فيما يواصل اعضاء ادارة الرئيس جورج بوش التخطيط للحرب المحتملة، بل المرجحة، على العراق، عليهم بالتأكيد أن يضعوا في الاعتبار واحداً من العناصر الصعبة الاحتساب في المعادلة، أي الخطوات الممكنة من حكومة ارييل شارون في حال نشوب القتال. وقد أصبحت اسرائيل عنصراً فالتاً بالضبط لأن الرئيس ومستشاريه قرروا، كما يبدو، عدم اتباع سيناريو 1991، عندما أكدت ادارة الرئيس بوش الأب لحكومة اسحق شامير، سراً وعلناً، تفضيل الولاياتالمتحدة القوي أن تتجنب اسرائيل الرد حتى اذا هاجمها العراق بالصواريخ. والطريف أن المسؤول الأميركي الذي بقي في اسرائيل طوال الحرب الماضية للتأكد من امتثال اسرائيل لرغبة أميركا كان بول ولفوفيتز، نائب وزير الدفاع الحالي وأحد قادة الصقور في الادارة الحالية. لكن لماذا غيّر الرئيس بوش الابن هذه السياسة؟ هناك عدد من التعليلات الممكنة. أولاً، المعروف ان التزام سياسة ضبط النفس اثناء حرب 1991 شكل ضغطاً نفسياً قوياً على الاسرائيليين، على رغم أن الهجمات الصاروخية عندما جاءت كانت ضئيلة التأثير. واضطر الاسرائيليون الى قضاء يوم بعد آخر في غرف محكمة الاغلاق في انتظار الاحتمال الأسوأ: الهجوم بالغازات السامة. ونعرف ان السلطات وقتها وزعت الأقنعة الواقية على السكان، لكن ليس على الفلسطينيين في الأرض المحتلة الذين كانوا أيضاً تحت هذا الخطر... هل سنشهد تصرفاً مشابهاً قريباً؟ لا بد ان ادارة بوش الابن تعرف تماماً مدى الاحباط الذي سببته سياسة تجنب الرد بالنسبة الى الاسرائيليين، ولو انها كما يبدو لا تدرك كم كان الوضع مخيفاً أيضاً للفلسطينيين، خصوصاً مع افتقارهم التام الى أي حماية من الهجمات. لكن هناك عوامل اخرى كما اعتقد وراء تغيير موقف واشنطن من امكان الرد الاسرائيلي. من بين هذه العوامل أن خطط الادارة هذه المرة تعتمد الى حد أقل بكثير على حسن النية والتعاون من جانب أي حكومة عربية. ومن هنا ف ليس من خطر يذكر كما تعتقد على تحالفاتها في حال الرد الاسرائيلي على هجمات عراقية. ويكشف هذا الموقف بالطبع عن تعامٍ مستغرب من جانب الادارة عن المعضلات السياسية التي لا بد ان تواجهها في حال اطاحة صدام حسين. لكن يبدو أن العناصر المؤيدة لليكود في الادارة مرتاحة تماماً لتعريض المنطقة لهزة كبرى تصيب آثارها الأنظمة المساندة لأميركا، لأن ليس هناك أهم لدى تلك العناصر من تلبية كل نزوات ارييل شارون. هناك عامل آخر وصفه المعلق الاسرائيلي آلوف بن وغيره بأنه "الدروس التي تعلمتها الادارة الحالية من المواجهة بين بوش الأب وشامير". وما هي هذه الدروس؟ ان مؤداها في شكل رئيسي، من منظور واشنطن، لا يتعلق بالخلاف بين بوش الأب وشامير على سياسة ضبط النفس خلال حرب 1991، بل خلافهما اللاحق على ضمانات القروض. فقد اتخذ بوش الأب موقفاً حازماً تجاه تلك القضية، وهو ما شكل دافعاً قوياً للناخبين الاسرائيليين للتخلي عن ليكود وزعيمه شامير وانتصار حزب العمل في انتخابات حزيران يونيو 1992. وكانت نتيجة ذلك أن سياسة واشنطن للسلام في الشرق الأوسط في السنين التي تلت كانت أكثر فاعلية بكثير مما لو كان شامير لا يزال في السلطة. ويمكن القول ان الدرس المستخلص من تلك المواجهة هو ان بوش حصل على ما يريد من