برزت في آفاق الشرق الأوسط علامتا استفهام كبيرتان بعد العملية الانتحارية في نتانيا الأحد الماضي: كيف سيتعامل رئيس وزراء اسرائيل الجديد آرييل شارون مع الحدث؟ وما هي السياسة الأقليمية التي سيطرحها الرئيس جورج بوش؟ ذلك ان أياً من الاثنين لم يوضح موقفه بعد، بل يدرسان البدائل ويقوّمان الأوضاع - الى قدر كبير على ضوء توقعات كل منهما من الآخر. واذا كان من المؤكد أن الغموض في الموقفين الاسرائيلي والأميركي سيستمر بضعة أسابيع، فالواضح أن نقاشاً داخلياً واسعاً يدور في واشنطن ولندن وباريس، اضافة الى العواصم الاقليمية، حيث يراجع القادة موقفهم تجاه الصراع العربي - الاسرائيلي من جهة وفي منطقة الخليج من جهة اخرى. الكلّ الآن يعيد النظر في أزمة الشرق الأوسط ويحاول العثور على مخرج من المأزق الخطير الحالي وسط شعور بأن دوامة العنف في طريقها الى الانفلات الكامل بنتائج خطيرة على الجميع. لغز شارون العنصر الأكثر غموضاً في المعادلة هو شارون. هل سيبقى وفياً لتاريخه أم انه قد تغير؟ ان سمعته البشعة في الحقد على العرب وقتلهم معروفة لدى كل عربي. لكن ما هو رأي واشنطن فيه؟ وماذا يقول الاسرائيليون أنفسهم عنه؟ خاض شارون كل حروب اسرائيل، وبرهن انه قائد ضابط قتالي لامع، بل قد يكون الألمع في خط النار بين جنرالات اسرائيل. وعرف عنه الاقدام والسرعة، والادراك المباشر لنقاط ضعف العدو واستغلالها فوراً. لكنه لم يصبح رئيساً للأركان لأن الاسرائيليين اقتنعوا بأنه، على تفوقه على المستوى التكتيكي، يفتقر الى الرؤية الاستراتيجية الصحيحة. وفي 1982 وضع شارون خطة جريئة لغزو لبنان، بأهداف ثلاثة هي تدمير منظمة التحرير الفلسطينية واخراج السوريين وجرّ لبنان الى المدار الاسرائيلي عن طريق تحالف مع القوات المارونية بقيادة بشير الجميل. ولو نجحت هذه الخطة الطموحة لكانت أدت الى اعادة رسم خريطة الشرق الأوسط لصالح اسرائيل. لكن التنفيذ كان سيئاً. اذ تعثرت العملية عندما وصلت القوات الاسرائيلية الى بيروت، ثم انهار المشروع بأكمله عند اغتيال بشير الجميل، الذي كان العنصر الرئيسي فيه. الدرس الذي يمكن استخلاصه هو ان شارون، على رغم قدرته على اتخاذ خطوات جريئة، ربما لا يفكر بشكل كاف في المستتبعات الاستراتيجية. كما أن هناك عنصراً آخر للغموض في الوضع الحالي، وهو تأثير الوزراء من حزب العمل في حكومة الوحدة الوطنية. فهل سيستطيع شمعون بيريز وقف المغامرات العسكرية المتوقعة من شارون؟ العلاقات الشخصية بين الاثنين جيدة، لكن ليس بينهما أرضية مشتركة تذكر، أو حتى احترام متبادل، على الصعيدين السياسي أو الأيديولوجي. من هنا تبدو حكومة الوحدة الوطنية وصفة للشلل وليس للعمل الحاسم. ففيما يؤمن شارون ووزير دفاعه "الصقري" بن اليعيزر - ناهيك عن الوزراء الى يمين الاثنين - بسياسة "القبضة الحديد"، فإن بيريز يؤكد دوماً ايمانه بأنه "لا يمكن اطفاء النار بالنار"، وان ليس من حل عسكري للصراع الفلسطيني - الاسرائيلي. الامتحان الأول أمام الحكومة الجديدة هو الانتفاضة، التي ترى غالبية المراقبين انها ستستمر بشكل أو بآخر، وان من شبه المؤكد ان اسرائيل ستشهد المزيد من التفجيرات الانتحارية والهجمات. كيف سيتعامل شارون مع الموقف؟ لقد أكد دوماً ان الأولوية عنده هي الأمن، لكن كيف سيحاول التوصل الى ذلك؟ هل سيقوم بعمليات "التفتيش والتدمير" داخل مناطق السيطرة الفلسطينية؟ هل سينفذ تهديدات المتطرفين الاسرائيليين باعادة احتلال مدن فلسطينية داخل "المنطقة أ" مثل أريحا ونابلس وحتى غزة؟ اننا نعرف ان الجيش الاسرائيلي تدرّب خلال السنة الماضية على احتمالات كهذه، لكن لا يبدو انها تشكل خياراً معقولاً. فقد انسحبت اسرائيل من لبنان لعدم تمكنها من تحمل خسائل بشرية ضئيلة نسبياً، فكيف يمكنها التفكير بالتعرض لحرب عصابات في المدن الفلسطينية، بما تعنيه من خسائر كبيرة في الأرواح للاسرائيليين وأيضا للفلسطينيين؟ اضافة الى الخسائر، وحتى اذا تركنا جانباً احتجاجات المجتمع الدولي، فإن عمليات كهذه ستؤدي الى توتر خطير في العلاقات مع مصر والأردن، وهو سبب اضافي لترجيح عدم تحرك شارون في هذا الاتجاه. وقد حذر بيريز بالفعل من العودة الى احتلال المناطق الفلسطينية. الخيار السوري هناك تقارير متواترة عن رغبة شارون في العودة الى المفاوضات الثنائية مع سورية، وأن مبعوثيه الى واشنطن، وزير الدفاع السابق موشي آرينز والسفير السابق الى الأممالمتحدة دوري غولد، طرحا على المسؤولين الأميركيين امكان احياء المسار السوري. والبادي أن وزير الخارجية الأميركي الجديد كولن باول يميل الى هذا الاحتمال، لأنه بحثه مع الرئيس بشار الأسد في دمشق التي زارها أخيراً ضمن جولته في الشرق الأوسط. جواب الدكتور بشّار، كما فهمت، كان أن سورية تبقى على التزامها التوصل الى السلام على أساس انسحاب اسرائيلي كامل الى خط الرابع من حزيران يونيو 1967. فوائد اسرائيل من صفقة كهذه واضحة. اذ ان اتفاقاً للسلام مع دمشق، يتبعه سريعاً اتفاق مع بيروت، يعيد الهدوء الى حدود اسرائيل الشمالية ويحيّد حزب الله، القوة العربية الوحيدة التي برهنت على تفوقها على وحدات النخبة في جيش اسرائيل. والأهم بالنسبة الى اسرائيل ان ذلك سيحررها من الضغوط العربية عندما تتعامل مع الفلسطينيين. أما سورية فإن اتفاق السلام سيعيد اليها كل الجولان، كما يرجح ان يوفر لها صفقة مالية مهمة مع الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، ما يساعدها على اصلاح اقتصادها وتنميته. لكن اسرائيل وأميركا تدركان أن من الصعب، ان لم يكن من المستحيل سياسياً، على سورية ان تعود الى التفاوض في غياب تحرك على المسار الفلسطيني، لأن الرأي العام العربي سيعتبر ذلك "طعنة في الظهر" للانتفاضة. من هنا أمامنا استمرار الجمود على المسار السوري، مترافقاً من استمرار العنف على المسار الفلسطيني. هذه بالتالي هي المشكلة التي على واشنطن ان تواجهها عندما يحين الوقت: كيفية اقناع شارون بإعادة تحريك المسار الفلسطيني في شكل حقيقي بما يسمح باعادة الحياة الى المسار السوري. أما في الوقت الحاضر، فيما لا تزال واشنطن تواجه مرحلة نقل السلطة، فإن الادارة الجديدة تمانع في العودة الى مفاوضات السلام الفلسطينية الاسرائيلية، وتريد قبل المخاطرة بخوض هذه المياه العكرة أن ترى مدى استعداد الطرفين للتفاوض الجاد. النقطة الايجابية هنا ان سياسة واشنطن تجاه الشرق الأوسط ستكون في عهدة الديبلوماسيين المحترفين في وزارة الخارجية تحت كولن باول وليس المسؤولين الذين تولوا المنصب على أساس سياسي، الذين كانت لهم اجندتهم وتفضيلاتهم الخاصة بهم. الشائع في واشنطن أن الرئيس جورج بوش الأبن يميل الى العودة الى أسس عملية مدريد التي اطلقها في 1991 والده الرئيس الأسبق جورج بوش ووزير خارجيته جيمس بيكر لا شك أن الاخير حاز على تقدير خاص من بوش الابن وكلمة مسموعة لديه بعد الدور الرئيسي الذي لعبه في الصراع القانوني في فلوريدا اثر الانتخابات الرئاسية الأخيرة. أفكار جديدة عن الخليج بدأت واشنطن مراجعة سياستها تجاه العراق وايران، وسط اقتناع واسع بفشل استراتيجية "الاحتواء المزدوج" للبلدين، وأن من الحمق في الظروف الحالية السعي الى اقصاء القوتين الاقليميتين الرئيسيتين عن شؤون الخليج. وتبدى الشركات الأميركية الكبرى، خصوصاً شركات النفط، تضايقاً متزايداً من حرمانها من المكاسب الكبيرة الممكنة من السوقين الايراني والعراقي في الوقت الذي تسارع فيها منافساتها الأوروبية والآسيوية اليهما. واذ يدور الجدل على اسس جديدة لسياسة واشنطن تجاه الخليج فليس سراً ان هناك خلافاً عميقاً بين الشخصيات الرئيسية في الادارة على ما يجب عمله تجاه صدام حسين. اذ يطالب وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه المتشدد بول ولفووتز بادامة الضغط العسكري على بغداد، بل اشيع ان الأخير يؤيد تدريب وتسليح مجموعات المعارضة العراقية ل"تحرير" جزء من جنوبالعراق واستعماله قاعدة لهجوم على بغداد! بالمقابل يتبنى وزير الخارجية باول موقفاً اكثر اعتدالاً، يتمثل بتخفيف العقوبات والتركيز بدلها على برنامج بغداد المفترض لتصنيع اسلحة الدمار الشامل. أي ان الهدف الرئيسي السيطرة على التسلح، حتى لو كان معنى ذلك التخفيف من الضغط على العراق في مجالات اخرى. ويدرك باول، بما عرف عنه من واقعية، تزايد نقمة العرب على العقوبة المستمرة على العراق، كما يدرك بالمقدار نفسه، عند صياغة سياسة جديدة تجاه بغداد، الحاجة الى كسب تأييد فرنسا والصين وروسيا، الاعضاء الدائمين في مجلس الأمن الذين ينتقدون بشدة سياسة أميركا الحالية. لا يزال الرئيس جورج بوش في طور درس تعقيدات الشرق الأوسط، لكنه أقل جهلاً بالوضع مما يعتقد البعض. ولا يعرف كثيرون ان والده اصطحبه في 1999 عشية ترشيحه للرئاسة في جولة خاصة الى المنطقة عرّفه خلالها على عدد من قادة المنطقة، من بينهم الرئيس حسني مبارك. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.