهة وحوار مع صاحب المشروع. وهذا ما سأفعله في القمة العربية خلال العام المقبل: أنا سأفتح باب تقديم المشاريع والاقتراحات. ومسؤولية المبدعين، مسؤولية المنتج الثقافي، أن يلبّي النداء. سأكون لجنة اختيار لها علاقة بالثقافة العربية. * ألا ينبغي أن يكون لوزارة الثقافة رؤية معينة، مشروع شامل، تطلعات وأهداف على مستوى سياسة البرمجة؟ هل الوزارة مجرد منسّق؟ - في مناسبة مثل هذه، في مناسبات من نوع القمم، يستحيل أن تتولى الوزارة وحدها سياسة البرمجة. * لو أخذنا المسرح في برنامج السنة الفرنكوفونية سنجده مخيباً بشكل عام. أين العروض اللبنانية والعربية البارزة؟ أين العروض المهمة الآتية من الدول الفرنكوفونية؟ كان يمكن أن نحلم في مناسبة مثل هذه، ببرنامج يشارك فيه روبير لوباج من كندا، باتريس شيروا أو فرنسوا تانغي من فرنسا، ماتياس لانغوف من سويسرا، تريزا دو كيرسماكير من بلجيكا وغيرهم. - تنظيم القمة الفرنكوفونية والعربية كان من مسؤولية وزير الداخلية في السابق ولا علاقة لوزارة الثقافة بها في الأساس. ولم يكن هناك أي تظاهرة ثقافية مرافقة لنشاطات القمة. نحن قلنا للأطراف المحلية والعالمية، إذا شئتم فلنشترك في تنظيم برنامج ثقافي، اعرضوا علينا مشاريع نختار منها ما يكفي لبرمجة لائقة، ونحاول أن نساعدكم. لكننا لم نكن في وضع المبادر. قمة من هذا النوع تحتاج الى مهلة تحضير تتراوح بين 18 و24 شهراً تقريباً. لا يمكنك أن تستقدم باتريس شيرو وغيره إذا لم تتفق معهم قبل موسم أو ربما اثنين، أنت تعرف كيف توضع البرمجة في العالم المتطور. أُعطيت تسعة أشهر فقط للتحضير. فإذا بي أكتشف إنني أشيّد ثلاث عمارات... وأشرف على إنشاء المراحيض العامة لبلدية بيروت! وأستقدم الآن معدات لاستكشاف الأجسام المشبوهة في المطار... وأستقدم نظام "راديوكوم للحرس الجمهوري" نعم، أنا أفعل كل هذا. لا أحب الكلام في هذا الموضوع، إذ لا علاقة له بوزارة الثقافة. أما الجانب الثقافي فجاء عن طريق المصادفة، والمصادفة فقط: لأن وزير الثقافة هو المسؤول عن القمة. لكن وزارة الثقافة ليس لها أي دور مباشر في هذه المسألة. لذلك حاولت أن أعطي الحدث بعداً ثقافياً بما هو موجود، لأن القمة نفسها موازنتها تصرف على السلاح والمعدات والسكن والتنظيم. يخطئ المثقفون إذا اعتقدوا أن وزارة الثقافة هي المهتمة بالقمة. كل عملي في هذا الموضوع تقني ولوجستي. حاولت فقط أن "أخطف" بعض الإمكانات كي يستفيد منها أهل الإبداع، وتنتعش من خلالها الحياة الثقافية. * لكن "الفرنكوفونية" لا تترك مكاناً للحياد في بلد مثل لبنان؟ فبالإمكان الدفاع عن الوجه التنويري، التحديثي، النهضوي للإرث الفرنكوفوني. وهناك تخوف من تغليب جانب آخر من مخلفات الاستعمار، يعني فئة معينة، ويثير حساسيات الفئات الأخرى. - مفهوم الفرنكوفونية موضوع سجالي، لحسن الحظ! أفضل ألا نتوسع في مناقشة هذا الجانب، وأن نخصص له جلسة مستقلة، وحواراً مستقلاً، نظراً لما يشتمل عليه من جوانب مهمة ومفيدة. موضوع القمة الفرنكوفونية شاسع، وأنا أربطه بالقمة العربية التي ستليه. فالشقّان ليسا منفصلين في تصوري. * وماذا عن العالم العربي؟ هل هو مجرّد "سوق" للثقافة اللبنانية؟! هل بدأت تلتقي زملاءك وزراء الثقافة العرب، لمناقشة مشاغل ومشاريع مشتركة؟ وكيف تتصوّر دور لبنان الثقافي على مستوى الوطن العربي؟ - الاجتماع الوحيد الذي حضرته كان في الرياض. وقد دخلت في جدول أعمال لم أشارك في صياغته. أما بالنسبة الى الشق الثاني من السؤال، فسأتكلم بصراحة: أتصور أن دور لبنان على المستوى الثقافي، ليس دوراً عادياً. إما أن يكون دورنا طليعياً على المستوى العربي أو أن لا يكون. هناك في معظم الدول العربية حالة إهمال للثقافة، لكي لا نقول حالة تهميش، نحن علينا أن نكون القدوة والمثال، في قضايا كثيرة، كالحفاظ على التراث، الحفاظ على الآثار، تشجيع الإبداع، الدفاع عن المبدع. * ربما علينا أن نطرح أسئلة جديدة على الثقافة العربية. - مهمتنا طرح أسئلة جديدة، فتح الحوار، رفع سقف الحرية... الأنظار متوجهة إلينا، ولا يمكن أن نسمح لأنفسنا بمشاركة عادية. أنا أؤمن أن مسؤوليتنا كبيرة على الساحة العربية. لا بد من أن نرسخ أساسات وزارة عصرية، أن نعطي صورة عن المجالات التي ينبغي للدولة أن تتدخل فيها. فهناك في بعض الدول العربية تضخم في تدخل الدولة أحياناً، وتقصير أو غياب عن لعب الدور المطلوب في أحيان أخرى. وقد حملت الى مؤتمر وزراء الثقافة العرب، وهو الأول الذي أحضره، القانون الذي وضعته الحكومة اللبنانية السابقة ضد القرصنة. وزّعت القانون الجديد على الزملاء عسى أن يستفيدوا منه، لكنني قلت لهم إذا لم يتم تبنيه، فسأبادر في مؤتمرنا المقبل الى ذكر أسماء الدول العربية التي تمارس القرصنة. وأنا أعتقد أخيراً ان تشجيع الإبداع اللبناني، إسهام في العروبة. بعد الحرب الدامية التي عشناها، لم يعد السؤال مطروحاً حول عروبة لبنان. نعم. نحن عرب، وقد حسم هذا الأمر. الذين يتمسكون بمقولة "لبنان ذو وجه عربي" يخطئون في اختيار محور النقاش، فكل الدول العربية "ذو وجه عربي" أي تنتمي الى الحضارة العربية على طريقتها، وانطلاقاً من خصوصياتها. لبنان بلد عربي أصيل. لكن مطلوب من العرب ألا يخضعوا عروبتنا لامتحان دائم! نحن لا نفحص عروبة الآخرين، ولا نقبل أن يفحص عروبتنا أحد. ولا نقبل أن يحدد عروبتنا أحد. نحن نحتل موقعاً أساسياً في الثقافة العربية، وفي السياسة العربية، ونحن نفتخر بعروبتنا ولا نحتاج الى دروس أو شهادة من أحد. ومشروعنا هو المشاركة الفعالة في تحديث الفكرة العربية، وفي صياغة مضمون جديد لهذه الفكرة، يختلف عن مفهوم العروبة الذي ساد في الخمسين سنة الماضية. طموحنا أن نساهم في إعطاء العروبة كل الحظوظ والإمكانات التي تحتاجها كي تجتاز القرن الحادي والعشرين من دون أن تموت. لأن الفكرة العربية، اليوم، مهددة من جهات عدة: من الأفكار الانعزالية، من التطرف الديني، من التعصب العرقي، من تقديس اللغة. الفكرة العربية كما يطرحها لبنان، هي فكرة أصيلة الى درجة أنها واثقة من نفسها وغير منشغلة بهواجس "الغزو الثقافي"، الى درجة أنها منفتحة على الثقافات الأخرى، وليست خائفة منها. ليس لدينا شعور بالنقص تجاه الثقافات الأخرى. الذين لا شغل لهم سوى "الغزو الثقافي" والدعوة الى "الحفاظ على الهوية"، ليس لديهم أي ثقة بالنفس! نحن ثقافتنا العربية أصيلة بإمكانها أن تدخل في تفاعل "ندّي" مع الثقافات الأخرى. ونحن نفتخر بذلك، وفي مناسبة القمة الفرنكوفونية، ثمّ القمة العربية، وسائر المناسبات التي ننظمها، سندافع عن هذا التوجه، ونركّز على الدور النهضوي للبنان في دنيا العروبة.