خلال اتخاذ موقف حازم ضد شامير في قضية ضمانات القروض. لكن الدرس الذي تعلمته واشنطن منذ 1992 كان مختلفاً تماماً وخاطئاً أيضاً، وهو ان المواجهة مع شامير أدت الى فشل بوش الأب في الانتخابات الرئاسية التي جرت لاحقاً من تلك السنة. لكن الواقع هو أن واشنطن شهدت خلال صيف 1992، عندما تراجعت شعبية بوش وبرز احتمال فوز بيل كلينتون، ما يشبه الاجماع على سبب فشل بوش في معركة التجديد، أي "انه الاقتصاد ايها الغبي!" حسب شعار أنصار كلينتون وقتها. بكلمة اخرى، خسر بوش الانتخابات بسبب تردي الوضع الاقتصادي وما بدا من عجز الرئيس عن تقديم الحلول، بل عدم اهتمامه بالجانب الاقتصادي أصلا، وليس في الدرجة الأولى لأن الناخبين أو اللوبي الاسرائيلي قرروا "معاقبته" على المواجهة مع شامير. هكذا نجد، في ما يخص "تعلم الدروس"، أن لا أهمية كبيرة للأسباب الحقيقية لفشل بوش الأب، بل المهم بالنسبة الى أعضاء اللوبيات المتخمة بالمال التي تنفث السموم في انحاء واشنطن هو ما يريدون استخلاصه من ذلك الفشل. وكان من مصلحة اعضاء اللوبي الاسرائيلي، الذين شعروا أن بوش الأب أهانهم في 1991 وأوائل 1992، أن يشيعوا الرأي القائل بأن السبب الرئيسي لفشله كان "بالطبع" نشاطهم ضده. ××× أتابع منذ سنين كتابات المعلق الاسرائيلي الوف بن في "هآرتس" واعتبره منصفاً وواسع الاطلاع. وقد كتب أخيراً عن مواقف الاسرائيليين اليهود ازاء احتمال الحرب أن "هناك حماساً كبيراً للحرب المتوقعة في العراق، وليس فقط بسبب الكره لصدام حسين. الكل يريد الحرب. اليمين يريد لأميركا توجيه ضربة الى العرب واجبارهم على تقديم التنازلات لاسرائيل، التي ستتمكن خلال ذلك من السيطرة على الأراضي... ويأمل اليسار من الولاياتالمتحدة، بعد التعامل مع صدام حسين، أن توفر قسطاً من النظام للمنطقة وتخرج اسرائيل من الأراضي. وتريد المؤسسة العسكرية ان يطلق العراق بضعة صواريخ لكي يتم اسقاطها بصواريخ "آرو" المضادة، ما يبرهن على امتلاك اسرائيل المزيد من القوة الردعية ويأتي بعقود ثمينة لصناعات الدفاع. الكل يتوقع ان يؤدي اسقاط نظام صدام حسين الى انهاد الانتفاضة واخراج اسرائيل من الحفرة الاقتصادية والأمنية التي سقطت فيها منذ سنتين". انه توصيف صحيح عموماً، لكن عندما يقول آلوف بن أن "الكل" في اسرائيل يريد الحرب، فإنه "كل" محدود، لأنه يستبعد فلسطينيي اسرائيل الذين يشكلون نحو واحد الى ستة من السكان، كما يستبعد الكثيرين من الاسرائيليين الثابتين على تأييدهم للسلام. وأثناء زيارتي الأخيرة الى اسرائيل في حزيران يونيو الماضي عبّر كثيرون من معسكر السلام الاسرائيلي عن مخاوفهم من نتائج حرب جديدة في الشرق الأوسط على الأراضي المحتلة. وهم يعارضون الحرب على العراق لهذا السبب، اضافة الى دافعهم المبدئي العام. لذا عندما يتكلم بن عن "اليسار" فهو على الأرجح يعني التيار الرئيسي من اليسار الذي تمثله قيادة حزب العمل، وليس اليسار ككل. وبالطبع لم يستطع أحد أن يبرر في شكل مقنع مقولة ان ازاحة صدام حسين ستعني نهاية الانتفاضة. وكانت هناك محاولات متفرقة من قبل الناطقين الاسرائيليين للتبرير تدور على أن المساعدات المالية التي يقدمها النظام العراقي الى أسر الشهداء تشكل وقود الانتفاضة، وبالتالي فإنها ستتوقف بتوقف الأموال. لكن ليس هناك في اسرائيل من يعتقد حقيقة بذلك. هناك أيضاً، في سياق حرب أميركية شاملة على العراق، احتمال استعمال أخطر للادعاء بأن النظام يمول القائمين بالانتفاضة - أي استعمالها لتبرير ضربات أقسى مما مضى الى الفلسطينيين المكشوفين تماما أمام العدوان. هل يمكن لأي يهودي اسرائيلي عاقل أن يصدق ان اطاحة نظام صدام حسين ستنهي الانتفاضة؟ اذا كان الكثيرون منهم يعبرون عن الأمل بذلك - وهو ما يقوله الوف بن، الذي أثق بكلامه مع التحفظات المذكورة اعلاه - فإنه بالتأكيد برهان اضافي، اذا كانت هناك حاجة الى ذلك، على عمق الهزة النفسية لدى يهود اسرائيل حالياً، التي أزالت عنهم القدرة على التفكير الانساني العقلاني والهادىء. هيّا اذن! من سيساعد هؤلاء الناس على استعادة عقلهم! لكن كيف يمكن ذلك؟ ××× مهمة اعادة التعقل الى الاسرائيليين ملحة تماما، وذلك لأسباب كثيرة ليس أقلها: 1 أن لديهم ترسانة نووية كبيرة، و2 انهم الآن، كما نجد من وسائل اعلامهم التي لا تزال تحت الرقابة العسكرية، اكثر صراحة من أي وقت مضى في استعمال التهديد النووي للتوصل الى غاياتهم. مثلاً، هناك المحلل الاستراتيجي زئيف شيف، بصلاته الواسعة في المؤسسة العسكرية الاسرائيلية، الذي كتب أخيراً أن واشنطن تتفهم "أن اسرائيل لا تنوي التغاضي عن الهجمات العراقية في كل الظروف". وأوضح ان "افادة الاستراتيجي انتوني كوردسمان الى مجلس الشيوخ سلطت الضوء على ذلك عندما قال ان هناك ظروف صعبة معينة قد تدفع اسرائيل الى الرد بالسلاح النووي". من الصحيح ان هذا لا يشكل تهديدا سافرا أو رسميا. استعمال شيف لأقوال كوردسمان في شكل يوحي بالموافقة عليها يعيد الى الذهن استناد الكتّاب السوفيات الى "مصادر غربية علمية" لا يذكرون هويتها عندما تريد حكومتهم الكشف الغير رسمي عن بعض المعلومات. كما يسند شيف لاحقاً الى "أميركيين" لا يسميهم الرأي القائل بأن "استعمال اسرائيل للسلاح النووي لمعاقبة المدنيين سيحرم الشعب اليهودي من التفوق الأخلاقي الذي يفاخر به منذ أجيال". انه لا يصرح اذا كانت هذه الآراء صحيحة أم خاطئة، لكنه ينهي تعليقه بالقول: "اذا كان الرد الاسرائيلي سيكون ضعيفا فالأفضل عدم القيام به. وفي أي حال، سيكون من الخطأ لرئيس وزراء اسرائيلي... أن يعد مقدما بأن اسرائيل لن ترد مهما كانت الظروف". ××× لنتذكر أن هذا كلام زئيف شيف، ذلك المحلل الاستراتيجي لشؤون الشرق الأوسط المعروف بالتعقل والتحفظ ورفض التهور. ولا بد لي ان استنتج أن هذا اذا كان رأي شيف فالأرجح أن الكثيرين في الحكومة الاسرائيلية المعروفين بالتهور والنزق الايديولوجي سيتخذون خطوات تصعيدية مفاجئة وخطيرة عندما تهاجم الولاياتالمتحدةالعراق. أليس على المسؤولين في ادارة بوش الانتباه أكثر الى هذا الخطر؟ أليس علينا كلنا حثهم على الانتباه اليه أكثر؟ والواقع، اذا اخذنا في الاعتبار ما يبدو من تصميم شارون وحلفاؤه داخل وخارج اسرائيل على التصرف كعنصر منفلت تماماً في المنطقة في حال وقوع حرب أميركية عراقية، فربما كان الأفضل لكل الأميركيين بذل المزيد من الجهد للعثور على بدائل سلمية للتوصل الى اهدافهم. * كاتبة بريطانية متخصصة في شؤون الشرق الاوسط.