بوصول البعثة الأميركية الجديدة الى الشرق الأوسط لمعالجة الأحداث الدامية في فلسطين، تكرر السؤال المعروف: هل ستكون هذه البعثة قادرة على تحقيق بعض الانجازات ام انها ستكون واحدة في سلسلة البعثات الأميركية الى المنطقة، وهي بالعشرات، من دون ان تكون قادرة على فك الاشتباك بين الاسرائيليين والفلسطينيين وبالتالي فتح الطريق امام المفاوضات للوصول الى حل للصراع العربي - الاسرائيلي؟ تتألف البعثة من مساعد وزير الخارجية الأميركي وليام بيرنز كمبعوث خاص لوزير الخارجية كولن باول، ومن الرجل العسكري القوي الجنرال أنطوني زيني المستشار الخاص لباول، وتجدر الاشارة الى ان الجنرال زيني هو لبناني الأصل من عائلة الزعني المعروفة، هاجر جده من بلدة تولا في منطقة البترون شمال لبنان. وهو يحظى باحترام وتقدير داخل المؤسستين العسكرية والسياسية في الولاياتالمتحدة وبرزت مواهبه العسكرية والسياسية خلال حرب الخليج الثانية يوم كان قائداً للقوات المركزية. ويعود القرار الأميركي بإرسال البعثة الى أسباب: - حرب أفغانستان وانعكاساتها الفلسطينية على قيام التحالف بزعامة الولاياتالمتحدة. - خطاب الرئيس بوش في الأممالمتحدة الذي قال فيه: "إننا نعمل من أجل اليوم الذي تعيش فيه دولتان: اسرائيل وفلسطين معاً بسلام في حدود آمنة ومعترف بها". - خطاب باول في جامعة لويزنيل في ولاية كنتاكي حول رؤيته للصراع العربي - الاسرائيلي وهي في النهاية رؤية أميركا في زمن بوش الابن. ومع ان خطاب باول لا يحوي جديداً الا ان أهميته تكمن في اجمال التصور لحل القضية وللوسائل بديبلوماسية مدنية وفي الوقت عينه بلهجة عسكرية. - تدهور الأوضاع الأمنية داخل فلسطين بشكل خطير. - مناشدة دولية عربية وغير عربية لأميركا بالتدخل لوقف حمّام الدم. - وأخيراً تحوّل في اهتمامات ادارة الرئيس بوش الذي وجد من الصعب، بل من المستحيل تأجيل العمل على قضية الشرق الأوسط او وضعها جانباً. - استباق وصول أرييل شارون الى واشنطن ومحاولة نزع فتيل التفجير من جانب، وسبر مواقف الفرقاء العرب واسرائيل من جانب آخر كي تكون الادارة على بيّنة مما سيقال لرئيس الوزراء الاسرائيلي ومما سيطلب منه. ويجري التشديد، خصوصاً في الجانب الاسرائيلي على دور الجنرال زيني. حتى ان احدى الصحف الاسرائيلية وصفته ب"المندوب السامي" معاريف. وأشارت الى ان زيني الكاثوليكي الماروني هو غير دينس روس الصهيوني المعروف. هذا التشديد نابع من اعتبارات عدة: - ان مهمة اللجنة هي في الدرجة الأولى مهمة أمنية عسكرية أي العمل على وقف النار وبشكل خاص تنفيذ خطة تينيت بحيث تشكل مدخلاً الى تقرير ميتشل ومن ثم الى المفاوضات بين الطرفين. - ان الجانبين المتصارعين دخلا في حلقة مفرغة في موضوع استعمال العنف لتحقيق أغراض سياسية. ولا بد لكسر هذه الحلقة من رجل عسكري ذي صدقية شخصية ودولية أميركية قادر على تنفيذ اجراءات العودة الى الهدوء وهذا هو بالضبط معنى خطة جورج تينيت مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. - في المرحلة الحالية من الصراع فإن العسكري يتقدم على السياسي وهو يطرح دائماً اشكالية الأولوية: هل الأمن