واضح أن حكومة شارون لن تقبل خريطة الطريق من دون تعديلات تُفرغها من مضمونها الأساسي، وليس أوضح من ذلك سوى إصرارها على تجريد الفلسطينيين من كل قدراتهم المادية والنفسية ليضطروا للقبول بالأمر الواقع ويرضخوا للهيمنة الإسرائيلية، كما رضخ العرب للهيمنة الأميركية. وتتمّم هذه الهيمنة المزدوجة بعضها بعضاً، لما بين إسرائيل وأميركا من تحالف إستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط قاطبة، وهو تحالف يقوم أولاً على ضمان الأمن الإسرائيلي والأمن الأميركي دونما إعتبار للأمن العربي. وما تعتقد كلٌ منهما أن بالإمكان التوصّل إلى فرض حلولهما على العرب بإجبارهم على الرضوخ للأمر الواقع. من ناحية أخرى، يمكن القول ان التحالف الاستراتيجي الأميركي - الإسرائيلي لا يمنع إحتمالات حصول إختلاف في الرأي وحتى تصادم بين المصالح. لكن في الكثير من هذه الحالات الإستثنائية، إن لم تكن في جميعها، كانت أميركا هي التي تتراجع أو تصرف النظر فتجري الأمور لمصلحة إسرائيل. جرى تراجع إسرائيلي ربما في حالة واحدة أو إثنتين هي: إنسحاب إسرائيل من سيناء إستجابة لأمر صدر عن أيزنهاور بعد حرب السويس أو الاعتداء الثلاثي على مصر، وتوقفها موقتاً عن المضي في بناء المستوطنات تجاوباً مع تهديد جورج بوش الأب بحجب تقديم المعونات المالية في أجواء حرب الخليج الثانية. لنترك هنا النقاش في هذا الأمر للمؤرخين بعد أن ينجلي الكثير من الحقائق ويتمّ الكشف عن الوثائق السرية، ولنركّز إهتمامنا على ما يجري حالياً إثر الحرب على العراق وإحتلاله. في محاولة لإرضاء العرب أو التخفيف من حدة الإحتجاج العربي، عمدت إدارة بوش الإبن إلى إلهاء العرب أو تهدئتهم عن طريق تحويل النظر إلى المسألة الفلسطينية بعدما تجاهلتها كلياً فأعلنت خريطة الطريق التي تعرف مسبقاً أن إسرائيل لن توافق عليها من دون أن يمسّ ذلك بالتحالف العضوي بينهما. إذن، ما مصير خريطة الطريق التي أصرّت حكومة شارون منذ إستلامها في نهاية نيسان إبريل على عدم قبول صيغتها الرباعية؟ نطرح هذا السؤال في الوقت الذي نعرف جيداً أن الحكومة الإسرائيلية الحالية التي تتبارى في التطرف مع صقور البنتاغون، الذين هم منها وإليها، لن تقبل خريطة الطريق مهما تسبّبت بإحراج لإدارة بوش التي أثبتت قدرتها على الهيمنة الكلية من خلال حربها على العراق. وسيكون من طرائف الأمور أن ترفض إسرائيل خريطة الطريق في أوج الانتصار الأميركي وحين تتسابق دول العالم الى الإعتراف بهيمنتها وتجنّب مجابهتها. بهذا المعنى يشكّل رفض إسرائيل خريطة الطريق إمتحاناً للإرادة الأميركية، وسيكون من الممكن أن نتبيّن من خلاله مدى القوة الصهيونية العالمية ونتزوّد بأدلة جديدة تساعدنا في الإجابة عن صحة أو خطأ مقولتين نظريتين طالما جرى النقاش حولهما. تذهب مقولة نظرية إلى أن إسرائيل هي مجرد قاعدة أميركية تستعملها في خدمة إستراتيجيتها للسيطرة على المنطقة العربية. أما المقولة الثانية فتقول أن الصهيونية هي التي تتحكّم بالإرادة الأميركية في ما يخصّ سياساتها الشرق أوسطية لمصلحة إسرائيل على حساب المصلحة الأميركية، حتى أن أحد المقتنعين بهذه المقولة أكّد أن "أميركا رهينة إسرائيل". ويلجأ البعض أحياناً الى التوفيق بين المقولتين فيتردّد إن ما تقوم به أميركا في الشرق الأوسط هو في نهاية المطاف خدمة للمصالح الإسرائيلية والمصالح الأميركية معاً، وقد يحدث أن تتناقض المصالح في بعض الحالات النادرة. يميل المحلّلون السياسيون العرب عادة الى القول بالنظريتين المتعاكستين من دون تمييز بينهما، فكثيراً ما يردّدون من ناحية أن إسرائيل هي قاعدة أميركية، ومن ناحية أخرى أن الحركة الصهيونية هي التي تسيطر على السياسة الأميركية. وقد يبدو في الظاهر على الأقل أنه بقدر ما تتجبّر أميركا في