المخاوف التي اجتاحت العالم من احتمال استخدام أسلحة كيماوية أو جرثومية كان لها ما يبررها، خصوصاً عندما تكون هذه الأسلحة في حوزة أفراد أو تنظيمات هم كالأشباح التي لا مقر لها. فما أن بدأت الولاياتالمتحدة الحرب على أفغانستان حتى كانت رسائل المسحوق الأبيض القاتل تختلط بالإشاعات. ولقد أختار المرسلون عناوين بارزة، مثلما تم قبل ذلك اختيار أهداف بارزة للطائرات الانتحارية. فمن كابول الى واشنطن بدا السلاح فتاكاً بنوعيه: من جهة التكنولوجيا العسكرية المتفوقة التي تضرب جواً وبراً وبحراً، ومن جهة ثانية سلاح الرعب البشري الذي تنشره الجمرة الخبيثة. وفي الواقع شعر العالم، ربما للمرة الأولى، بأنه معني أكثر من أي وقت مضى بما يجري، فالانذارات بوصول الرسائل المخيفة انطلقت من مختلف بقاع الأرض، وعلى رغم عدم صحة معظمها، إلا أنها أوجدت كابوساً يستحيل التعايش معه. توفي مصور صحافي بريطاني يعمل في مجلة "ذي ناشونال انكوايرار" التي تهتم بالفضائح الإجتماعية، متأثراً بعدوى داء الجمرة الخبيثة أنثراكس. وأصيب سبعة من موظفي المجلة بالمرض نفسه. وزاد الهلع في الولاياتالمتحدة من اندلاع حرب جرثومية أو كيماوية إثر إنتقال العدوى الى سكرتيرة مقدم نشرة الاخبار الشهير توك بروكو في شبكة "ان.بي.سي." التلفزيونية التي فتحت مظروفاً كان معنوناً الى رئيسها. ووصل مظروف مماثل الى الصحافية اليهودية جوديث ميلر التي تعمل في صحيفة "نيويورك تايمز" التي تنقل الى الصحيفة تطورات قضية "الارهاب" من منطقة الشرق الأوسط. غير أن المسحوق الأبيض الذي احتواه الظرف تدفق فوق ردائها ولم تصب منه بأذى. وكان ملحوظاً أن المظروفين اللذين احتويا مسحوقاً أبيض زرعت فيه جرثومة "الانثراكس" اللذين أرسلا الى بروكو وميلر كانا مرسلين من منطقة سانت بطرسبيرج في ولاية فلوريدا، وهو مكان لا يبعد كثيراً عن مقر مجلة "ذي ناشونال انكوايرار". وسرعان ما توالت خطابات المسحوق الأبيض، وقد ورد أحدها من العاصمة الماليزية كوالالمبور حيث تدعي دوائر الاستخبارات الاميركية وجود خلية نشطة لتنظيم "القاعدة" الذي يتزعمه أسامة بن لادن، وتتهمها بالتورط في مهاجمة المدمرة الاميركية "كول" في ميناء عدن. أي جهة ستكون هدفاً تالياً للهجوم الجرثومي؟ هل تكون صحيفة "واشنطن بوست"؟ أم "واشنطن تايمز" المؤيدة لاسرائيل والمعادية للعرب؟ لا أحد يعرف بالطبع. غير أن بن لادن كان قد هدد - عبر رسالته المصورة التي بثتها قناة "الجزيرة" الفضائية القطرية - بشن هجمات مماثلة لتلك التي تعرض لها مركز التجارة العالمي ومبنى وزارة الدفاع في فرجينيا القريبة من واشنطن. ومن المؤكد أن توجيه رسائل "إرهابية" الى صحافيين بارزين حدث لا بد أن يجد طريقه الى الصفحات الأول في الصحف التي يشارك أولئك الصحافيون في تحريرها. غير أن ذلك لا يمكن أن يوازي بأي حال الهجمات التي استهدفت نيويوركوواشنطن. وبعدما تعرض مبنى الكابيتول لجوم بالأنثراكس، وأصيب أكثر من 30 شخصاً، وكذلك مقر حاكم ولاية نيويورك، حيث أصيب شخصان ، سرى بطول الولاياتالمتحدة وعرضها جو من الرعب. وراح الأميركيون يتساءلون عن الأهداف المقبلة. هل سيكون مقر وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية الذي يبعد نحو ثلاثين كيلومتراً عن واشنطن، وهي مسافة لا تستغرق جواً أكثر من عشر دقائق، هدفاً للهجوم المرتقب؟ أم أن القيمة الرمزية للهدف تحتم بقاء البيت الأبيض - باعتباره رمزاً للسيادة والقوة الاميركية - هدفاً تالياً للإرهابيين؟ إنه هدف صغير نسبياً ويمكن تدميره بسهولة. وزاد الاميركيين رعباً، وعمق عقلية الحصار في دواخلهم، الإعلان عن مغادرة ديك تشيني نائب الرئيس وزوجته الى "مخبأ آمن"، وهو ما تعتقد الدوائر الصحافية في واشنطن أنه مقر قيادة عسكري سري تم بناؤه أثناء الحرب الباردة. وتم إغلاق جميع الشوارع المحيطة بمقر الكونغرس ولا يسمح إلا بمرور السيارات الرسمية. ومن الواضح أن السلطات باتت تتعامل بمنطق أن كل شيء يبقى مشكوكاً فيه إلى أن يثبت العكس. وبعد إغلاق مبنى الكونغرس، اختفت تماماً أفواج السياح وأطفال المدارس الذين كان يتم تشجيعهم على زيارة المبنى ليعرفوا كيف تدار الولاياتالمتحدة. وإذا كان ضرورياً مرور شاحنة قرب الكونغرس فلا بد من أن ترافقها سيارات الشرطة! وأضحى يتعين بمقتضى القانون أن يوجد حارس مسلح على متن كل الرحلات الجوية في أميركا. غير أن الموازنة المخصصة لهذا التعديل الطارئ تكتفي بحارس واحد فحسب، مما يعني أن أى خلية مهاجمة من خمسة أشخاص أو أكثر يمكن أن تتغلب على الحارس مهما كان يقظاً ومدججاً. ويدور جدال في واشنطن حول ما إذا كان يتعين السماح لقباطنة الطائرات حمل أسلحة شخصية لصد أي مختطف. وثمة من يرحبون بهذه الفكرة من الطيارين. فيما يرى آخرون أن من شأن ذلك أن يعرضهم للمخاطر أكثر مما لو كانوا غير مسلحين. وتلقى مراسل "الوسط" في واشنطن رسالة بالفاكس تلاها إتصال هاتفي للتأكد من وصولها من شركة يوجد مقرها في هوليوود تعرض مسدساً تنطلق منه طلقات مطاطية بسرعات تراوح بين 600 و1000 قدم في الثانية. ويمكن إستخدامها إما لتعويق المهاجم أو قتله. وتعرض جهات أخرى فكرة صنع بنادق محملة بشحنات قوية من التيار الكهربائي يمكن إستخدامها لصعق مهاجم بالغ وشل حركته لمدة تقارب 20 دقيقة، وهي فترة تكفي طاقم الطائرة لتكبيل المختطف ولجمه. القطار أسرع وأضحت الإجراءات والتدابير الأمنية في المطارات الأميركية أمراً لا يمكن إحتماله. فقد أرسلت صحيفة "واشنطن بوست" أربعة من محرريها الى نيويورك، فاكتشفت أن السفر الى نيويورك أسرع بالقطار منه بالطائرة من مطار دالاس الدولي أو مطار بلتيمور-واشنطن الدولي، وأسرع منه بكثير لو كانت الرحلة ستبدأ من مطار واشنطن الوطني. وتمتد التأثيرات الى شركات الطيران نفسها، فقد اضطر معظمها الى خفض عدد رحلاته الجوية، وتسريح مئات العاملين. حتى المتاجر التي تنتشر في المطارات صارت تعاني هي الأخرى من ذيول هجمات 11 أيلول سبتمبر الماضي، فقد غدا غير مسموح لها ببيع أي سلعة يمكن أن تتحول سلاحاً يستخدم في خطف الطائرات. وتشمل هذه السلع السكاكين الفضية والمقصات وقلامات الأظافر! وتسمح القوانين التي أقرها مجلس الشيوخ أخيراً لمكافحة الارهاب بالتنصت