مدخل الى السلام أم السلام شرط للأمن. - بعد ما يزيد على السنة من أعمال العنف والارهاب المتبادلة، بدأ التعب يظهر على الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي ولا بد من استثمار هذه الفرصة لتحقيق اختراق خصوصاً ان شارون، على رغم الدعم الشعبي في اسرائيل فإنه واقع بين ضغط بنيامين نتانياهو على يمينه وزيني على يساره. في حين ان عرفات محاصر بثلاثة ضغوط: الوضع الداخلي، والآلة العسكرية الاسرائيلية، والضغوطات الأميركية. واذا كان دينس روس منسق عملية السلام في عهد الرئيس كلينتون يؤكد ان خطاب باول في لويزنيل "لا شيء جديداً في ما قاله بل كله سبق قوله". الا ان اللهجة التي صيغ بها الخطاب كانت حازمة وعسكرية. يضاف اليه ان في الخطاب كل ما يرغب الطرفان في سماعه. والأهم من ذلك كله ابراز الالتزام الأميركي بالعمل على ايجاد حل للصراع العربي - الاسرائيلي. ولكن حدود الرؤية لهذا الحل هي أدنى منها في زمن كلينتون الذي يعتبر مشروعه الشهير في كامب ديفيد 2000 وطابا كانون الثاني 2001 متقدماً على طروحات باول التي تتسم بالعمومية ولا تلامس موضوع القدس المتفجر! ورأت صحيفة "لوموند" الفرنسية ان خطاب باول المنتظر حول الشرق الأوسط لا يحقق سوى "هدف أميركي متواضع" وهو دفع الجانبين الى التحاور حول أمور الأمن. وأن في الخطاب شرحاً واضحاً لسياسة أميركا لكن على مستوى المبادئ أي: وقف فوري للعنف والارهاب والتزام أميركا بعملية السلام من دون ان يكون في كلامه ما يوحي بأن أميركا ستنتقل الى الفعل والى ممارسة ضغوط كافية لدفع الأمور الى الأمام. وفي هذا المجال يستعاد كلام للرئيس بوش الابن وفيه قوله "كثيرون يعنون بالشرق الأوسط لكن على أصحاب العلاقة ان يعملوا أولاً للسلام. إن أميركا لا تجبر على السلام أناساً لا يريدونه. وعلى الفلسطينيين ان يبذلوا المجهود الأكبر". وفي ضوء هذه الرؤية المحدودة، هل سيكون دور بعثة زيني محدوداً أيضاً؟ في الاجابة على هذا السؤال ينبغي أخذ الأمور الآتية في الاعتبار: - ان أميركا اليوم في حال حرب فعلية وان سياستها في العالم هي سياسة حرب أيضاً. - ان الرئيس بوش، ولأسباب موضوعية ووطنية يتمتع بتفويض شعبي يجعله أقوى رئيس تشهده أميركا منذ زمن آيزنهاور. - معنى ذلك عملياً ان النبرة التي تتكلم بها الادارة الأميركية اليوم هي نبرة أمر وحزم أكثر منها نبرة استجداء واستعطاف... وتسوية! - لقد انعكس هذا الأمر على رد فعل شارون والسلطة الفلسطينية من خطاب باول، حيث رحب كل منهما بالخطاب لأسباب خاصة به ولما يناسبه فيه. وكان من الصعب على اي منهما الوقوف سلباً ازاء بيان باول، لأنه ليس بمقدور أحد ان يتحمل نتائج عرقلة المسعى الأميركي: كإعلان مبادئ وكبعثة تزور المنطقة! لكن هذا لا يعني ان أميركا قادرة على فرض الحلول والمواقف كما تريد. فإدارة بوش تدرك جيداً انها تتعامل مع مسألة معقدة، ويزيد من تعقيدها وجود شارون وعرفات على رأس السلطتين مما يضع واشنطن أمام خيارين: فإما المجازفة مع امكان الفشل، وهو أمر وارد - بعثة شأن غيرها من البعثات - وإما القيام بدور حتى ولو كان محدوداً، فإذا لم تكن له انعكاساته