في استعراضها الأخير لا تظهر الراقصة الشرقية والاستعراضية أماني انها ترقص فحسب، بل هي تمثل وتحكي وتحادث الجمهور الذي يتجاوب منذ اللحظة الأولى. حتى أنها تنزل عن المسرح للتجول بين الحاضرين لاعبة دور "البصارة التي تشوف البخت" بلكنة بدوية تتقنها بامتياز. أماني نجمة الرقص الشرقي التي بدأت تؤسس لمشروعها الفني في الرقص المسرحي والاستعراضي أطلقت على استعراضها الأخير على مسرح "سيزر بالاس" في بيروت، اسم "أيام وليال"، بالتعاون مع فريق عمل متخصص ومشهود له في الكوريغراف والموسيقى والاخراج مثل جورجيت جبارة ومحمود رضا ومحمد سلطان والمخرج جيرار أفيديسيان وآخرين. لم ترقص أماني فحسب، بل ساهمت أيضاً في تصميم بعض الرقصات الشرقية السولو. وهي تعلمت الرقص على المرآة، وتعتبر ناديا جمال مثالها في الرقص الشرقي. وأماني الفتاة المثقفة أتت الى عالم الرقص بعد تخرجها الجامعي، تهتم بقراءة كل ما يتعلق بتاريخ الرقص وفنون الشعوب، كذلك تقرأ الجرائد عبر الانترنت. عن استعراضها الحالي والرقص والعلاقة مع العمل والجمهور ومع الجسد وعن الهواية والاحتراف كان حديثنا: إذا طلب منك تعريف فنك ومشروعك، فماذا تقولين؟ - كي أستطيع الكلام عن مشروعي، علي العودة الى أحاسيسي الأولى التي أتت بالفطرة عندما فكرت بالرقص. الرقص كان حلماً لي كأي فتاة مراهقة. كنت أحب احساسي والحالة التي أشعر بها وأنا أرقص، كأنني أصير في منطقة بعيدة او في عالم مختلف يتميز عن العالم الذي أعيش فيه على الأرض. هذا الشعور دفعني الى اللحاق بحلم راودني وأوصلني الى عالم الرقص الرحب والغني، ودفعني الى التفتيش عن سعادتي وعن نفسي. وعندما دخلت هذا العالم، تبين لي انني اذا أردت ان أجد سعادتي ونفسي من خلال عملي، يجب ان أقدم عملاً متميزاً، وأن أكون خلاقة ومبدعة. في المرحلة الأولى من عملي رحت أفتش عن تاريخ الرقص الشرقي، وكانت مرحلة صعبة بسبب فقدان المراجع او قلتها. لذا اعتمدت على قراءة كتب التاريخ والعلوم الاجتماعية، وقمت باستنتاجات مختلفة حول طرق عيش الناس في الماضي، واحتفالاتهم وأفراحهم وطقوس المنادمة، ما ساعدني على تكوين فكرة واضحة عن الرقص في العصور الماضية، كذلك اخترت من العمارة، ومن كل شيء اسمه تاريخ شرقي، أفكاراً وصوراً صارت أساساً لخطواتي لأضيفها الى الايقاعات التي كانت جزءاً من طبيعتي. نستشفّ من عروضك هذه النظرة المجددة إلى الرقص الشرقي. - منذ البداية، لم أحب الإيقاعات المعروفة في الرقص الشرقي. ورحت أفتش عن ايقاع جديد يتسم بشخصيتي وبأفكاري. كذلك الموسيقى كانت مهمة بالنسبة إلي، ولا يكفي الاعتماد على الايقاع وحده الذي هو مكمّل ومواز للموسيقى. الجملة الموسيقية والآلة التي تقول هذه الجملة مهمة والجملة الواحدة تختلف من حيث تقديمها وأدائها. دائماً كانت لدي القناعة الكاملة ان الرقص الشرقي فن قائم بحد ذاته ويستطيع التعبير عن خلجات الانسان كأي نوع آخر من الرقص العالمي، كرقص الباليه الكلاسيكي الذي اتجه فنانوه نحو حضارتنا، حضارة الشرق ليضيفوا الى رقصهم سحر الشرق وجماله عبر إضافة حركات اليدين. وهذا برهان أكيد ان الرقص الشرقي قادر بحد ذاته على بلوغ مصاف الرقص الرفيع، عبر قدرته التعبيرية وأدائه المسرحي. في استعراضك تقدمين قصصاً مختلفة تحكينها عبر رقصك التعبيري والمسرحي، هل تختارين نصوص القصص التي ترقصينها؟ - نعم أختار دائماً نصوصي. أول قصة رقصتها في السابق كانت قصة العبّاسة أخت هارون الرشيد التي قتل زوجها. هي قصة المرأة العاشقة المتذكرة والمتألمة، التي لا تجد حلاً لمأساتها سوى وضع حد لحياتها. أقرأ عادة وأختار القصة ثم أبدأ بالعمل عليها، كذلك أعمل على اختيار الموسيقى وأحياناً أجد قطعة موسيقية غير موضوعة خصيصاً للقصة فأعمل عبر الخطوات والتعبير على خلق رابط بين الموسيقى والقصة. لم أكن أستعين في البداية بفريق عمل كبير، لتحويل النص الى استعراض. ففي استعراضي السابق "أماني حول العالم"، قدمت الرقص التاريخي في أزمنة وأمكنة مختلفة واستعنت بفتيات يرقصن معي لإضافة طابع أجواء الحريم والقصور، ثم انسحبن خلال الرقص وأكملت التابلوه وحدي. كأنك تريدين ان تحكي التاريخ عبر جسدك؟ - ربما أردت القول ان الرقص الشرقي يستطيع ان يحكي اي قصة، وليس فقط التاريخ. العرب والشرقيون عامة ينجذبون لأي رقص عالمي آخر، لأن كل فن مستورد نحبه، ولا نحب تصدير أي شيء لدرجة اننا نسينا ما لدينا من حضارة فنية، كذلك نسينا تراثنا وثقافتنا. استوردنا كل شيء وأصبحنا للأسف بلا أي حصن او جدار ثقافي. رقصنا هو قيمة فنية كبيرة، على رغم الاساءة التي تعرّض ويتعرض لها من تشويه لصورة الرقص الشرقي ولسمعته. في اختيارك لقصة العبّاسة، اخترت ان ترقصي المرأة في حالة الحب والمعاناة أي المرأة والعاشقة، وليس المرأة التي تمثل السلطة. أي امرأة هي مثالك؟ - إنني إنسانة مؤمنة. ربما أحب أن أظهر معاناة المرأة لأنني أشعر ان الحياة كلها معاناة. أكره الظالم وأجد نفسي دائماً إلى جانب المظلوم، وما أقوم به من اختيار لقصصي يعبر عن نظرتي الى العالم. ولا أرى يوماً ان على المرأة ان تكون في موقع - لن أقول السلطة - بل في موقع من يقسو على الآخرين، فهي بالنسبة إليّ رمز الحنان. ولا أنتظر من المرأة شيئاً سوى الحب الذي بتنا نفتقد اليه في هذا العصر. على رغم ذلك اشتغلت على رقصة تحكي قصة امرأة في السلطة هي نفرتيتي، وما كان يهمني اظهاره ليس سلطتها بل ما غُيّب عنها في التاريخ، وهو ما قامت به من تضحيات من أجل الحضارة. أما زوجها أخناتون الذي كان رجل سلطة، فبسبب غيرته من شعبية زوجته عمد الى قتلها. هل أنت نسويّة وتريدين عبر رقصك اعادة الاعتبار إلى دور المرأة في التاريخ؟ - لست نسوية لأنني أستطيع التمييز بين ظلم وآخر، تبعاً للجهة التي يأتي منها! أرى الظلم حين يظلم الرجل المرأة، كما أراه حين تظلم المرأة الرجل. إنني ببساطة لا أحب الظلم. ربما كوني امرأة أعبر من خلال رقصي عن معاناة المرأة وليس الرجل. لكن في رقصة الفلامنكو التي أقدمها في استعراضي الحالي، تجدينني أرقص وألعب دور المرأة القاسية التي يموت الرجال من أجلها. "لقد قتلت اثنين". تضحك. لا بأس... ماتوا حباً كما يقولون. - نعم. ولكن في الرقص الشرقي الذي ينضح بالأنوثة، من الصعب تخيّل لعب دور المرأة القاسية واللئيمة، لكنني الآن أراها فكرة جديرة بالعمل عليها. ان أقدم رقصة شرقية لأحكي قصة المرأة التي لا تقاوَم. صورة أخرى للمرأة مختلفة عن صورة الأنثى العاشقة