في هذه الحلقة يتحدث الدكتور جورج حبش الأمين العام ل "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" عن محطتين حارتين في مسيرة الثورة الفلسطينية هما عمانوبيروت. ويقول بصراحة كاملة ان "الجبهة الشعبية" لم تتوقع غزواً اسرائيلياً بهذا الحجم للبنان في 1982 ويتحدث بالصراحة نفسها عن قرار الخروج من بيروت المحاصرة والظروف التي أملته، كما يتحدث عن علاقته بالرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. وهنا نص الحلقة الثانية: كان عبدالناصر بين الذين دفعوا في اتجاه تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، لماذا لم تكن حركة القوميين العرب، على رغم علاقتها بعبد الناصر جزءاً اساسياً من قيادة المنظمة؟ - نحن لم نكن ضد عملية تأسيس منظمة التحرير، وفي الوقت نفسه لا استطيع القول اننا رحبنا او تحمسنا لهذا الموضوع. لماذا؟ لأننا لم نكن راغبين في القول لجماهيرنا وشعبنا ان منظمة التحرير هي طريق تحرير فلسطين. هل يعني ذلك انكم كنتم تنظرون الى المنظمة باعتبارها جزءاً من النظام الرسمي العربي في تلك الفترة؟ - نعم كنا ننظر اليها كذلك، مع الأخذ في الاعتبار ان هذا الجزء من النظام العربي وطني وليس رجعياً او مرتبطاً بالغرب. اضافة الى اننا كنا ندرك ان عبدالناصر له تأثير كبير على قيادة المنظمة وبالتالي نطمئن الى انها لن تكون خارج النسق الوطني والقومي. وفي المناسبة نحن كحركة قوميين عرب شاركنا في مؤسسات المنظمة منذ عقد المؤتمر التأسيسي الفلسطيني الأول. وكانت مشاركتنا ممثلة بوديع حداد وأبو ماهر اليماني. وكذلك كان لنا وجود في الجسم العسكري للمنظمة، وكان هناك تنسيق بين الرفاق المشرفين على العمل العسكري داخل الأرض المحتلة وبعض المسؤولين العسكريين في قيادة جيش التحرير الفلسطيني. كما اننا ارسلنا بعض الكوادر من الحركة لتلقي تدريبات عسكرية من خلال بعثات جيش التحرير. في هذه الفترة كانت الساحة الفلسطينية تشهد صراعاً غير منظور ما بين احمد الشقيري والمنظمة من جهة، وحركة "فتح" من جهة ثانية. وكانت "فتح" تطرح حرب الشعب والمجموعات الفدائية، واعتقد انها حققت نجاحاً في هذا الموضوع بعد حرب 1967، إذ استطاع ابو عمار التقاط اللحظة المناسبة والسيطرة على منظمة التحرير بمساعدة عبدالناصر، وبعض الدول العربية التي كانت ل "فتح" علاقة جيدة بها في تلك الفترة، واستفاد أبو عمار بالطبع من الخلافات التي انفجرت بين عبدالناصر والشقيري خصوصاً بعد مؤتمر الخرطوم. ولادة "فتح" في تلك الفترة ظهرت على سطح الحياة السياسية الفلسطينية حركة "فتح" بوصفها حركة كفاح مسلح شعبية، كيف نظرتم الى صعود "فتح" في تلك الفترة؟ - الحقيقة اننا قوّمنا صعود حركة "فتح" باعتبارها حركة تدعمها القوى المحافظة بهدف مواجهة نفوذ عبدالناصر المتصاعد على الصعيد القومي وعلى صعيد القضية الفلسطينية، خصوصاً انها ركزت على البعد القطري في سياساتها. لكننا، بصدق، كنا نرى الى المجموعات التي اسستها حركة "فتح" مجموعات وطنية متحمسة الى قتال اسرائيل وممارسة الكفاح المسلح. وانطلاقاً من هذه الرؤية وهذا الموقف اجريت اتصالات عام 1966 مع الأخ هاني الحسن وبعض قيادات "فتح" للعمل على تشكيل جبهة وطنية عريضة على شاكلة جبهة التحرير الجزائرية لكن "فتح" لم تستجب هذا الطلب، لذلك شكلنا "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" من جبهات ومنظمات مسلحة عدة بعد هزيمة العام 67 مباشرة، ومن دون مشاركة "فتح". هل تركت العلاقة بين عبدالناصر و"فتح" أثراً سلبياً عليكم؟ - في البداية لم تترك العلاقة بين عبدالناصر و"فتح" أي أثر سلبي على علاقتنا بعبدالناصر، ولكن بعد العام 1967 توترت علاقتنا معه، على اثر تدخل المخابرات المصرية وقيامها بالكثير من التحالفات لضرب تحالفنا مع عبدالناصر، إذ شوّهت البرنامج الذي كتبتُه عن استراتيجية العمل الوطني والقومي وقدمته الى عبدالناصر مشوهاً مما أثار لديه رد فعل سلبي ووتر علاقتنا به. والتشويه الذي افتعلته المخابرات صورنا قوى متطرفة لا بل مغالية في تطرفها. واستمرت علاقتنا به متوترة حتى منتصف العام 1970 حين جرى تصحيحها، واتفقنا على كثير من القضايا لكن وفاته حالت دون تنفيذها. بصراحة هل كان لديك احساس بأن حرب 1967 ستؤدي الى هذه النكسة في تاريخ العرب المعاصر؟ - لم أكن، ويا للأسف، أتوقع ان تكون نتائج حرب 1967 بهذا الشكل، كان لديّ احساس بوجود مشكلة في العمل القومي العربي، ولم يكن في ذهني ان يهزم نظام عبدالناصر هزيمة كبرى وشاملة. يوم سقوط القدس بكى جورج حبش. هل كان لسقوط القدس واحتلال اسرائيل فلسطين كاملة اثر في انتقالك من العمل القومي الى العمل الوطني الفلسطيني؟ - يوم سقوط القدس كان من الأيام المرة في حياتي، يومها بكيت لأن الهزيمة زلزلت اركان الأمة العربية كلياً وأحدثت صدمة واسعة. وبفعل نتائج النكسة الهائلة بدأت التركيز على العمل الوطني الفلسطيني بشكل مباشر، من دون ان تنفك علاقتي بالعمل القومي. واسمح لي هنا بأن اوضح مسألة رئيسية وهي اننا كحركة قوميين عرب أخذ العمل الفلسطيني لدينا مكانة رئيسية منذ العام 1961 حين بدأنا الاعداد للعمل الفدائي المسلح. وعلى رغم هذا التحول الذي تركته هزيمة 1967 لم يتراجع اهتمامي بالعمل القومي العربي لأنه عميق في ذهني وفي رؤيتي السياسية وفي تفاعلاتي مع الواقع القومي والفكر القومي. بعد العام 1967 اصبحت زعيماً ل "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"؟ - أريد أن أصحح هنا بعض الوقائع. عندما أسسنا الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لم اكن انا زعيمها بل كنت احد قادتها، كان معي الرفيق احمد جبريل وقادة آخرون. والفكرة التي كانت لديّ في تلك الفترة تتلخص في إنشاء جبهة وطنية عريضة على طراز جبهة التحرير الجزائرية. لكن حركة "فتح" رفضت ان تشكل معنا مثل هذه الجبهة، وهذا ما دفعنا الى تشكيل جبهة من أربع أو خمس قوى كانت موجودة في تلك الفترة وهي التي شكلت الجبهة الشعبية. وأهم هذه القوى "شباب الثأر" و"ابطال العودة" و"جبهة التحرير الفلسطينية". لكن الجبهة الشعبية بدأت بعد 1967 مباشرة بممارسة الكفاح المسلح عبر جبهة الأردن وسورية ومن داخل الأرض المحتلة، هل يعني هذا انه كان لديكم في حركة القوميين العرب جناح خاص بالعمل الفدائي؟ - نعم كان لدينا جناح خاص بالعمل الفدائي، وكان الرفيق وديع حداد يشرف عليه، واعتقد ان سبب اعتقالي في سورية عام 1968 كان ممارسة العمل المسلح عبر الجبهة السورية، وليس كما حاول بعضهم ان يصور اني كنت أعد للقيام بانقلاب في سورية، فالسلاح الذي كنا نخزنه في سورية كان هدفه توفير الامداد الخلفي للعمل المسلح عبر اراضيها. في ربيع 1968 وقعت معركة الكرامة التي مثلت باكورة المواجهة المباشرة بين المقاومة الفلسطينية والجيش الاسرائيلي، ما هي حقيقة واقعة الكرامة ودور الجبهة فيها؟ كيف قوّمت هذه المعركة؟ - عندما وقعت معركة الكرامة كنت معتقلاً في سورية، ولم اكن شاهداً حياً عليها، مع ذلك فإنني اعتبرتها بمثابة دفعة معنوية للعمل الوطني الفلسطيني في الرد على هزيمة 1967. اسلوب أبو عمار ابو عمار شريك في مسيرة ربع قرن من النضال والكفاح، اتفقت معه واختلفت، متى التقيته للمرة الأولى وما هو الانطباع الذي تركه لديك هذا اللقاء؟ - في الحقيقة علاقتي بحركة "فتح" لم تكن في البداية مع أبو عمار، بل كانت مع الأخ هاني الحسن، وكان أول لقاء لي مع ياسر عرفات بعد العام 67، والانطباع الذي تركه لقاؤنا الأول وما تلاه من لقاءات ان ابو عمار يفكر في شخصه اكثر مما يفكر في شعبه. ومنذ تلك الفترة استطيع ان أقول: كان أبو عمار يرغب على الدوام في تشكيل هالة كبيرة لنفسه، ولا يسمح لأحد بمنافسته سواء من داخل "فتح" أو من الفصائل، وكانت هذه المعادلة تحكم الكثير من تصرفاته ومواقفه السياسية. وسأروي لك حادثة وقعت ونحن في الأردن: في العام 1970 كانت هناك دعوة لكل المنظمات الفلسطينية الى تطويق الأحداث التي وقعت بين الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية، وكان الاجتماع في هيئة الاركان، وحضر عن الطرف الأردني الضابط الوطني مشهور حديثه، وشارك فيه الأخ صالح مهدي عماش عن العراق الذي كان يتوسط بيننا وبين السلطة الأردنية، ولم أكن انا حاضراً، فيما حضر عرفات. وفي بدايته سأل مشهور حديثه "لماذا لم يحضر جورج حبش؟ اذ لم يكن حاضراً وموافقاً على ما سنتوصل اليه فإن التوتر سيستمر". وأصر على حضوري. وبالفعل جاءني الأخ صالح عماش وكانت علاقتي به طيبة. وبعد الحاحه عليّ وافقت على الذهاب معه الى الاجتماع، ولدى وصولي وقف مشهور حديثه قائلاً: الآن بحضور الدكتور جورج حبش نستطيع حل الموضوع، عندها انفعل أبو عمار وقال: "انا معترض ماذا أفعل أنا هنا"؟ عندها تداركت الموقف لئلا يبدو ان ثمة انقساماً في صفوف المقاومة، وقلت نحن قيادة جماعية والقرار يتخذ بموافقة الجميع، والأخ أبو عمار مكانته محفوظة... عندها هدأ عرفات واستكملنا الاجتماع. أوردت لك هذه الواقعة رداً على سؤالك حول انطباعي عن أبو عمار منذ البداية. واعتقد ان هذه الخاصية الشخصية ما زالت لديه وربما تضخمت أكثر فأكثر. حقبة الأردن لا بد من الوقوف امامها بجرأة وامانة وموضوعية حتى تقولوا ما لكم وما عليكم؟ بداية نتساءل هل كنتم تشعرون بوجود مجموعة من التناقضات التي تتراكم باستمرار مع الحكومة الأردنية؟ - نعم كنا نشعر بوجود مثل هذه التناقضات التي يجري احياناً تكبيرها وتضخيمها، ولكن اسمح لي بأن اوضح مسألة اساسية ومهمة جداً جداً تتعلق بالصراع الذي نشب مع الحكومة الأردنية. اعتقد اننا ظلمنا فيه كثيراً، فنحن لم يكن في واردنا اطلاقاً فتح معركة مزدوجة مع العدو الصهيوني والنظام في الأردن، لأننا كنا ندرك تبعات هذه المعركة المزدوجة، اذ كنا نعتبر ان معركتنا الأساسية هي مع العدو الصهيوني وليس مع النظام، مع انتباهنا الى التحضيرات والمخططات التي كانت تحوكها لنا قوى عربية معروفة المواقف. وكي أكون اميناً أقول: نحن لم نرفع شعار إسقاط النظام في الأردن إلا بعد معارك ايلول الدامية. وقعت جولات من الصراع والمعارك خلفت مئات الضحايا من الجانبين قبل ايلول 1970، فعلى أي ارضية اذاً نشبت المعارك بين المقاوة والحكومة الأردنية؟ - جولات الصراع التي سبقت ايلول الأسود كانت مفروضة علينا. وفي معظم جولات الصراع التي دارت، كنا في موقع الدفاع عن النفس. وعلى ما أذكر ان اولى جولات الصراع بدأت عام 1968 عندما وضعت الحكومة الأردنية بعض الوحدات الخاصة في منطقة الكرامة في محاولة للحد من نشاط المقاومة الفلسطينية وحركتها. وكان المقصود من تلك الحركة توجيه رسالة من قبل الحكومة الأردنية الى المقاومة أن السلطة الأردنية موجودة وقوية. اما الاشتباك الأول فكان في 4/11/1968 في عمان اذ ادعت الحكومة الأردنية في بيان اصدرته وزارة الداخلية وجود تنظيم مسلح خارج عن القانون يقوده شخص يدعى طاهر دبلان يقوم بتحرشات وأعمال اعتداء على الناس، ولهذا السبب تقوم قوات الأمن باجراءات امنية لردع هذه الحركة ومنعها من التطاول على أمن الوطن والمواطنين. وفجأة بدأت قوات البادية بقطع الطرق المؤدية الى مخيم الوحدات ومحاصرته، وبدأت باطلاق النار على عموم المخيم وبخاصة مكاتب المنظمات الفلسطينية داخل المخيم مسنودة بقصف مدفعي من منطقة القويسمة. والحقيقة انه لم يكن لطاهر دبلان ومجموعاته اي وجود في مخيم الوحدات. وهو في الأساس رجل في موقع غير معروف. والمستغرب ان حركة "فتح" اصدرت بياناً تؤيد فيه بيان وزارة الداخلية، واعتبرت ان العمل الذي تقوم به السلطة الأردنية عملاً مشروعاً. ولهذا لم تشارك "فتح" في هذه المعركة ولم تدافع عن مخيم الوحدات. وهكذا تحملت الجبهة الشعبية مسؤولية مواجهة القوات المهاجمة على رغم تواضع امكاناتها العسكرية في مخيم الوحدات. وفي ذلك الوقت كنا نرى ان هدف المعارك الأساسي هو ضرب النشاطات الجماهيرية المتصاعدة في تشكيل تنظيمات الميليشيا الشعبية. والحقيقة ان الجماهير التي خرجت للتصدي للقوات المهاجمة هي التي حسمت المعركة ونجحت في منع دخول القوات المهاجمة الى المخيم. وفي اليوم نفسه تعرضت سيارة تابعة للجبهة لمكمن في منطقة جسر المحطة، وهي منطقة تقع خارج دائرة الاشتباكات، أسفر عن استشهاد ثلاثة من رفاقنا، منهم الملازم رفيق سرور عبدالسلام. اما الجولة الثانية من الصراع فكانت في تاريخ 10/2/1970 بعد اعلان الحكومة الأردنية بياناً رسمياً، يقيد تنقلات المقاومة ويحد من وجودها داخل المدن من دون البحث في ذلك البيان مع المقاومة. ونشبت المعركة في منطقة جبل التاج، وكانت بدايتها عندما توجه عدد من رجال الأمن الأردني مع سيارات مسلحة ودهموا مكاتب "فتح" و"الصاعقة" والجبهة وتحولت عملية الدهم الى اشتباك مسلح تبعته عمليات استفزازية في اكثر من موقع، وعمليات لسحب السلاح. واستشهد في تلك الحوادث في مكمن رفيقانا شحادة العجرمي و"أبو طلعت". وبعد توقف الاشتباكات، طالبت الحكومة الأردنية باجراء محادثات