الايجابية المباشرة على الأوضاع داخل فلسطين، فإن له ايجابيات على أوضاع الدول العربية والاسلامية في المرحلة الراهنة في موقفها من أميركا. - ولكن هذا لا ينفي ان أميركا قادرة، اذا شاءت، ان تحجّم شارون وعرفات. فبوش الأب هو الذي أسقط اسحق شامير في الانتخابات بعد حرب الخليج. وبوش الابن قادر على احراج شارون من جانب مع الأخذ في الاعتبار آراء 89 عضواً في مجلس الشيوخ، لكنه ايضاً قادر على رفع الغطاء عن عرفات والسلطة ودفعها على وقف اللعبة المزدوجة بحيث لا تعود مسألة تصديها للعنف مسألة ارادة بل مسألة قدرة. ولأنه حتى الآن رفض لقاء عرفات ومصافحته في الأممالمتحدة، سيكون ما تطلبه أميركا من عرفات أصعب وأدق مما تطلبه من شارون. وبالتالي ستكون مهمة زيني الضغط على الفلسطينيين أكثر منها على الاسرائيليين. وفي الوقت الذي عيّن فيه شارون طاقماً اسرائيلياً للتفاوض مع بعثة زيني على رأسه الجنرال في الاحتياط مئير داغان المعروف بالتطرف، فإنه تعمّد كعادته ابراز احتياجات اسرائيل الأمنية على الطبيعة وليس في الكلام او على الورق، ودعا الجنرال زيني الى رحلة جوية بطائرة هليكوبتر كي يتأكد بنفسه من همّ اسرائيل الجيو - استراتيجي المتمثل بخاصرتها الضيقة تجاه الضفة وما بين النهر والبحر. كما أكد من جديد تمسّكه ب"أسبوع الهدوء" كمدخل للتفاوض! وسط هذه التعقيدات تبرز مهمة الموفد الاميركي. فمن المعروف ان الجنرال أنطوني "الزعني" بحسب شهرته اللبنانية، سيبقى في المنطقة لفترة غير محددة بهدف وقف أعمال العنف في فلسطين والعمل على استئناف المفاوضات على المسارات الفلسطينية والسورية واللبنانية. وسيقوم في وقت لاحق، لم يتحدد بعد، بزيارة لبنان موطن أجداده. وقد تهيء له زيارته للبنان الفرصة للوقوف أمام منزل أجداده المهدّم في تولا - البترون وسيكون لهذه الوقفة الوجدانية تأثيرها على نظرته الى لبنان والى دوره ومصيره. وستعيد هذه الواقعة، في حال حصولها وقفة فيليب حبيب، في بداية الثمانينات أمام منزل أجداده في بلدة الكفور في الجنوب. وما لم يستطع ان يحققه فيليب حبيب الديبلوماسي المحترف قد يتمكن من تحقيقه أنطوني الزعني الجنرال السياسي المحترف! باختصار، ان بعثة زيني لن تجترح العجائب في منطقة يتقاسم رموزها "العجائب"، لكنها لن تكون أبداً كما وصفها الوزير الاسرائيلي داني نافيه واحدة من جملة البعثات الأميركية من دون التوصل الى نتيجة. فالوضع الدولي مختلف، وأميركا مختلفة عن الماضي والجنرال زيني مختلف عن غيره من المبعوثين فهو كما قيل عنه يعرف كل شيء عن المنطقة ولديه القدرة والشجاعة على مصارحة الأفرقاء بما تراه أميركا مناسباً لإسرائيل وللعرب على السواء ودعوة الطرفين الى حلول وسط والى تعهدات جدية، لأنه لن يكون بمقدور اي منهما الحصول على اكثر ما يريد بل على بعض ما يريد. ومع ان الأمور ستتبلور أكثر بعد زيارة شارون لواشنطن فإن أي مشروع حل لن يخرج من معادلة الرئيس كلينتون في كامب ديفيد. ولكن الاشكالية الكبرى هي ان أميركا - بوش ليست قادرة على ان تعرض ما عرضته أميركا - كلينتون. وان اسرائيل - شارون ليست بوارد القبول بما قبلته اسرائيل - باراك!