والحنون. الفكرة الثابتة عن الرقص الشرقي ان على الراقصة ان تتمتع بمواصفات جسدية معينة، لكنك استطعت ان تخلقي لوناً مميزاً، على رغم بعدك عن تلك المواصفات التقليدية ! - إن فكر الانسان يظهر في جسده. مثلاً اذا أردت ان أركز فكري على الاغراء لا بد ان هذا سيبرز معطيات في جسدي. أنا أستعمل روحي لأوصل المعنى والجمال، وجسدي هو أداة ترجمة للذي أريد إيصاله وليس أداة اصطياد. ولا أنجح في تحضير أي رقصة ان لم تكن نابعة من داخلي مهما كانت بسيطة، وإن لم أكن مقتنعة بما أقوم به. قد يستغرقني أمر تحضير رقصة بسيطة أكثر من ستة أشهر، أشعر خلالها بالاحباط، وأكتشف فجأة ان ما تحتاجه تلك الرقصة كي تكتمل هو لحظة معينة، قد تكون لحظة سحرية أدخل فيها حالة العيش بكل أحاسيس القصة ومعانيها. ما تحتاجه هو لحظة يشبك فيها الاحساس مع الايقاع مع الموسيقى، لخلق جمال ومعنى للرقص الذي أقوم به. في أي عمر قلت لعائلتك انك تريدين ان تكوني راقصة؟ - قبل ان أتعلم الكلام كنت أرقص واعتادت عائلتي على ذلك، وحين أتى الوقت بدا الأمر بديهياً. ابتدأت الاحتراف عام تخرجي من الجامعة، وكان ذلك العام 1988. ولم يرض أبي ان أحترف قبل ذلك الوقت، كان يشترط عليّ أن أنهي دراستي أولاً. وكان محافظاً وما زال، وكنت في سنوات مراهقتي حين أُدعى الى سهرة أحضر باكراً وأساعد أصحاب الدعوة في تحضير الكراسي وترتيبها، ثم أعود تقريباً قبل بداية السهرة خوفاً من أن أتأخر، على رغم محافظته سمح لي أبي باختيار العمل الذي أحب: قال لي تعلمي أولاً وانهي دراستك ثم خذي مفتاح الحرية. هل تعطيك علاقتك مع جسدك والتحكم به شعوراً بثقة مطلقة، وسلطة في العلاقة مع الآخرين الذين قد لا يملكون علاقة مشابهة مع أجسادهم؟ - أسمع كثيراً الراقصين، وهم يتحدثون عن علاقة حميمة مع أجسادهم. لكن جسدي بالنسبة إلي هو آلة... وأحياناً أشعر ان هذه الآلة قاصرة عن اعطائي ما أريد، ان كان على المسرح او في الحياة. أحياناً أقول ان هذه "الماكنة" لا تلبيني. أشعر ان روحي أقوى من جسمي، وأحاول ان أروض تلك الآلة التي هي جسدي - وأهتم بها كالسيارة التي نهتم بها كي توصلنا الى عملنا كل يوم، وقد لا أكون راضية عنها تماماً وأرغب بسيارة اخرى لا أملكها. لكن الله وهبني ما لدي الآن وعلي الاعتناء به. تقولين ان الجسد آلة، والآلة تخدم لفترة معينة، هل ستتابعين الرقص ان شعرت ب"تقادم" هذه الآلة؟ - كل شيء يعتق، ربما الروح تبقى كما هي. لكن الجسد يشيخ وأنا سأموت مثل كل الناس. ونحن الآن نعيش في عصر الصوت والصورة، واذا لم تبق صورة الفنان قريبة من المشاهد، لن يتقبل المشاهد هذه الصورة. كيف تقدرين وأنت ترقصين على المسرح مدى تفاعل الجمهور معك، هل تعتمدين على التصفيق كمقياس؟ - أولاً لا أسمع التصفيق وأنا أرقص، ولا يرقص الحاضرون معي، لأنني أرقص على مسرح مرتفع عن المكان حيث يجلسون. لكن هناك خيط رفيع لا أستطيع تحديده يربطني بالجمهور، قد يكون حاسة سادسة تساعدني على معرفة تفاعله وفرحه بعملي. وحين أرقص أرى الناس ولا أراهم في الوقت نفسه. أكون في حالة انخطاف. أحياناً يصفقون لي ويقتربون مني، أبتسم لهم لكنني لا أعرفهم في تلك اللحظات على رغم انهم قد يكونون جيراناً لي او أصدقاء