لتطبيق بيانها، وجرى الاتفاق لاحقاً على بعض القضايا الاجرائية لمنع حدوث اي اشتباك او السيطرة عليه اذا وقع. ونظرنا نحن الى الاتفاق مع الحكومة الأردنية التي كان يرأسها بهجت التلهوني على انه اتفاق اجرائي، لأن الحكومة الأردنية لم تكن صاحبة قرار، وان الجهات المقررة في الأردن لديها نيات تصعيد واضحة باتجاه الاشتباك مع المقاومة. وتزامن ذلك مع قيام عمليات تحريض واسعة داخل المؤسسة العسكرية والأمنية وفي الاطار العشائري. عند هذه النقطة بدا من الواضح ان الحكومة الأردنية تعمل لحسم مسألة ازدواجية السلطة التي تمثلت بسلطة المقاومة الشعبية، وسلطة الحكومة الامنية والعسكرية. وبدا ذلك واضحاً من خلال احداث السابع من حزيران يونيو 1970 التي كانت اكثر اتساعاً وشمولاً من احداث شباط فبراير. إذ من دون مقدمات بدأ قصف مدفعي شديد من منطقة سحاب والقويسمة والاذاعة على مخيم الوحدات. وهنا اندفع الناس لمواجهة المعركة اعتقاداً منهم ان معركة الحسم قد بدأت مع السلطة. وبعد اندلاع المعارك اجتمعت قيادة الجبهة وقررت اقتحام كل من فندق فيلادلفيا والأردن "انتركونتيننتال" واحتجاز رهائن في داخلهما. وركزنا في الوقت نفسه مدفعية في كل من الأشرفية والجوفة في مواجهة قوات الحراسة التابعة للقصور الملكية على رغم التواضع الشديد لامكانات سلاح المدفعية لدينا. احتجاز الرهائن في عمان في سياق حديثكم عن احتلال فندقي "فيلادلفيا" و"انتركونتيننتال" ماذا تذكرون عن تلك الحادثة وهل كانت في موقعها الصحيح؟ - بالنسبة الى عمليات احتلال الفنادق واحتجاز رهائن داخلها، كان خيارنا في تلك اللحظة خياراً صعباً جداً، نظراً الى طبيعة الهجمة الشرسة التي كانت تتعرض لها ثورتنا ومخيماتنا وجماهيرنا في الأردن. وكان لا بد من ايجاد الوسيلة الناجعة للضغط على السلطات الأردنية واجبارها على وقف هجومها. وبالفعل نجحنا في ما كنا نهدف اليه. وأذكر انني بعدما وصلت الى فندق "انتركونتيننتال" في الخامسة والنصف صباحاً التقيت الرهائن والصحافيين الموجودين فيه، وشرحت لهم الابعاد والملابسات للعملية التي اضطررنا الى القيام بها. وطلبت منهم ان يتفهموا واقعنا ودوافعنا، ومما قلته في ذلك اللقاء: "ربما كان من الصعب عليكم تفهم وجهة نظرنا، فالناس الذين يعيشون ظروفاً مختلفة يفكرون بطرق مختلفة، ولا يمكن ان يفكروا بالطريقة نفسها التي نفكر بها نحن. فالشعب الفلسطيني عاش لسنوات عدة ظروفاً حددت طريقة تفكيره وهذ أمر لا نستطيع ان نفعل اي شيء حياله. ان بامكانكم فهم طريقة تفكيرنا اذا عرفتم حقيقة اساسية، فنحن، الشعب الفلسطيني، نعيش منذ 22 عاماً - وهي الأعوام ال 22 الأخيرة - في المخيمات. لقد طردنا من بلادنا ومنازلنا واراضينا لنعيش هنا في مخيمات اللاجئين في ظل ظروف شديدة القسوة. ومنذ 22 عاماً وشعبنا ينتظر استعادة حقوقه، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل. منذ بدأت ثورتنا قبل ثلاث سنوات جرت محاولات عدة للقضاء عليها. وقامت المنظمات الفدائية بعد 5 حزيران، وهو تاريخ معروف جيداً لكم، وانطلقت وانظارها متجهة نحو الأراضي المحتلة. ولكن، عندما سارت الثورة راحت قوى عدة من اعدائنا تضع الخطط لتهزم هذه الثورة. اميركا تقف ضدنا، نحن