تعاملها مع العرب، نرى أنها متسامحة وربما خاضعة للإرادة الصهيونية حين يصدف أن يحدث إختلاف في وجهات النظر. ومهما كان، هناك تباين واضح في لغة التوجّه الأميركي للفلسطينيين ولغة التوجّه للإسرائيليين. يستشير الأميركيون الإسرائيليين ويتحاورون معهم على أن يأخذوا المصالح الأميركية في الإعتبار، وعلى العكس يطالبون العرب بالإمتثال لارادتهم بلغة فوقية وإملائية. حصل في مرحلة للإعداد للحرب على العراق أن إجتمع أحد أهم القادة الصهاينة في الغرب، وهو إيلي وايزل الذي نال جائزة نوبل للسلام، مع الرئيس بوش في منتصف آذار مارس الماضي. وخرج من المقابلة ليقول أنه على رغم كونه "ليس رجل حرب" إلا اأنه يدعم الرئيس بوش للتخلص من صدام حسين. هذا ما ذكرته "نيويورك تايمز" 14/3/03 عن تحول عدد من المفكرين الحمائم إلى صقور، وإيلي وايزل واحد منهم، وشرحت ظاهرة التحوّل هذه بأنها جاءت نتيجة لكون كثير من هؤلاء يدعم الحرب على العراق "على الأقل جزئياً بسبب إهتماماتهم بإسرائيل". وأوضح أحد هؤلاء المفكرين الذين تحوّلوا من حمائم إلى صقور، وهو كينيث بولاك مؤلف كتاب Threatening Storm : The Case for Invading Iraq الذي خدم في إدارة كلينتون، أن القصد من الحرب على العراق هو "وضع عملية مفاوضات السلام في الشرق الأوسط على الخط". وقبل ذلك كتب الروائي الإسرائيلي أموس أوز مقالة نشرتها "نيويورك تايمز" 19/2/03 هاجم فيها حركة الإحتجاج على الحرب لأنه إستشمّ منها "موجة من العداء العاطفي ضد إسرائيل... لأن الذين يرون في أميركا الشيطان الكبير يميلون أيضاً الى رؤية إسرائيل الشيطان الصغير". وأوضح أنه حين شكّك بجدوى الحرب، إنما فعل ذلك بالدرجة الأولى لتخوفه من مزيد من التطرف فقد يحل بن لادن آخر محل صدام حسين، وليس لما تسبّبه الحرب من دمار ومآسي بشرية. تحديداً، نقول أنه مهما كان مدى عمق التحالف الأميركي - الإسرائيلي، إلا أن هناك ما يمكن إتخاذه دليلاً الى مدى التأثير الإسرائيلي الكبير في السياسة الأميركية، خصوصاً ما يتعلّق منها بالمسألة الفلسطينية. حديثاً، أي في الأول من أيارمايو إثر تسليم خريطة الطريق للسلطة الفلسطينية وحكومة شارون، جاء في "واشنطن بوست" إن حسابات بوش أوصلته الى الإقتناع بأنه سيتضرّر من الضغط على إسرائيل أكثر مما سيفشل في التوصّل إلى تسوية. ثم إن أكثر المقربين منه، المتدينين المحافظين، هم الأكثر إلتزاماً بحماية إسرائيل وسيقاومون أي محاولة للضغط على حكومة شارون التي أعلنت في ذلك الوقت بالذات أنها لن توقف حملتها العسكرية ضد الفلسطينيين إلى أن يتمكّن السيد محمود عباس من تفكيك جماعات الإرهاب وتجريدها من سلاحها. ويأتي هذا على عكس ما تقول به خطة الطريق من ضرورة قيام كل فريق بتنفيذ إلتزاماته بشكل متوازٍ ومتبادل ومتزامن. بل إن هناك أعضاء في حكومة شارون، ومنهم وزير السياحة بنمين إيلون، يقولون باقامة دولة فلسطين في الأردن وقد أقاموا علاقات وثيقة مع اليمين المسيحي في أميركا الذي يشاطرهم هذا الرأي ويضغط على الرئيس بوش، عبر أعضاء في الكونغرس. وقد سبق لشارون نفسه أن قال في سيرته الذاتية ان الأردن هو الدولة الفلسطينية. وكأنما رداً على هذه الدعوة، رحّب قائد طائرة "آليطاليا" بركابها عند هبوطه في مطار تل أبيب بوصولهم الى فلسطين. ربما تكون إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تتكّلم مع أميركا من فوق ومن موقع القوة. ومن هنا فإن لها شروطها التعجيزية التي تظهر بوضوح من خلال تعامل شارون المهين مع وزير الخارجية الأميركية بإصراره على تأجيل إعلان قبوله خريطة الطريق ريثما يجتمع بالرئيس بوش والبحث معه في تعديلات عليها، ولا بدّ أن منها تهميش دور اللجنة الرباعية ليكون لأميركا وحدها دور التوسط والمراقبة على الأمن، والتأكد من تقدم السلطة