هل نجح الذين نفذوا عمليات نيويورك وواشنطن في استدراج اميركا والدول المتحالفة معها في حربها على الارهاب الى الفخ الافغاني؟ وهل ستنحصر المواجهة في الميدان العسكري المباشر وفي الرقعة الجغرافية التي حددتها الولاياتالمتحدة في "المرحلة الاولى" من الحرب، أم ان ردود الفعل الانتقامية ستعيدها مجددا الى ساحات المدن وشوارعها؟ تتزايد مع استمرار العمليات العسكرية في افغانستان وتطورها، المخاوف من نتائج هذه المعركة وانعكاساتها على منطقة الشرق الاوسط، خصوصا العالم العربي. ويسهم التعتيم المقصود على سير العمليات وانتقاء الاهداف ومراحل القتال المقبلة في تصعيد أجواء التوجس السائدة في صفوف "المتفرجين" من دول وشعوب، من ان تكون خطة "الحرب على الارهاب" أوسع مما كشف عنها حتى الان، فتشمل "تدجين" المطالبين بحقوقهم والمدافعين عن قضاياهم بمقاومة الاحتلالات ورفض الامر الواقع ومنطق القوة وشهادات "حسن السلوك". ويعكس تحذير وزراء خارجية دول منظمة المؤتمر الاسلامي من استهداف الحرب دولا عربية واسلامية اخرى بعد افغانستان بذريعة الارهاب أجواء القلق هذه - على رغم الاجماع على ضرورة محاربة هذه الظاهرة- والخوف من احتمال ان تتطاير شرارات الحرب لتطاول دول الجوار، وبعضها يعاني من هشاشة أوضاعه، مثل باكستان التي بدأت تظهر فيها بوادر اضطراب وتوتر داخلي قد تؤدي الى زعزعة استقرارها لفترة طويلة. ويفاقم جو الريبة ان الحسم العسكري للمعركة مع الارهاب قد يطول سنوات وسنوات وقد يكون مكلفا جدا للمنطقة والعالم، ويخشى ان تزيد الحرب من تعقيدات اوضاع معقدة اصلا، فتكون لها تداعيات سياسية واقتصادية في دول الجوار، وان يخلق ذلك انقسامات تتطور الى مواجهات محلية. ثم ان التفكير في مستقبل افغانستان وتركيبة الحكم فيها معضلة مضنية تتطلب حلولا مركبة لا يسهل ايجادها، فالافغانيون معروفون برفضهم كل احتلال ومعاداتهم كل من يصل الى الحكم على ظهر دبابة اجنبية، وهم اثبتوا ذلك عبر تاريخهم، واخيرا مع دمى الاتحاد السوفياتي السابق وعملائه وقواته، وسيقارعون بالتأكيد مستقبلا أي سلطة تفتقر الى القدرة على تمثيل مختلف مكونات التركيبة الأفغانية حتى ولو حظيت بدعم اقليمي ودولي. من هم المحاصرون حقاً الآن؟ هل هي حركة "طالبان" وتنظيم "القاعدة" أم الولاياتالمتحدة؟ صحيح أن من حق أميركا الرد على الهجمات التي دمرت مركز التجارة العالمي وجانباً من مبنى وزارة الدفاع البنتاغون. ولكن هل جاء ردها كما يقتضي الحال؟ أم أنها تصرفت بالطريقة التي استدرجتها اليها حركة "طالبان" وأسامة بن لادن؟ والسؤال الأهم في هذا الوقت: ما هي الكلفة المالية لقرار واشنطن خوض الحرب ضد الارهاب؟ صحيح أن حشد القوات وتحريكها، وتوجيه الأساطيل والطائرات تكلف شيئاً مماثلاً لما يتكلفه تحريكها للقيام بمناورات مع الجيوش الصديقة في أي مكان في العالم. وصحيح أن دعوة الاحتياط للقيام بمهمات الحراسة الامنية في المطارات والدواوين الحكومية لها تبعتها المالية. غير أن المشكلات التي يواجهها فريق كرة قدم من الدرجة الأولى حين يقرر منازلة فريق يتبع لمدرسة ثانوية أو متوسطة أمر مختلف تماماً! لقد أدت الحرب العالمية الثانية الى وضع حد للركود الاقتصادي الكبير الذي واجهته الولاياتالمتحدة. وتحولت هذه الأخيرة الى "ترسانة للديموقراطية" تزود بريطانيا واليابان السفن والطائرات والمواد الغذائية. وحين اضطرت الولاياتالمتحدة لخوض الحرب بلغت الصناعات الحربية أوج ازدهارها، واشتد الطلب على العمالة الى درجة أن النساء عملن في أقسام "اللحام" في الورش الحربية الكبيرة. وجاءت حرب فيتنام التي تضرر منها الإقتصاد الأميركي، وتضخم بسببها عجز الموازنة. غير أن الحضارة الغربية الأميركية واصلت إزدهارها. أما الحرب ضد "القاعدة" و"طالبان" فهي شيء مختلف. فقد هبط مؤشر داو جونز الصناعي من نحو 11 ألفاً الى 9 آلاف نقطة، وانحدر لفترة قصيرة الى 8500 نقطة، وهو رقم يقول خبراء سوق المال الاميركية إنه يكاد يعادل قيمة عائداتهم. وتدنت عائدات الصناعات الكبيرة كالطيران والسياحة. فقد بات الاميركيون في خوف من السفر الى الخارج. وغدا السياح أشد خوفاً من شد الرحال الى نيويورك أو واشنطن أو لاس فيغاس. وخلال الاسابيع التي أعقبت هجمات 11 أيلول سبتمبر الماضي بلغ عدد العاطلين الذين تم تسريحهم من وظائفهم في الآونة الاخيرة نحو 250 ألفاً. وحين يذهب المرء اليوم الى أي من متاجر واشنطن الكبيرة سيجد ان موظفيها أكثر من المستهلكين! وبالطبع حين تنخفض المبيعات في كل القطاعات الاستهلاكية فإن الضرائب التي تقوم الحكومة الاتحادية بجبايتها تتضاءل، مما ينعكس سلباً على موازنات البلديات والولايات. لقد تكهن الرئيس جورج دبليو بوش بأن فائض الموازنة سيصل الى 116 بليون دولار على رغم التخفيضات الضرائبية التي أعلنها. غير أن وزارة الخزانة أعلنت من جانبها أن الموازنة الاميركية ستواجه عجزاً يبلغ 8 بلايين دولار. ولكن السؤال الأكثر أهمية في شأن التوقعات الاقتصادية بعد بدء الحرب على الارهاب هو: هل يمكن أن يحصل ركود في الاقتصاد العالمي لمجرد أن متطرفين قاموا بتدمير مركز التجارة العالمي؟ نعم. تأتي الإجابة من محللين متخصصين في أداء وزارة الخزانة تحدثت إليهما "الوسط" في واشنطن. وذكرا أن الانحدار الذي تشهده الصناعات الكبيرة ليس سوى أبرز المؤشرات الى الركود الداهم. هذه الحرب - يقول الرئيس بوش - ستكون عسكرية وديبلوماسية وإقتصادية. أي أن التساؤلات المتعلقة بها لا يجب أن تقتصر على الإقتصاد وحده. فهي، من حيث التحالف الذي أفرزته، والإصطفاف الدولي الذي أوجدته، تشي بأنها ستتمخض عن نظام عالمي جديد، تماماً مثلما حدث إثر حرب تحرير الكويت. وإذا كان هدف بوش المعلن هو محو تنظيم "القاعدة" والتنظيمات المماثلة له في الجزائر ومصر وإقليم الباسك وكورسيكا، وهو ما يبدو الرئيس الأميركي واثقاً من إمكان تحقيقه، فإن التقارير السرية الصادرة عن وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية سي.آي.