نعرف ذلك جيداً ونحن نشعر به جيداً. شعرنا به من خلال مساعدات الفانتوم في العام الماضي، اميركا ضد ثورتنا وهي تعمل على سحق ثورتنا. وهنا شعرنا بأن لنا كل الحق في الوجود لحماية ثورتنا. تذكرنا كل مآسي شعبنا وكل الظلم. تذكرنا شعبنا والأوضاع التي يعيشها والبرودة التي ينظر بها الرأي العام الى قضيتنا. وشعرنا بأننا لا يمكن ان نسمح لهم بسحقنا. اننا سندافع عن انفسنا وعن ثورتنا بكل وسيلة، وكل ما يحمي ثورتنا حق. هذا هو خط تفكيرنا، ولهذا وضعنا خططاً مضادة مصممين على النصر. وكان أحد بنود هذه الخطة، انتم، ما حصل هنا، شعرنا بأن لنا الحق كله في الضغط على النظام وعلى اميركا والقوى كافة. وان هذ الضغط ورقة رابحة بأيدينا. انني احدثكم بكل صراحة ويجب ان اقول لكم بكل صراحة ايضاً اننا كنا مصممين ولم نكن نمزح. انني اعرف طريقة التفكير الليبيرالي، وأعرفها جيداً، اعرف كم هو صعب اقناعكم. أعرف أن بعضكم يقول لنفسه الآن: وما علاقتي بكل هذه الأوضاع؟ ان هذا غير عادل وفظ وأناني. لا بأس. ان الظروف التي يعيشها الناس تحدد طريقة تفكيرهم وشريعتهم الاخلاقية. حاولنا جهدنا، وآمل ان نكون نجحنا في ذلك، ان نكون عاملناكم افضل معاملة ممكنة خلال اقامتكم في الفندق تحت اشراف الجبهة. انها المرة الأولى التي ندير فيها فندقاً. وإنني واثق بأن رجالنا مقاتلون ممتازون لكنني لا أعرف الى اي مدى اتقنوا ادارة الفندق. كانت التعليمات واضحة جداً، وآمل ان يكونوا نجحوا في ذلك". في حقبة الأردن هل كان موضوع تبني الماركسية اللينينية مطروحاً جدياً داخل صفوف "الجبهة الشعبية"؟ - نعم كان موضوع الماركسية والموقف منها موضوعاً مهماً، شغل جانباً لا بأس به من حياة القوى السياسية الفلسطينية والعربية. وأذكر أنني كتبت في تلك الفترة الاستراتيجية السياسية والتنظيمية التي تضمنت موقفنا من الماركسية. وجوهر هذه الوثيقة اننا نسترشد بالماركسية كمنهج وأداة تحليل من دون الاستغراق الكلي في تفاصيل القضايا الماركسية اللينينية التي كانت تخص تفاصيل التجربة الروسية وبعض التجارب الأوروبية. نظرنا الى الماركسية باعتبارها نظرية علمية نسترشد بها، لكن هذا الاسترشاد مرهون بكيفية فهم النظرية وتالياً القدرة على تطبيقها على واقع معين ومرحلة معينة. فجوهر الماركسية هو المنهج التي تمثله في رؤية القضايا وتحليلها وتحديد اتجاه حركتها. وبالتالي فان فهمي للماركسية كان يقوم منذ الستينات على اساس انها دليل عمل مرتبط بعلاقة جدلية بالممارسة التي تغني النظرية وتجعلها في حالة نمو وإرتقاء، وليست في حالة جامدة. وعلى هذا الأساس فان الالتزام بالماركسية لا يقدم ولا يؤخر ما لم ينتج من هذا الالتزام استعمال هذه النظرية، وتطبيقها في فهم الواقع، واستخراج استراتيجية العمل التي تحدد طبيعة المرحلة وطبيعة المعركة، وتحديد القوى المتصارعة ورؤية هذا الصراع والاحاطة بالظروف الموضوعية التي تتحرك من خلالها. بهذا المعنى كنت افهم الماركسية. وأنا، كما تعرف، مطّلع على قضايا الفلسفة الماركسية وربما كانت فترة الاعتقال في سورية عام 1968 من أغزر الفترات التي قرأت فيها الماركسية وكان الكتاب الأهم الذي قرأته في كركون الشيخ حسن اسم السجن كتاب انغلز "ضد دوهرينغ".