ارييل شارون توسعي واقعي يعتبر الاستيطان الاسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية وهضبة الجولان حتمية ايديولوجية وذخراً امنياً في آن واحد. لكنه يواجه كرئيس جديد للوزراء تحدي دمج هذه الاهداف في سياسة شاملة للتعامل مع السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات ومع الثلاثة ملايين فلسطيني الذين يرزحون تحت الاحتلال الاسرائيلي ويرفضون سياسة اسرائيل الاستعمارية والاستيطانية. ويرفض شارون رفضاً مطلقاً الفرضية التي استندت اليها جهود حكومة ايهود باراك، وهي ان من الممكن بل ومن الافضل تقديم التضحيات الجغرافية المطلوبة من اجل "انهاء الصراع" مع الفلسطينيين. كما ان النقاش الذي شهده حزب العمل عقب الهزيمة التي مني بها باراك في انتخابات رئاسة الحكومة الاخيرة اثبت ان غالبية في حزبه تؤيد موقف شارون. ففي العام 1995 اعلن شارون انه "لو لم تكن هناك اليوم مستوطنات يهودية في الجولان ويهودا والسامرة الضفة الغربية لكانت اسرائيل قد تقهقرت وراء الخط الاخضر. لكن المستوطنات اليهودية هي العامل الوحيد الذي منع هذه الحكومة حكومة رابين من الموافقة على الانسحاب ووضع العراقيل امامها في المفاوضات". وشارون في واقع الامر واحد من ثلاثة او اربعة اسرائيليين كانت لهم اليد الطولى في انشاء المستوطنات الاسرائيلية وتوسيعها في الاراضي المحتلة منذ العام 1967. وكل مستوطنة منها تمثل بالنسبة اليه رمزاً حياً للمساعي التي بذلها طوال حياته لصياغة السياسة والبنية السكانية والجغرافية طبقاً لأولوياته الصهيونية. وكانت قيادة شارون ذات اهمية كبرى في انشاء وبناء ما وصفه رابين ب"المستوطنات السياسية" اي تلك المستوطنات المبعثرة التي تقطنها اعداد ضئيلة من اليهود في المرتفعات الجبلية بين مدينتي جنين في الشمال والقدس في الوسط. فهذه المستوطنات التي قال رابين ان عددها يصل الى حوالي ستين مستوطنة بُنيت بتخطيط من شارون من اجل الحيلولة دون ظهور اي كيان فلسطيني متواصل جغرافياً في المستقبل من جهة، ومن اجل نشر قوات الجيش الاسرائيلي من دون اي عائق في جميع ارجاء المنطقة. ثم جاءت عملية اوسلو لتقبل هذه المستوطنات مع المستوطنات الامامية الكبرى مثل معال ادوميم ومجموعة مستوطنات كفار عصيون وارييل التي تحظى باهتمام خاص في اوساط المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة. من هنا نرى ان الخريطة التي وضعتها اوسلو الثانية في شهر ايلول سبتمبر 1995 والتي شهدت آخر تعديل عليها في آذار مارس 2000 لم تكن سوى تطبيق كامل وبحذافيره تقريباً لخطة شارون التي نصت على اقامة كانتونات فلسطينية منفصلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وسط بحور من المستوطنات والطرق الاسرائيلية. وعلى النقيض من ذلك نجد ان الخريطة التي اقترحها باراك في طابا في كانون الثاني يناير الماضي للدولة الفلسطينية قبلت حقيقة مهمة وهي ان حوالي سبعين مستوطنة من المستوطنات الامامية في الضفة الغربية لا تنطبق عليها الشروط السكانية والجغرافية المسبقة التي يجب توافرها فيها كي تضمها اسرائيل اليها. لكن شارون اختار في هذه المرحلة المبكرة من حكمه عدم تغيير المبدأ الاساسي الذي تستند عليه مشاركة اسرائيل في عملية اوسلو - وهو ان ياسر عرفات والجهاز الامني الذي يقوده شريكان في الجهود المبذولة لضمان مصالح اسرائيل الاستيطانية والامنية في الضفة الغربية وقطاع غزة. واذا كان للشركاء ان يظلوا شركاء فلا بد من التفاهم معهم. فحين كان شارون وزيراً في حكومة بنيامين نتانياهو بذل جهوداً حثيثة في مفاوضاته مع المسؤولين الفلسطينيين والاميركيين للتوصل الى اساس مشترك لاقامة دولة فلسطينية - على رغم ان مثل هذه الدولة مقطّعة الاوصال جغرافياً وقاصرة في سيادتها بسبب المطالب الجغرافية والامنية لاسرائيل. الا ان صيغة شارون كانت متفقة مع عملية اوسلو التي قامت وركّزت على "الاتفاقات الموقتة" الرامية الى تعزيز اهداف الاستيطان الاسرائيلي وضمان الامن لاسرائيل. ومنذ ذلك الحين وسّع شارون مفهومه للابعاد الجغرافية ل"دولة فلسطين" لتشمل نسبة 41 في المئة من اراضي الضفة الغربية المصنفة الآن تحت المنطقة أ 17.2 في المئة والمنطقة ب 23.8 في المئة. ومن الواضح ان رؤية شارون هذه لا تلبي حتى ادنى المطالب الفلسطينية من اجل التوصل الى اتفاق على الوضعية النهائية. لكنه في الوقت ذاته ليس بحاجة الى تلك التنازلات التي كان يطالب بها باراك من الفلسطينيين وفي مقدمها "انهاء الصراع". فالتحدي الذي يواجه الاسرائيليين والفلسطينيين معاً بعد صمت البنادق في رأي شارون، ليس التخلي عن تركيز اوسلو على الحلول الموقتة والشروع في مفاوضات الوضعية النهائية، وانما هو تنشيط هذا التركيز على تلك الحلول. وهكذا فالخطوة المقبلة هي: الاتفاق على دولة فلسطينية تترك جميع مصالح اسرائيل واهدافها الاستيطانية والامنية على حالها من دون ان يمسّها اي أذى!