على الخطوط الهاتفية من دون الحصول على إذن من المحاكم، وبالاعتقال لمجرد الاشتباه. وحتى لو نشطت الجماعات المنادية بالتزام الحريات المدنية في الطعن في دستورية تلك التشريعات، فمن حق الرئيس الأميركي دستورياً أن يستن قوانين مماثلة بمرسوم تنفيذي. وهكذا فإن الحرب المعلنة لحماية الديموقراطية من عدو غير ديموقراطي لكنه لا يتمتع بالسيادة على أي أرض ترغم الولاياتالمتحدة على أن تصبح أقل ديموقراطية، شاء شعبها أم أبى. وعلى رغم التهديدات الصريحة التي وردت في الشريط المرئي الذي أرسله بن لادن الى "قناة الجزيرة"، فإن الرأي يتجه إجمالاً في واشنطن الى ترجيح أن تكون مظاريف "الانثراكس" التي ترسل عبر البريد من تدبير فوضوي أميركي يشعر بالوحدة أو مسلم متطرف. غير أنه ينظر إليها، مع ذلك، في واشنطن باعتبارها مقدمة لحرب جرثومية ستشهدها العاصمة الاميركية. ولا يقتصر رعب الاميركيين على الخوف من "الانثراكس" وحده، خصوصاً أنه ليس معدياً عن طريق الاستنشاق أو التنفس كما هي حال نزلة البرد، ولا اللمس، وتمكن معالجة معظم حالاته بالمضادات الحيوية، بل يتعداه الى الجدري الكاذب والطاعون الذي أفنى نصف عدد سكان لندن في عام 1665، أو الغاز الذي استخدمه الفوضويون اليابانيون في طوكيو قبل بضع سنوات، كما استخدمه الرئيس صدام حسين في حربه ضد إيران، وأنماط الجراثيم الاخرى التي تنشر الأوبئة لدى الحيوانات كمرض الحمى القلاعية الذي اجتاح بريطانيا قبل أشهر. كيف الحصول عليها؟ ولكن كيف يتأتى للجماعات المتشددة الحصول على مثل هذه الجراثيم والمواد الكيماوية؟ كان توفير معظم هذه الأشياء يتم من خلال شركة "اى.تي.سي.سي." التي نقلت مقرها من روكفيل - قرب واشنطن - الى ضاحية مانساس. وقد برز اسمها نحو العام 1995 بعدما أرسلت الى طالب ثلاث عبوات من مادة جرثومية شديدة الخطر ادعى أنه يريدها من أجل البحث العلمي. غير ان السلطات احتجزت المرسل اليه واتهمته بانتحال صفة باحث علمي. وفرضت منذ ذلك الوقت قيوداً مشددة على الحصول على تلك السموم. غير أن العقوبة على مخالفي تلك القيود لا تتجاوز السجن مدة أقصاها عام. ويقول الاتحاد العالمي لتجميع العينات التي يتم تزريعها إنه توجد في العالم كله 473 مركزاً لتجميع البكتيريا في 62 دولة، منها 46 مركزاً لتزريع بكتريا"الانثراكس" وتجميعها. وتقوم هذه المراكز بتقديم خدماتها الى الباحثين المعنيين بتطوير اللقاحات والأمصال والعقاقير. وبالطبع فإن القيود المفروضة على الشراء من تلك المراكز تختلف من دولة الى أخرى. وإذا عزم أي شخص على رش واشنطن أو أي مدينة أميركية بجرثومة الجدري الكاذب أو الانثراكس، فما عليه سوى إستئجار طائرة خفيفة من الطراز الذي يستخدم في رش المبيدات والمخصبات على الاراضي الزراعية. ولهذا عمد مكتب التحقيقات الفيديرالي اف.بي.آي. منذ أحداث 11 أيلول الى حظر تحليق طائرات الرش الزراعي ثلاث مرات. ويبلغ عددها في كل أرجاء الولاياتالمتحدة 2912 طائرة. وقد تكبدت من جراء تلك القيود خسائر بلغت 38 مليون دولار في أسبوع واحد، حسبما ذكر الإتحاد الوطني الاميركي للطيران الزراعي.