الفلسطينية في عملية وقف العنف، والتخلي عن حق العودة، وإتمام كل مرحلة قبل الانتقال إلى غيرها من دون جدول زمني. وكان شارون صرّح بأن "على الفلسطينيين أن يتوقفوا عن التحريض وأن يعملوا على تفكيك منظمات الإرهاب قبل أن تقوم إسرائيل بأية تنازلات" نيويورك تايمز في 14/5/03 ومن المعروف أن السلطة الفلسطينية لا يمكنها آن تلعب الدور المطلوب منها من دون تنازلات إسرائيلية مقابلة. ولأن وزير الخارجية الأميركية باول يعرف مضمون هذه التعديلات، نجد أنه مهّد لزيارته للمنطقة بالقول أن هناك حدوداً لمدى رغبة أميركا بالضغط على إسرائيل وشدّد على أن السلام لا يكون على حساب الأمن. ولم يسأل نفسه في هذه الحالة هل يأتي الأمن على حساب السلام. هذا سؤال لا يُطرح في سياسة أميركا سابقاً أو حاضراً. ومن هنا الإختلاف الشاسع في اللغة التي تتوجّه بها الإدارة الأميركية لإسرائيل، وللعرب. وللإشارة الى طبيعة هذا التوجّه نذكّر بقول باول أثناء زيارته لإسرائيل وفلسطين في الإسبوع الثاني من شهر مايو أيار أن على سورية أن تختار بيننا وبين حماس، وأنها وإن لم تستجب لمطالب أميركا ستكون على الجانب الخطأ من التاريخ. ثم ان شارون يريد من بوش أن يركّز على مسألة الأمن وأن يحدّ من دور كل من الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا في المفاوضات والمراقبة. ولكن من ناحية أخرى، يرى الفلسطينيون والعرب إن تقدّم خطة الطريق سيعتمد إلى حد بعيد على مدى إستعداد بوش للضغط على شارون. بل هذا هو حقاً الإمتحان الأكبر. ولكن، للأسف الشديد، ليس هذا ما يراه بوش نفسه فقد سبق له أن صرّح بأن نجاح خطة الطريق يعتمد على نيات وجهود الفريقين المتنازعين. وهكذا نرى أنه في الوقت الذي تمارس الإدارة الأميركية الضغط على القيادة الفلسطينية لبذل الجهد مئة في المئة لفرض الأمن، تصمت عن تصرفات إسرائيل التي ما أن تسلّمت خريطة الطريق حتى دهمت دباباتها فجر الأول من أيارمايو، أي اليوم التالي لاستلامها، أحياء غزة المكتظة بالسكان وقتلت 13 فلسطينياً منهم صبي في الثانية من عمره، ودمّرت 16 منزلاً. ولقد تزامن التصعيد الإسرائيلي مع تقديم خريطة الطريق، كما انه فيما كان الإسرائيليون يحتفلون بالعيد ال55 لقيام دولتهم كان الفلسطينيون هم أيضاً يستعيدون ذكرى نكبتهم وهم يعرفون جيداً أن الأمل في النهاية لا بدّ أن يتغلّب على اليأس. مرة ثانية، خلال عقد من الزمن، يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام خطة لا تختلف في جوهرها عن خطة أوسلو ودون إلتزام أميركي واضح بالضغط على إسرائيل خوفاً من فشل بوش في الانتخابات المقبلة. بل مرة أخرى، تقبل القيادة الفلسطينية خطة أخرى لا تلتزمها إسرائيل التي تملك القدرة على تخويف الإدارة الأميركية من ممارسة الضغط عليها وتعمل على عرقلة المضي في هذا الطريق. بل في الحالين، إن ما يشغل إسرائيل ليس السلام بل أمنها الخاص. وبهذا نجد انها تفعل ما يناسبها من دون أي إعتبار لكثير من المبادىء القانونية والأخلاقية. ما تريده إسرائيل وتعمل على تحقيقه هو فرض الإستسلام على الفلسطينيين بالتضييق عليهم والتركيز على مسألة الأمن على حساب مسائل السلم وتفسيخ الوطن واغتيال أحلامهم حلماً بعد آخر. هذا ما يدركه الشعب الفلسطيني بوعيه وحدسه فيعلن تمسكه بأحلامه مهما كان الثمن. وما يدركه الفلسطينيون أن بوش لا يملك الجرأة على مواجهة إسرائيل، ولن يتمكّن آحد من إقناعه أن العالم لا يكره، أميركا، بل يكره سياسات حكومته الظالمة. إن مسألة نجاح خريطة الطريق أو فشلها يتوقف بالدرجة الأولى على مدى قدرة الإدارة الأميركية في الضغط على إسرائيل. ومهما كان، يبقى السؤال الأهم: من سينقذ العرب؟ هم أم غيرهم؟ وهل يأتي الإنقاذ من الخارج أم من الداخل؟ * عالم إجتماع وروائي، واشنطن.