اي لا تنبئ عن القدر نفسه من الثقة. فقد أعرب أحد تلك التقارير عن مخاوف من أن يؤدي استمرار التحسن في المستويات المعيشية لمعظم شعوب العالم الى تحسن مماثل في المستويات التعليمية، بحيث يمكن لمئة سنغافوري تلقوا تعليماً جيداً أن يظهروا للعالم أن الارهاب على غرار هجمات 11 أيلول أضحى شيئاً من الماضي! وتثار في مجتمعات السياسة الاميركية أحاديث حول مضمون الرسالة التلفزيونية التي وجهها أسامة بن لادن من خلال شريط الفيديو الذي بثته قناة "الجزيرة" في قطر، خصوصاً تعهده ألا تنعم الولاياتالمتحدة بالأمن ما لم تنعم به فلسطين. هل سيؤدي هذا الخطب الكبير الذي يشهده العالم الى تغيير في فلسطين؟ سؤال تصعب الإجابة عنه على رغم المؤشرات الصادرة عن البيت الأبيض في هذا الشأن. فقد تحدث الرئيس بوش عن "الدولة الفلسطينية". وقبل أن ينقضي اسبوع أعلن أنه اتفق مع المستشار الالماني غيرهارد شرويدر على تطبيق خطة السناتور السابق جورج ميتشيل. تحدثت "الوسط" في هذا الشأن الى كل من غراهام فولر الخبير الجمهوري المحافظ في شؤون الشرق الأوسط، وروبرت مالي الذي عمل مستشاراً لإدارة كلينتون في شؤون المنطقة العربية، وإدوارد أبينغتون القنصل العام الأميركي السابق في القدسالمحتلة. فأجمعوا على القول إن إحتمالات حدوث تغيير في مواقف إدارة بوش تجاه الشرق الأوسط ستبقى ضئيلة للغاية ما دامت الهيمنة على وضع سياسات الإدارة بيد نائب الرئيس ديك تشيني ومستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي كوندوليزا رايس ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه "الصهيوني" المتعصب بول ولفويتز. ولم يبد الخبراء الثلاثة حماساً يذكر للتوقعات في شأن إمكان سيطرة الحزب الديموقراطي على غالبية مقاعد الكونغرس من خلال الانتخابات التشريعية التي من المقرر إجراؤها العام المقبل. وقالوا إن أملهم معقود فحسب على النفوذ الذي يمكن أن يمارسه على الادارة الرئيس الأسبق جورج بوش الاب، ووزير خارجيته جيمس بيكر، ووزير الخارجية الحالي كولن باول، ونائبه ريتشارد آرميتاج. وعلى رغم مظهر التحالف على الصعيد الدولي، إلا أن دولاً غربية عدة سعت الى مطالبة واشنطن - من خلال إتصالات مع وزير الخارجية باول الذي يوصف بالإعتدال - بتقديم مكافآت حقيقية للدول العربية والإسلامية التي سارعت الى التعاطف مع الضحايا الأميركيين وأيدت مساعدة الولاياتالمتحدة في حربها على الارهاب، "حتى لا تبدو تلك الدول كأنها تخضع للامبريالية الاميركية" حسبما ذكر سفير دولة أوروبية غربية في واشنطن ل "الوسط". وقال إنه أبلغ باول بأن فرض العقوبات وشن الغارات الجوية على العراق جعلا الرئيس صدام حسين يكسب الحرب الدعائية التي يشنها على الولاياتالمتحدة والغرب إجمالاً، ولذلك فإن إستبدال نظام "طالبان" بنظام يقوم على الإئتلاف الشمالي الذي يضم الاوزبك والطاجيك سيؤدي الى قيام نظام يهيمن عليه أمراء حرب، بل قد يشجع ظهور "طالبان" جدد داخل باكستان، لن يضيرهم شيء في إعلان حرب على الهند بكل ما يعنيه ذلك من دمار وأسلحة نووية ومجاعات وقتل. ولكن هل يعرف الأميركيون الى أي مدى تبلغ كراهية الآخرين لهم؟ تتطلب الإجابة عن هذا السؤال توجيه سؤال آخر: هل الأميركيون جميعاً يؤيدون السياسة الحربية الراهنة التي تنفذها حكومة بلادهم؟ نعم ولا! تشير نتائج إستطلاعات الرأي الى أن 80 في المئة من الأميركيين يؤيدون شن الحرب على الإرهاب. غير أن الأرقام التفصيلية تكشف عن مفارقات مذهلة، إذ إن 93 في المئة من تلك النسبة توجد في الريف الجنوبي الاميركي، لكنها تتدنى الى نحو 60 في المئة من سكان نيويورك، المدينة التي استهدفها بن لادن أكثر مما عداها. بل تتدنى النسبة الى ما دون 50 في المئة من سكان واشنطن التي استهدفها بن لادن والتي تصل نسبة السود فيها الى أكثر من 60 في المئة من مجموع السكان. ومن الواضح أن ذلك السند الشعبي لخوض الحرب سيتضاءل بشكل مثير في حال تنفيذ بن لادن وتهديده بالانتقام من الضربات التي تتعرض لها أفغانستان. يدرك الأميركيون منذ العام 1964 أن الآخرين يكرهونهم، فهم الأقوى والأكبر والمستعد للحرب حين يفشل التفاهم في تحقيق المآرب المنشودة. فقد قال مرشح الحزب الجمهوري آنذاك باري غولدووتر: "نحن نملك الحق في أن نجبر الآخرين على إحترامنا ولهم الحق في أن يكرهوننا". لكن الكراهية ليست المشكلة التي تثير قلق المثقفين والنخبة الاميركية المتعلمة في الوقت الحاضر. بل تثير قلقها مخاوفها من أن تسفر الحرب على الارهاب عن تآكل الحريات المدنية التي تفتخر بها أميركا منذ أكثر من 100 عام: حرية الصحافة، إباحة التنصت على الهواتف من دون الحصول على إذن من القضاء، إعتقال المشبوهين من دون توجيه إتهامات جنائية، منح قوات الامن حق إبقاء المعتقلين قيد التحفظ ورفض إطلاقهم بكفالة مالية ريثما يحين موعد مثولهم أمام القضاء. هل ستتحول أميركا دولة بوليسية؟ يقول البروفسور نعوم تشومسكي المثقف الاميركي الذي تحظى مؤلفاته بإقبال منقطع النظير في العالم كله: "سيكون ذلك إنتصاراً لبن لادن وحركة "طالبان". سيكونون قد أقنعوننا بأن نهبط معهم الى الحضيض". غير أن ذلك كله لا يساوي شيئاً إزاء سيناريوهات الرعب التي يتوقع الاميركيون حدوثها في سياق رد "الارهابيين" على الحرب الاميركية المعلنة عليهم. ثمة رعب حقيقي في الشارع الأميركي من أن تأتي الضربة المقبلة من خلال جرثومة "الجمرة الخبيثة" الانثراكس. كل الاميركيين تحدثوا عن الطاعون الذي قضى على نصف عدد سكان لندن كما تقول كتب التاريخ. كثيرون تساؤلوا هل يتم هجوم بجرثومة "الجدري الكاذب"؟ أو ميكروب "الحمى القلاعية"؟ والأشد رعباً خشيتهم من هجوم إنتحاري يستهدف مصافي تكرير النفط ومولدات الطاقة الكهربائية التي تعمل بالوقود النووي. ولكن ... ما العمل مع بن لادن؟ وهل من الأفضل القبض عليه حياً أم ميتاً؟ تقول مصادر وكالةال"سي.آي.اي" إن الحل الأفضل بنظرها أن تقوم حركة "طالبان" بمحاكمته محلياً. إنه حل سيجنبها على الأقل عداوة دول الجوار وبلدان العالم الإسلامي. وهو أيضاً كفيل بتهدئة ثائرة الأميركيين والدول الغربية. وتضيف أن الحل الثاني يتمثل في تشجيع مقاتلي التحالف الشمالي الأفغاني المعارض على إغتيال بن لادن. وترى أن أسوأ الحلول يتمثل في إختطاف بن لادن ونقله حياً للمحاكمة أمام عدسات التلفزة والصحافة. وتكهنت بأن بن لادن سيكون الرابح في مثل هذه الحال، إذ بوسعه أن يعلن رفضه شرعية المحاكمة ويلتزم الصمت. كما أن المحاكمة ستمنحه فرصة تاريخية لتوجيه ما يشاء من الإنتقادات المدمرة للحضارة الغربية في عقر دارها.